السينما الوثائقية الإيرانية من الإيديولوجيا وإليها

فاطمة الصمادي
أكاديمية متخصصة في السينما – طهران

البدايات كانت من القصر وإليه

تقسم عدد من المراجع المتخصصة الفيلم الوثائقي إلى ثمانية اقسام :الخبري، السياسي، المتخصص بالعرقيات والأقوام، المتخصص بعلم الإنسان (الإنثربولوجيا) الروائي أو القصصي، الإعلاني ،الأيديولوجي و الوثائقي السينمائي.
 لكن الأفلام على اختلاف أنواعها تلتقي فيما بينها بأنها تحمل رسالة ، وبالرغم من أن تاريخ السينما لا يقدم تاريخا دقيقا لنشأة الفيلم الوثائقي إلا أن تتبع تاريخ المدارس الفنية وعلى وجه التحديد مدرسة علم الجمال يساعد في تقديم صورة عن فن الفيلم الوثائقي و خصائصه ، و من الواضح أن الجدل بشأن الرسالة التي يحملها الفيلم الوثائقي يأتي في مجمله من النقاش بشأن كونه فنا يجب أن يوجه نحو أهداف جمالية واضحة أو فنا يحمل رسالة سياسية أو ثقافية.. ومع الدورات الزمنية المختلفة التي مرت بها السينما منذ نشأتها إلى اليوم كانت الرسالة التي يحملها الفيلم تتغير تبعا للظروف العامة . لكن انتشار السينما بين مختلف شعوب العالم مكن من طرح قضايا جديدة وعزز من خيار السينما الوثائقية كفن لا يخلو من رسالة سياسية أو إيديولوجية.
و رغم أن السينما نشأت في أحضان الرأسمالية مما جعلها مجبرة على خدمة أهدافها، إلا أن الوقوف في وجه الرأسمالية كان علامة بارزة في تاريخ السينما الوثائقية خاصة من قبل عدد من المخرجين الذين عبروا عن مخالفتهم لما يصفونه “بالسينما المخربة” بعدد من الأفلام السياسية التي لم تغفل رغم بعدها الأيديولوجي الأبعاد الفنية التي تشكل عناصر هامة في بناء الفيلم الوثائقي .ولم تكن السينما الإيرانية بعيدة عن الجدل السابق، بل وقعت أكثر من غيرها تحت تأثير التطورات السياسية والأبعاد الأيديولوجية المختلفة التي شهدتها إيران في فترات مختلفة من تاريخها.
يرى الباحث الدكتور حميد رضا صدر أن التصوير والسينما  في إيران كانا من أبرز مظاهر الحضور الغربي في إيران وأنها فتحت الباب للتواجد السياسي لعدد من الدول. وأول فيلم وثائقي إيراني كان واحدا من نتائج التأثير السياسي للغرب على حكام إيران ونخبها السياسية في تلك الفترة ففي العام 1900 كان القاجاري مظفر الدين شاه يقوم بزيارة إلى باريس جعلته يكتب عنها مبهورا في مذكراته و أصدر وقتها أمرا  للمصور إبراهيم خان بشراء آلة تصوير سينمائي وتصوير مهرجان للورود كان يقام في باريس أثناء زيارته لها. (Sadr,2006:6)، وجاءت الأفلام التي قدمت على يد ذلك المصور في العام 1920 شبيهة بالأفلام الخبرية ركزت على الوقائع السياسية التي شهدتها إيران في تلك الفترة إضافة إلى أفلام للعائلة المالكة وحفل تنصيب رضا شاه بهلوي عام 1920 وجلسات مجلس الشورى.
ويعتقد الباحث مسعود مهرابي ( ) أن السينما الإيرانية في بداية  دخولها إلى إيران لم تكن بعيدة عن تأثيرات السياسة و الأبعاد الأيديولوجية  وتم توظيفها بشكل واضح لخدمة الطبقة الحاكمة وبينما اعتبرت السينما في كافة أنحاء العالم وسيلة عامة للترفية كانت السينما في إيران تقوم بدور مخالف تماما تلخص في جعلها وسيلة ترفيه مقتصرة على الطبقة العليا والأشراف..(مهرابي،1376:15)

أول خروج للسينما الوثائقية  الإيرانية من القصر..


