هوامش الخيال والواقع في الفِلْم الوثائقي
كانت النظرة المستقرة الثابتة حول الفيلم الوثائقي تستند إلى كون “الوثائقي” documentary على النقيض من الفيلم الخيالي fiction أي أنه يعتمد على نقل “الحقيقة” وتجسيد عن “الواقع”، سواء كانت “الرسالة” الكامنة في قلب الفيلم تتلخص في الدعوة إلى تغيير الواقع (الفيلم الوثائقي الثوري في الستينيات مثلا)، أو دعمه ومساندته والدفاع عنه ضد قوى “الثورة المضادة”.
ضمن هذا المفهوم الكلاسيكي القديم كان الوثائقي يقع بالضرورة خارج الخيالي، فقد كان من المعيب أن يستخدم الفيلم الوثائقي مثلا، طرق الحكي أو المسارات السردية التي يستخدمها الفيلم الروائي الدرامي، أو أن يتدخل في الواقع، ويعيد “تمثيله” بأي شكل من الأشكال، حتى لو كنا مثلا، نشاهد فلاحا يعيد أمام الكاميرا دورة حياته اليومية ببساطة، كما يفعل يوما بعد يوم في الواقع نفسه.
كان “الوثائقي” يعتبر بالضرورة، هو “الموضوعي”، الذي يستمد الفكرة من الواقع، ويعرض الحقيقة الموضوعية من داخل الواقع، لكنه يحللها ويفسرها ويصل إلى طرح “رسالته” من خارج الواقع أي من خارج تلك الصور واللقطات المتعاقبة، وإن كان ذلك استنادا إلى ما يمكن استنتاجه منها من خلال سياق معين يلعب فيه المونتاج الدور الرئيسي، ويساعد التعليق الصوتي المصاحب في دعم هذا السياق والتأكيد عليه.
كانت “الحقيقة” عادة تقدم من جانب واحد، وفي اتجاه واحد، من صانع الفيلم عبر الشاشة إلى المتفرج، تدعمها شهادات وصور وسياقات تاريخية منتقاة لخدمة الهدف “الأيديولوجي” للفيلم- الوثيقة، أو الهدف الاجتماعي- السياسي” الأسمى، الذي يعبر عن “الإرادة الجماعية”، أو عن رؤية ذلك الواقف خارج الفيلم تماما، يوجه ويشرح ويؤكد، كما لو كان هو “صوت القدر” نفسه. ولم يكن مسموحا بالتالي للسينمائي أن يعبر عن رؤيته الذاتية، أو أن يخلطها بهواجسه الشخصية، أو يقدم سخريته مما يصوره أو تعليقه الشخصي عليه ربما من خلال قصته الخاصة.
في الاتحاد السوفيتي لم تكن أفلام الحرب الموجهة مثلا تختلف كثيرا في أسلوبها العام مع سلسلة أفلام الجريدة السينمائية الأمريكية الشهيرة “مسيرة الزمن” March of Time التي استمرت من 1935 إلى 1951، وغطت الحرب العالمية الثانية بأحداثها الساخنة. كانت هذه الوثائقيات تعتمد أساسا، على أسلوب ومنهج جون جريرسون، رائد الفيلم الوثائقي، في اعتمادها على التعليق الصوتي “الموضوعي، الذي يأتي من خارج الصورة، يفسر ويسلط الأضواء على جوانب محددة في السياق، والأهم، أنه “يفرض” رؤية واحدة محددة على المتفرج ويقنعه بها.
![]() |
جون جريرسون |
كان الهدف في الحالتين واحدا، في الحالة السوفيتية حسب المفهوم الماركسي، وفي الحالة الرأسمالية التي تلعب فيها المؤسسات الكبرى دورا مباشرا في الترويج لأفكار بعينها تتماشى مع أفكار وأهداف المؤسسة السياسية (مثل مؤسسة تايم منتجة “مسيرة الزمن”)، فقد كان هذا الهدف يتمثل ببساطة في نقل الوعي، السياسي والاجتماعي، حسب مفاهيم محددة، قد تكون هي مفاهيم حزب معين، أو نظام أو مؤسسة أو حركة ثورية أو فصيل ما في الواقع، أو احتكار يمثل واجهة كبرى لمصالح متداخلة ومتعددة ..إلخ
وكان المفهوم العام للفيلم “الوثائقي” يحصره عادة، في إطار النخبوية رغم أن توجهه النظري على الأقل، كان إلى “الجماهير”. لماذا؟ لأن هذا المفهوم كان يستبعد الفيلم الوثائقي أساسا، من دائرة “الخيال” الذي يثير عادة اهتمام جمهور السينما.
لقد كان أي تشابه مع أفلام “الخيال” بمعناه المباشر وغير المباشر، يتناقض تماما مع مفهوم الوثائقي. ولذلك تحول “الوثائقي” إلى “غير الخيالي” non-fiction، وهو مصطلح أصبح حاليا يفتقر إلى الدقة أيضا في وصفه للنوع، لأنه يكرس ويؤكد استبعاده خارج دائرة الخيال الفردي لصانعه، ويحظر عليه استخدام أي نوع من البناء “القصصي” أو السياق الروائي للسرد.
![]() |