السّينما الوثائقيّة بين الإيديولوجي والجمالي

التّأسيس والامتداد

بقلم الهادي خليل
أكاديمي وناقد سينمائي تونسي

 إنّ الثّنائيّات المضادّة والتَّباينَات المانويّة المُقامة لا تُعَمِّر كثيرا ولا يستقيم لها حال في مجال الفنون، إذ أنّ دور المبدع، مهما كان تَخَصُّصه وَمَهما كان انْتِمَائه، هو تقويض الحواجز المفتعلة المنصوبة، وَتهجين و”تَلْويث” ما هو في نظرنا صَافٍ خَالِصٍ وَفَتْحُ أَعْيُننا على أساليب ومقاربات وَتَقَاطُعَات كنّا نعتقد أنها متنافرة وأنّه لا مجال للتّوليف وَالتَّوْفِيق بينها. فعلى سبيل المثال، لو تَلاَفَيْنَا التّمييز السّائد والكسول بين الإبداع الرّوائي والإبداع الوثائقي والذي يفرّق بين الأعمال النّابعة من المِخْيَال والأعمال المُقَيَّدَة بنقل الأحداث بصفة موضوعيّة، ولو سعينا لِدَمْجِ هذه الثّنائيّة في إشكاليّة أشمل، يمكن أن نسميّها بـ”الصَّيْرُورَة الإبداعيّة”، لَتَفَطَّنَّا أنّ أيّ فيلم، مَهْمَا كان جِنْسُهُ، هو شَرِيط إِبْدَاعِي فَعَلَ فيه المخيَال فِعْلَه. أي أنّ الفيلم، وعلى جميع المستويات التي يتألّف منها، في وتيرة سَبْكِهِ وَالفنِّي وفي رؤيته لِلْوُجُود، يبقى إنتاجا تَخْيِيلِيًّا. فَالمَرْجع الذي يحيل عليه وينطلق منه هو مزيج متشابك ومعقّد من الإحالات والمكوّنات المتفاعلة، منها الاقتصادي والاجتماعي والسّياسي ومنها أيضا الجنسي والنّفسي والأسطوري. فالمخرج الوثائقي الماهر هو الذِي يفتح المنافذ مُشْرَعَة لِتَحْتَضِن هَذِه الأبعاد المرجعيّة رغم تعدّدها واختلافها، وَهو الذي يُحْسِنُ تَنْزِيل هَوَاجِسه التّيميّة ضمن هذه السّباقات تَنْزِيلاً سَلِسًا حتّى ينتظم وينبسط عقد الفيلم ككلّ.
 يُطْرَحُ نفس الإشكال عندما يتعلّق الأمر بِمَفْهُومَيْ “الإيديولوجيا” و”الجمَاليّة”، إذ جعلنا منها عَدُوَّيْن متخاصمين ومتناحرين لا تَصَالُح ولا وِفَاق بينهما إطلاقا. ففي فترة ازدهرت خلالها النّضالات وبرزت أفلاما أرادت أن تكون شاهدا على واقع المجتمع وتطلّعات النّاس وأن تنخرط في غَمْرَة التّنديد بقهر الحكّام وظُلْمِهم، كان شعار “الالتزام الإيديولوجي والسّياسي” شعارا رائجا لا نقاش في أحقيّته الرّاهنة ولا في شَرْعِيَّته الأَزليّة. وكان مناصرو هذا التيّار بالمرصاد لأيّ عمل فنّي يَنْشُدُ الجمال الصّرف ويَنْسُج على منوال “الفنّ للفنّ”، معتبرين أن رغبة التملّص من الإيديولوجيا وتغليب “الشّكل” على “المضمون” ما هو إلاّ ضرب من البذخ ومن الجدف لصالح “البورجوازيّة” و”الرّجعيّة”. عندما تراجع المدّ النّضالي وذَبُلَت وَتِيرَة الشّعارات والبَيَانَات، أصبح الكثير ممّن كانوا صُفاة هذه الظّاهرة ودُعاتها يَمْتَعِضُون مِمَّا يسمّونه “التّوظيف الإيديولوجي والسّياسي للفنّ”، مردّدين، بين عشيّة وضحاها، أنّ الفنّ هو الفنّ وأَنّ الإيديولوجيا هي الإيديولوجيا وأنّه لا سبيل للتّلاقي بينهما.
 تنشأ الثّنائيّات والأحكام القطعيّة، إذن وفق ورهن أمزجة النّاس وتقلّباتهم وآمالهم وخيباتهم، بعيدا عن الأفكار وَالمَعَارف وعن الفحص الدَّقيق والنيّر للأعمال الفنيّة. لو احتكمنا للأفلام وحلّلناها عوض أن نجعل منها مجرّد مَطِيَّة عَرَضِيّة لِمَوَاقِف مَا، لَتَبَيَّن لَنَا بِيُسْر أنّ العديد منها يَدْحض الاعتقاد بأنّ الإيديولوجي في قطيعة مع الجمالي وأنّ “الالتزام” في عداء مع “التجلّيات الشّعريّة والتّجويدات الشّكليّة”. على هذا الصّعيد بالذّات، تَجُود عَلَيْنَا السّينما الوثائقيّة، هنا وهناك، بالأمثلة النّاصعة والنّفيسة.