ولم تستطع السينما الإيرانية مثل غيرها من الظواهر الاجتماعية  أن تبقى بعيدة عن تأثيرات الثورة الدستورية المعروفة ب “الثورة المشروطة” التي شهدتها إيران في مطلع القرن العشرين. فقد تم النظر إلى السينما في تلك الفترة كواحدة من مظاهر التجدد الغربي وتشير المراجع التاريخية إلى أن واحدا من أهم المراجع الدينية في تلك الفترة وهو الشيخ فضل الله نوري أصدر فتوى تحرم السينما وهو ما جعل الكثير من الناس المتدينين يحجمون عن الذهاب لدور العرض السينمائي . لكن السينما الإيرانية لم تبق أسيرة لتلك الفتوى بل تجاوزتها نحو السياسية ليتجلى تأثيرها وتأثرها في مسارين أحدهما دافع عن المشروطة والمطالب الشعبية بالإصلاح  وانبرى الآخر للدفاع عن الحكومة وسياستها .
 وهنا يظهر اسم ميرزا إبراهيم خان صحاف باشى الذي يعتبر واحدا من مؤسسي السينما الإيرانية ليكون مؤيدا للثورة المشروطة وينضم إلى واحدة من الجمعيات السرية المناوئة للحكم. وعرف عنه أنه حتى أثناء عمله في السينما كان يرتدي الأسود لأنه وكما ينقل كتاب تاريخ يقظة إيران لمؤلفه نام الإسلام كرماني كان يرى أن إيران تحتضر وأنه لن يخلع الأسود مادام الوضع على هذا الحال . ولعب صحاف باشي دورا كبيرا في الحركة السياسية ضد مظفر الدين شاه، وهو ما أدي إلى إغلاق دار السينما التي يملكها بدعوى مخالفة رجال الدين لها  واستنادا إلى فتوى نوري التي اعتبرت السينما كفرا وفيما بعد تعرض للسجن.
ومن الأسماء البارزة في تاريخ السينما الإيرانية “مهدي روسي خان”،  وهو من أب بريطاني وأم روسية ويمثل واحدا من علامات الحضور الغربي في السينما الإيرانية ورغم المخالفة الدينية للسينما في تلك الفترة إلا أن علاقات روسي خان العميقة مع الأسرة الحاكمة مكنته من إدامة عمله على عكس صحاف باشي الذي أجبر على بيع أفلامه ودار السينما التي يملكها بفعل موقفه السياسي (Sadr,Ibid: 10).  وفي بداية عمله كان روسي خان يعرض أفلامه في حرم سرايا محمد علي شاه ومن ثم افتتح صالة عرضه بفيلم وثائقي حول الحرب الروسية اليابانية، وبسبب تأييده الشديد لروسيا قام بتغيير اسم الفيلم إلى “تحيا روسيا” في دليل على العلاقة الكبيرة بين السينما والسياسة في تلك الفترة. ولعب روسي خان دورا كبيرا في محاربة الحركة الوطنية المطالبة بالتغيير وكان على علاقة شديدة بالسياسين والمتنفذين و مدعوما من الروس المتواجدين بكثرة في إيران في ذلك الوقت. واستطاع روسي خان بواسطة نفوذه أن يجعل فضل الله نوري المخالف الشديد للسينما يزور صالة عرضه هو وعدد من مرافقيه لحضور احد الأفلام المعروضة فيها، و رغم أنه لم يصدر أي رد فعل من جانب نوري بخصوص هذه الواقعة إلا أن البعض اعتبرها دليلا على إلغاء فتواه السابقة بتحريم السينما.
ومع انتصار المشروطة ولجوء محمد علي شاه إلى سفارة روسيا  وجد روسي خان نفسه مجبرا على الفرار بعد مهاجمة المعارضين للحكم لدار السينما التي يملكها واعتبروه أحد بقايا النظام السابق ، ولعل المصير المتشابه لصحاف باشي المؤيد للمشروطة وروسي خان المؤيد لنظام الحكم يقدم دليلا على التغييرات التي حملتها ثورة المشروطة خاصة فيما يتعلق بالسينما جعلت منها أداة سياسية تستمد ماهيتها و تعريفها من علاقتها بالأيديولوجية الحاكمة و تتشكل حدودها من العلاقة المتضادة بين أطراف الصراع وفي وقت لم تؤثر السينما في ثورة المشروطة كانت تقع تحت تأثيرها .

كامل المقال


إعلان