بانوراما الجمالي والإيديولوجي في الوثائقي العراقي
علي هاشم
ناقد ومخرج عراقي
الايدولوجيا وعلاقتها بالفن
قبل الولوج إلى دراستنا حول علاقة الفن بالإيديولوجية لابد لنا أن نعلم ما للفن من أسس ومفاهيم, فهو(الفن) يمتلك طاقة جمالية حرة ومؤثرة ولكنه أيضا يمتلك طاقة سياسية لها مفاعيلها في بواطن الواقع المعاش. وهذه الطاقة الثانية قد تساهم في تقييد الطاقة الأولى لأن الآني (السياسة) والمطلق (الجمال) لا يتفقان كثيرا.
فكيف للفن أن يكون ثوريا ومؤثرا في العقول والأبدان وهو بحكم طبيعته وبنيته لا يحي إلا في فضاء حرّ محطما كل أشكال القيود مرتبطا بخالق العمل الفني الذي يظل ثائرا على السائد والتقليدي، باعتباره ذاتا تعكس الحقائق الموصولة بالفكرة وأشكالها السائلة عبر مجرى الزمان.
الفنان لا يتبع فكرة ثابتة, بل هو ينقل دفق الطبيعة في الوجود بمظاهره المتعددة الأشكال والألوان موصلا ذاته بماهيتها الحق لكن ثمة علاقة تفاعلية, محورية وتاريخية, وجدلية, بين الإيديولوجية والفن عموما, وكثيرا ما كانت السلطة الحاكمة تستخدم الفن وسيلة لترويج مشروعها الإيديولوجي, لتخلق علاقة ما, مع مؤيديها أو معارضيها, لما للفن من قدرة على التأثير والإقناع كما انطوت صفحات التأريخ على حقائق تؤشر هذا المنحى..
ومثلما حدث مع الاتحاد السوفيتي بعد ثورة أكتوبر1917, كان الفنان جزءا من هذه الماكنة الضخمة (الدولة السوفيتية), وهذا ما يؤكده جون هواردلوسون:- إن تطور السينما الذي بدأ بفيلم “الإضراب” عام1924 لمخرجه أيزنشتاين, إنما هو تطور ألهمته الثورة ذاتها””.ثم ظهرت النظريات السينمائية في الفيلم الوثائقي التي نادى بها وطبقها فيرتوف وآخرون..وهذا ايزنشتاين يقول:”لسنا نحن الذين نصنع سينمانا إنما هو الزمن الثوري الذي يصنعها ويصنعنا”.
من كل هذا نستنتج, إن علاقة الايدولوجيا بالفن عموما, وبالسينما خصوصا علاقة تبادلية, وكلاهما يخدم الآخر, وهكذا تصبح السينما (في أزمنة ما) حاملة للأيديولوجية, لكن حتى في هذا التوظيف لا نعدم حالات لتوليد إبداعات متفردة وايجابية حين توظف السلطة وتكشف عن عبقريات فنية مغمورة, موفرة لها كل الاحتياجات والمادة الخام لترسخ، بوساطة الفنان وفنه، بنيتها السياسية والمجتمعية..
فمن منّا نحن السينمائيين لا يهتز عقله بعد عيناه, وترتجف أقدامه رعبا عندما يشاهد الآن مشهد سلالم الأوديسة ضمن رائعة أيزنشتاين “المدرعة بوتومكين”, والذي هزّ مشاعر الملايين حول العالم حين عرضه بعد العام1925, رغم أن آخر لقطاته تنتهي بجملة: “عاش القائد لينين”.. وهذا دليل ساطع يجسد تأثير الإيديولوجية (سلبا وإيجابا) في الفن السينمائي وهو مدار دراستنا.
هنا نستشعر قدرة الفن السينمائي على إشاعة ثقافة ما، ربما تبرر للأيديولوجية أفعالها حتى لو كانت في تبرير القمع للحريات الفكرية أو الدينية والاجتماعية الخ.. فمعظم القادة السياسيين كانوا يحرصون على مشاهدة الأفلام السينمائية التي تنتج عنهم أو عن غيرهم ويعطون الملاحظات ويطلبون حذف المشاهد التي تمس شخصيتهم. لأنهم يعلمون خطورة اللقطة السينمائية وقدرتها الأسطورية في كشف عوراتهم مهما كانت صغيرة.
![]() |