سينماتون Cinematon مشروعٌ يُلامسُ الهوامشَ
بدايةً، من المُفيد الإشارة، بأنّ دراستي هذه سوف تبتعدُ تماماً عن أيّ مُقاربةٍ مع التيمة المُقترحة عن/حول (إشكالية) هامش السينما التسجيلية، أو (إشكاليات) هوامش الأفلام التسجيلية، وهو عنوانٌ رُبما يتوافقُ مع الأسئلة، والتساؤلات التي تتصدّر أدبيات الثقافة السينمائية العربية فيما يتعلقُ بالسينما الروائية، والتسجيلية، الطويلة، والقصيرة على السواء.
وفي الوقت الذي أستبعدُ إشكالية الهامش في السينما التسجيلية الفرنسية، سوف أتجاهلُ تماماً معناها السلبي، كي أتوصل إلى خلاصةٍ متفائلة، تؤكد بأنّ هذا (الهامش) المُفترض هو (المركز)، ومنه انطلقت السينما التسجيلية التي سُرعان ما اختطفها صُنّاع الوهم، وبائعيه، ولم يتوانَ الجمهور في أيّ لحظةٍ من تاريخ السينما عن استهلاكها مُغلفةً بحكايةٍ، أو بدونها.
ألم يكن “خروج العمال من المصنع”/1895 للأخوين لوميير الذي تستغرقُ مدته الزمنية أقلّ من دقيقةٍ واحدة نقطة الصفر للسينما التسجيلية، والروائية على السواء(سوف يقودنا تحليل هذا الفيلم إلى نتيجةٍ بأنه لم يكن تسجيلياً صرفاً، ويتضمّن جانباً روائياً)، ومن فيلمٍ إلى آخر، تشكلت مفردات اللغة السينمائية، وتطوّرت حتى اللحظة التي تجاورت في بعض الأفلام الحدود الفاصلة بين الجانب التسجيليّ، والروائيّ، وتقاطعت، واختلطت أحياناً، أو تعمّد السينمائيون الإيهام بروائيّة التسجيليّ، وتسجيليّة الروائيّ، وحتى تصنيع أفلاماً تسجيلية مُزيفة عمداً (Faux documentaire)، وفي كلّ الحالات، تمتلكُ السينما قدرتها على الوهم، والإيهام .
باعتقادي، لا يوجد (هوامش) في السينما التسجيلية، ولكن (أساليب) ـ رُبما لم تتحقق بما يكفي في السينما العربية ـ، ومنذ أن تخلت دورات التوزيع السينمائية التجارية عن “الجريدة السينمائية”، وأهملت تماماً الأفلام التسجيلية لأسبابٍ ربحية بحتة، تحوّلت السينما التسجيلية إلى التلفزيون، أو بالأحرى اختطفها، وفرض عليها شروطاً جمالية حبستها في نمطيةٍ تتماشى مع أذواق أكبر عددٍ من المُشاهدين .
ولكنّ، لم يتوقف السينمائيون التسجيليين يوماً عن النضال من أجل عرض أفلامهم في صالات السينما التجارية التي بدأ مُستثمروها يُدركون جماهيريتها، ويقدمون من وقتٍ إلى آخر أفلاماً تسجيلية، ويمكن الإشارة إلى أحدثها:
ـ “VALVERT”(وهو اسم أحد المُستشفيات الفرنسية المُتخصصة بالأمراض النفسية) لمُخرجته الفرنسية “Valérie Mréjen “، “الصين ما تزال بعيدة” (La Chine est encore loin) لمُخرجه الجزائري “مالك بن إسماعيل”، أو الفيلم السويسري/القطري “عايشين” لمخرجه السويسري ” Nicolas Wadimoff”.
في المُقابل، بقيت الأفلام التسجيلية المُتحررة من القوالب الجاهزة في الظلّ، أو فلنقل في (الهامش)، ولكنها لم تكن (هامشية) أبداً، ووجدت لها ـ كحال السينما التجريبية ـ دورات توزيع ثقافية، وتجارية بديلة.
