الأيدولوجيا والفيلم مقدمة نظرية

قيس الزبيدي
أكاديمي ومخرج عراقي مقيم في سورية

الإيديولوجيا … والتعدد المفاهيمي

تؤكد المعارف المعاصرة على أن أي تصور ذهني للذات الإنسانية هي حالة من نشاط فكري، لا تبقى بمنأى عن الأيدولوجيا، على هذا علينا أن نتساءل، بداية، ماذا تعني حقا كلمة أو مصطلح ايدولوجيا؟
يتم تعريف الأيدولوجيا، في العام،  كنسق من الآراء والأفكار والنظريات السياسية والحقوقية والدينية والأخلاقية والجمالية والفلسفية. والأيدولوجيا، التي تتحدد بظروف حياة المجتمع المادية، على أساس من كونها جزءا من الوعي الاجتماعي وتعكس العلاقات الاجتماعية في المجتمع الطبقي وتتسم بطابعه.

هناك تعاريف عديدة لمفهوم الأيدولوجيا، نشأت في مراحل تاريخية/اجتماعية مختلفة، عبرت فيها عن طبيعة الصراع والتناقضات الطبقية والسياسية السائدة في المجتمع، عن أفكارها ومصالحها، مثلت، من جهة، قوى اجتماعية سائدة، كما مثلت، من جهة أخرى أفكاراً مضادة، لقوى اجتماعية أخرى، خضع وجودها الاجتماعي للنظام  السائد، وتطابقت أيديولوجيتها، بهذا القدر أو ذاك، مع متطلبات التطور الاجتماعي وانطوت على أفكار صحيحة عن الواقع. من هنا يأتي الصراع في ميدان الأيدولوجيا إنعكاساً طبيعياً لتضارب المصالح الطبقية، ويمثل، في الأساس، شكلا من أشكال صراعها الاجتماعي. على هذا، يبدو انه لا توجد أيدولوجيات لا تفترض وجود أيدولوجيات أخرى.
 
وضمن التعريفات التأسيسية لمفهوم الأيدولوجيا، الذي حافظ على أصل المفهوم ثم أضيفت إليه تكميلات، لا تتنافر معه كمفهوم، هو تعريف “ايتينا ميناريك، في كتاب “الخمسون كلمة المفتاح لعلم النفس الاجتماعي” حيث تُعرف الأيدولوجيا بكونها كل منظم لمجموعة من الأفكار والمعتقدات والفرضيات المشتركة المتعلقة بالمسببات والمبادئ المُشخصة لمختلف ظواهر الحياة الاجتماعية وتشمل كل وجهات النظر لفريق اجتماعي ولأفكار سياسية،  تؤسس، في مجموعها، قاعدة أيدولوجية لشكل دولة وتمثلها، أكانت غربية أو شرقية أو اشتراكية.
وفي الاتجاه العام نفسه يُعرّف ريمون بودون وفرانسوا بوريك الأيدولوجيا في قاموسهما التقني “المعجم النقدي في علم الاجتماع” كالتالي: نسق من القيم أو من المعتقدات التي لا تعني بالضرورة الإشارة الى مفاهيم وأفكار مقدسة أو ذات طبيعة متعالية، موضوعها التعامل، خاصة، مع التنظيم الاجتماعي والسياسي أو عامة مع صيرورتهما المشتركة في المجتمع.
 وفي المعجم العام للعلوم الإنسانية يعرفها “جورج تينيس واغنس لومبرو” كتبعية فكرية لموقف معين إزاء المجتمع وبها تصبح الأيدولوجيا تصورا ذهنيا محصورا لهذه التبعية الفكرية نفسها، باتجاه مختلف الأشكال الاجتماعية ويرى تعريفهما أصل المفهوم ووظيفته، متمثلين في نماذج نظرية مختلفة.
ويعطي اندريه لالاند في قاموسه تعريفين فلسفيين للأيدولوجيا، الأول: ضمن وظيفة اجتماعية عامة، تمارسها المؤسسات السياسية القائمة، بعيداً عن التعريف العام لجوهر المصطلح، تتجاوز وظيفته الأساسية الى وظيفة ملموسة، بحيث تصبح المعتقد الملهم، الذي يبدو وكأنه يُلهم أفكار حكومة ما أو حزب ما. والثاني: منبثق من الاستخدام الواسع لهذا المفهوم، من قبل مجموعة من الفلاسفة أو في فكر فيلسوف معين. ويرى أن الأيدولوجيا هي تفكير نظري يتطور ذاتياً على نحو تجريدي معتمداً على طاقاته الخالصة، لكنه يعبر في الواقع عن الفعاليات الاجتماعية، خصوصا تلك الفعاليات الاقتصادية، التي قد لا يعيها القائم ببناء الأيدولوجيا نفسها أولاً يعيها من لا يعرف، على الأقل، بان هذه الفعاليات هي التي تُحدد وتُعيّن أفكاره، وبهذا المعنى تستخدم الكلمة في الفكر الماركسي.

