الوثائقي في إفريقيا.. فن هامشي في قارة مهمشة
الطاهر الشيخاوي
أستاذ الأدب الفرنسي في الجامعة التونسية
يصعـُب تناول موضوع الفلم الوثائقي في إفريقيا والأصعبُ من ذلك إعطاء رؤية مستفيضة عنه فالمسالة معقدة. كلُُُّ ما يمكن القيام به في مرحلة أولى هو محاولة طرح بعض الإشكاليات التي قد تسمح لنا في ما بعد بالتعمق في الموضوع.
ماا نفك الفلم الوثائقي يحتلّ مرتبة ثانوية بالمقارنة مع الفلم الروائي وبقي الأمر هكذا عبر التاريخ ولم يتغير إلا نسبيا فولوجه قاعات السينما يُعدّ استثناءً. وإذا أضفنا إلى ذلك أن السينما في أفريقيا ما زالت عموما ظاهرة ثانوية فيصبح الحديث عن الفلم الوثائقي بإفريقيا أمرا جدّ عسيرا وحديثا عن مجال من مجالات الهامشية نسبيا في الثقافة البصرية الأفريقية.
بل هو هامش الهامش. يكفي تناول مراحل تاريخ السينما الوثائقية بإفريقيا والوقوف على أبرزها لإدراك وجوه الهامش فيها.
أول ما يلاحظه الباحث هو غياب الفلم الوثائقي كجنس مستقل بذاته، إلا أن البعد الوثائقي احتل مكانة كبيرة في الأفلام الروائية، وذلك كما سنبين فيما بعد يرجع إلى التاريخ السياسي للقارة. فكانت حاجة السّينمائيين مـلحّة ً للتعريف بالواقع الاجتماعي والثقافي لبلدانهم بعد حصولها على الاستقلال، مما جعلهم يتمسكون بنوع من الواقعية وفي أسوء الأحوال بمباشرتية فتحت مجالا كبيرا للوثيقة لما تحمله من مشروعية “وطنية”
ثم لا بد من الإقرار بأن علاقة الروائي بالوثائقي تغيرت تحديدا في المرحلة التاريخية التي ظهرت فيها السينما الإفريقية وهي تقريبا مرحلة الحداثة.
صمبان وسيساكو أو انقلاب طرفي المعادلة
لذلك ارتأينا أن نبدأ هذه الدراسة بمقارنة أوّل شريط سينمائي افريقي “سوداء فلان…” لصمبان عصمان وآخر شريط لعبد الرحمان سيساكو “باماكو” حتى نتمكن من الوقوف على مكانة الفلم الوثائقي عبر التاريخ في إفريقيا.
طبعا اختيارنا لهذين المخرجين ليس اعتباطيا : يُعتبر صمبان عصمان الأب المؤسس لسينما افريقيا السوداء، ويحتل عبد الرحمان سيساكو مكانة متميزية في الجيل الحالي للسينمائيين الأفارقة. كان بإمكاننا أيضا أن نأخذ شريطا لمحمد صالح هارون، (النيجر) وهو أيضا من أشهر سينمائي جيله وكان قد تحصل على جائزة هامة في مهرجان كان الأخير.إلا أن” باماكو” يوفـّر مادة هامة من حيث أهمية البعد الوثائقي فيه.
ففي كل من الشريطين امتزج الوثائقي بالروائي بل تضافر الجنسان في نسيج واحد، ولم يقتصر المخرجان على تصوير مدينتي داكار – السينغال (صمبان عصمان) وباماكو – مالي (عبد الرحمان سيساكو) كما هي في الواقع (دون ديكور اصطناعي) بل ذهبا إلى حدّ تسجيل حضورهما جسديّا، واحد في مدينته والآخر في بيت أبيه دون الدخول في تفاصيل الفارق بين هذا وذاك ومفهوم الانتماء (الجماعي عند صمبان) والفردي (عند سيساكو) وهو ما وجد تعبيره في التغير التام في طرفي المعادلة بين الوثائقي والروائي لدى كلّ منهما. ويمكن أن نرى في أهمية هذا التغيير المدى الذي وصل إليه تطور موقع الوثائقي في سينما إفريقيا السوداء.
![]() |
صمبان عصمان |
فمع أن التزام صمبان الإيديولوجي يفوق بكثير التزام سيساكو يبدو شريط سيساكو أكثر حِدّة سياسيا. ويرجع ذلك إلى أن “الوثيقة” في نظر صمبان عصمان خاليةٌ من أي شُحنة أيديولوجية لأن الواقع كما هو أو كما يبدو لنا عديمُ الدلالات ولا يحمل شيئا لذا وجب تحليله وإعادة بنائه، من هنا جاء توظيف السرد الروائي إيديولوجيا. فبقدر ما جاءت مشاهد داكار واقعية كأنما هي وثيقة تُـعرّف بعاصمة السنغال، تسلسلت الصّور حسب منطق الرواية، ففي بداية الشريط خضع السرد لوجهة نظر ديوانا وفي نهايته توالت الأحداثُ حسب وجهة نظر السيد الفرنسي.
أما بالنسبة إلى سيساكو، فالروائي أصبح -على الأقل في صيغته الكلاسيكية – محلّ تساؤل إذ يكفي مشاهدة ما يجري حولك ومنح الزمن الكافي للمشهد أو اللّقطة لإدراك مدى عمق المأساة التي تعيشها القارة. هكذا انقلبت المعادلة ولم يبق من مآل للرواية إلا أن تدخل تحت غطاء الوثيقة، فتمزقَ الخطُّ السّردي واعتلّ تطورُه. وفضلا عن أن جلّ المشاهد صُورت في منزل سيساكو بالذات في شكلها المعتاد، كانت اللحظات الحاسمة مستوحاة من صميم الواقع، كشهادة اميناتا تراوري التي أدت دورها بنفسها ( وهي أهم مواصفات الفلم الوثائقي) وألقت خطابا ضد النظام الاقتصادي العالمي يتناسب تماما مع قناعاتها.
![]() |