أعرف واحداً من المُخرجين الفرنسيين الفوضويين” Pierre Merejkowsky” ينسخُ أفلامه في أقراص مُدمجة، ويُوزعها بنفسه، وفي لحظةٍ ما من مسيرته السينمائية، كان يُعتبر واحداً من السينمائيين الهامشيين، ولكن، يوماً بعد يوم، وفيلماً بعد آخر، تمكن ـ بخجلٍ ـ من اختراق دورات التوزيع التجارية التقليدية، وعرض بعض أفلامه المُثيرة للجدل شكلاً، ومضموناً في قنواتٍ تلفزيونية محلية، ومتخصصة. وفي هذا المجال، لا يمكن إغفال تجربة السينمائية البلغارية المُقيمة في باريس ” Maria Koleva” التي تُنجز أفلاماً نضالية، وتعرضها في صالة منزلها الكائن وسط الحيّ اللاتيني، ومن يتصفح الدليل الفرنسيّ الأسبوعيّ” L’Officiel des spectacles” سوف يجدُ بأنّه خصص لها مساحةً مُعتبرة من الصفحة الخاصة بالعروض السينمائية الاستثنائية .
في الحقيقة، كلّ ما يُنتج من أفلامٍ لا تعتمدُ على الحكاية تدخل في صلب، وقلب السينما التسجيلية، وبينما تتباهى السينما الروائية بأنواعها، لم يتجرأ أحدٌ من مُنظري السينما، ومُؤرخيها على تقسيم السينما التسجيلية إلى أنواع، لأنها، ولحسن حظها، نوعٌ قائمٌ بذاته لا يتحمّل تصنيفات.
وكي أكون أكثر وضوحاً، لا يوجد سينما تسجيلية عاطفية، رومانسية، كوميدية، بوليسية … هناك أفلامٌ تسجيلية تتطرّق إلى ما لانهاية من الأفكار، والموضوعات.
وعندما نكتبُ عن السينما الروائية، لا نخشى الإشارة إلى فيلمٍ ما بأنه بوليسيّ، خيال علميّ، حربيّ،….
وفي حالة السينما التسجيلية، نكتبُ عادةً : فيلمٌ تسجيليّ عن…، يتحدث عن…، يُسلطُ الأضواء على..، أو يُجسد ..
وانطلاقاً من الحكاية التي تمنحُ (الأنواع) للسينما الروائية، فإنّ السينما التسجيلية لا تقل (تنوّعاً) عنها أبداً، ولكن على طريقتها، وفي إطارها التسجيليّ الذي تحدّد منذ اللحظات الأولى من تاريخ السينما، تاريخها.
![]() |
جان كوران
وسوف يُنقذني السينمائيّ الفرنسي “جيرار كوران”، وبالتحديد سلسلته الأشهر “Cinematon” من تأطيري التنظيريّ داخل سينما عربية تُعاني قدراً عظيماً من (الإشكاليات)، وتوجهني نحو تحليل إحدى التنويعات التسجيلية التي يحفلُ بها المشهد السينمائي الفرنسي ـ على الأقلّ ـ وهي ثمرة خصوبة مُتجددة في الخيال، وازدهاراً مُتواصلاً في الإنتاج.
وإذا كان المقصود من (هامش/هوامش) كلّ ما يتفرعُ عن السينما التسجيلية، فإنّ “جيرار كوران” لوحده سوف يمنحني مادةً ثرية لا تنضب من الأساليب الجمالية المُتنوعة، والطريفة أحياناً.
لقد اخترتُ “Cinematon” نموذجاً مثاليّاً لمشروعٍ سينمائيّ متواصل، لأنه بأصالةٍ يُلامس (هوامش) التسجيليّ، التجريبيّ، والروائيّ إلى حدٍ يجعله “غير قابلٍ للتصنيف”.
![]() |