تَوْضِيحَات لاَ بُدَّ مِنْهَا

 يَقترن تاريخ الإنسانيّة، منذ العُصُور الغابرة إلى اليوم، بالصّورة، مهما كانت تَمَظْهُرَاتها وتجلّياتها على شكل خيالات وأشباح وطُقُوس وثنيّة مثلا، ومهما كانت ميادينها من الفيزياء والرّياضيّات والرّموز والاستعارات في الأعمال الأدبيّة المهوسة بالوصف الحيّ المشهدي للواقع إلى الوسائل الإعلاميّة المرئيّة مثل التّلفزة والفنون المنظورة كالرّسم والسّينما والفوتوغرافيا. لعلّ ما لا نعرفه أو لِنَقُل ما تناسيناه هو أنّ مفهوم “إيديولوجيا” يَسْتَنْبِطُ أُوصُولَهُ داخل مفهوم الصّورة والتّفكير بالصّورة. في مؤَّلَّف مهمّ عنوانه “عصر الصّورة. السّلبيّات والإيجابيّات” للدّكتور المصري شاكر عبد الحميد، يسوق هذا الباحث المتخصّص في مجال الإبداع التّشكيلي والتّذوّق الفنّي، باعتماده أساسا على نظريّات المفكّر “ميتشل” (« Mitchell ») المتعلّقة بالإيقونة والصّورة وصلتهما الوثيقة بالإيديولوجيا ، الملاحظة التّالية:
 “لقد جاءت كلمة “إيديولوجيا” (ideology)، كما قال ميتشال من كلمة فكرة (idea) التي جاءت من فعل  “يرى”  (to see) في اللّغة الإغريقيّة وهو فعل كثيرا ما يتمّ ربطه بالفكرة العامّة حول “الصّنم” (eudolon) أو الصّورة المرئيّة (visible image) والتي هي فكرة جوهريّة في البصريّات ونظريّات الإدراك” . منذ البدء إذن، التحمت كلمتا “الإيديولوجيا” و”الصّورة” التحامًا عضويّا ولا ندري تحديدا ما هي منطلقات ودعائم أولائك الذين طالبوا بتحرير الفنّ المرئي ممّا أطلقوا عليه “لُوثة الإيديولوجيا”.
 عندما تُقْتَلَعُ الكلمات والمُصْطَلَحَات والمفاهيم من جذورها الأصليّة وتُسْتَهْلَك في غير محلّها، فإنّ السّبُل تختلط وتُصْبْحُ ضَبَابِيَّة. فتاريخ الأفكار والنّظريّات،    منذ الفيلسوف أفلاطون إلى اليوم، علّمتنا أنّ أنظمة التّمثّل représentation لم تُبْنَ إطلاقًا على حرب باردة أو ساخنة بين “الإيديولوجي والجمالي” وبين “الفكرة” وترجمتها ترجمة إبداعيّة، بل على علاقة وطيدة متداخلة ومتكاملة بين هذا وذاك. لتنوير العقول والرّؤى ومقاومة التّحريف وتصويب الخطأ وإذكاء شعلة الوجدان، فَإنّ الإسهامات الفكريّة القيّمة والجادّة لا تكفي لوحدها. أثبتت التّجارب أنّ الفعل الإبداعي يلعب دورًا فعّالا في تطوير النّظريّات وأنّه يمثّل حافزًا مُلْهِمًا، بفضل إشراقاته واستشرافاته، في إبراز الألفة الضّروريّة والحيويّة بين الفنّ ومضامينه الإيديولوجيّة، إن كانت مبطّنة أو معلنة.

كامل المقال


إعلان