ومع ماركس اتخذ مفهوم الأيدولوجيا وجها لأهم عملية نقدية تحليلية في النظام الفكري الفلسفي، دون أن يغفل مرور هذا  بالمرحلة الماركسية التي شن فيها ماركس هجومه على الأيدولوجيا الألمانية واعتبرها وعياً خاطئاً. وتقدم مادلين غرافتس في قاموسها “معجم العلوم الاجتماعية” تلخيصا مكثفا لنقد ماركس للايدولوجيا والمراحل، التي تَحدد وفقها هذا المفهوم في فكره، ووجد فيه أسلوباً لتغطية وإخفاء المحركات الحقيقية للواقع والتاريخ، اخترعته، اقتصادياً ومالياً، الطبقات السائدة كبناء فوقي يحمي مكانتها ويصون نظامها السياسي.
ويمكن أن تمتلك الأيدولوجيات، في الوقت نفسه، دورا ايجابيا لان مضامينها الداخلية ليست وهماً أو استيهاماً مطلقاً، بل هي نتائج لبعض الحقائق الملموسة،  ولكنها مسخ وتُحرّف جزئياً الشروط التاريخية والاجتماعية لكل حقبة تاريخية . على هذا أصبح المفهوم النهائي يُعرفها، وفقا لمدرسة فرانكفورت، كمنظومة أفكار متناسقة تشترك عضوياً، لتبني نظرة وموقفاً متجانسيّن، الى كل من الكون والمجتمع وإلى كل مكونات الواقع العيني الملموس.
وعلى مستوى الفرد تكون منظومة أفكاره نتاجاً لإستراتيجية فردية، تحقق ذاته ضمن واقع اجتماعي موضوعي يتمخض عن حقبة تاريخية، يكون فيها الفرد مُجبراً بالضرورة، بوعي أو بغير وعي، على إدراج الواقع ضمن تكوين منظومته الفكرية، مع إدراج شروط الواقع الخارجي في مشروعه الذهني.

ويرى الدكتور محمد عابد الجابري أن الإنسان لا يكتسب مبادئه ومفاهيمه بشكل فطري أو غريزي، إنما يكتسبها نتيجة لاحتكاكه بمحيطه الطبيعي والاجتماعي والثقافي. من هنا تأتي أهمية خصوصية المحيط في تشكيل خصوصية الفكر من جملة من المبادئ والمفاهيم والآليات التي تترسخ في ذهنه، منذ بداية تفتحه على الحياة، لتشكل فيما بعد عقله، الذي يفكر بوساطته، ويكوّن جهازه، الذي يفهم ويؤول ويحاكم ويخالف. ولا جدال في إن الفنان يعبر في الإعمال التي يؤلفها عن أفكاره الخاصة وأحاسيسه الذاتية وعن كل غزارة حياته الروحية الشخصية. وبهذا المعنى فان إبداعه هو دائما تعبير ذات ولكن المجتمع بالذات لا يوجد فقط حول الفنان بل وفي داخله. وإذ يعبر الفنان عن الذاتي فهو يعبر في نفس الوقت عن قيمة الموضوعي الاجتماعية.
إن معرفة الفنان للحياة التي تلعب دورا هاما في نشاط العالم لا تعطي وحدها الشيء الجوهري، لأنه بحاجة إلى ذلك التلاحم بين المعرفة والتقويم بين الذاتي والموضوعي. لان الفنان يشكل، بقوة تصعيده الذاتي، في عمق الأشياء، بناء وحدة جديدة من عمق الذاتي وعمق الموضوعي.
وتبقى المهمة التي يواجهها الفكر، ليست في فهم العالم والمجتمع، إنما في محاولته السيطرة اكثر فاكثر على مقبض الماكينة الاجتماعية، التي تتحكم في وجوده وتقرر مصيره، وذلك عن طريق المساهمة في معرفة آليات التناقضات الاجتماعية وتسليط الضوء عليها، بهدف المساهمة في عملية التغيير. لكن حينما تصبح الأيدولوجيا بمنزلة نظام، يقوم على أساس من التصورات لقيم مُسبقةـ تتمسك  بوجهات نظر وظنون ثابتة وتلتزم بها كغاية في ذاتها، عندها تتعارض الأيدولوجيا، كلياً، مع حقيقة الواقع وظواهره.

من كل هذه المفاهيم المختلفة نجد إن مصطلح  “رؤية العالم” الألمانية  weltanschauung   التي تقابل المصطلح  اليوناني Ideology يطلق دائما على كل عملية إنتاج فكرية فنية، ترتبط بذات تقوم، على أساسها، برؤية موضوع من العالم والحياة وتمارس تقويمه.
ويبقى مصدر الأيدولوجيا وهيمنتها يأتي غالبا من سلطة الدولة الحديثة، التي أصبح موقعها حسب فوكو، ينتظم في اتجاهين، لكل منهما معناه الخاص، فمن جهة يوجد للدولة موقع، لأنها ليست على الإطلاق شمولية،  لكن من جهة أخرى لا يوجد لها موقع، وليست قابلة لان تحصر نفسها في موقع، لأنها منتشرة،  تتغلغل في كل جانب، وتتصرف بعنف أو تمارس نفسها كأيدولوجيا. تارة تقمع وأخرى تُموه أو تخدع وتوهم، تارة كشرطي وتارة كدعاية. وتنتج سلطتها، بكل هذه الأساليب، الواقع، قبل أن تقمع كما تنتج الحقيقة، قبل تضفي عليها رداء ايدولوجياً.

كامل المقال


إعلان