سينمائيون في ” البيجاماات “
1998
هذا العنوان تحية للمخرجين التسجيليين الألمانيين ” شويمان ” و ” هاينوفسكي “، صاحبا الفيلم الجميل ” طيارون في البيجاماات ” ، الذي كان واحداً من تحف أفلامهما . بل من تحف السينما التسجيلية في ذاك العصر، عصر المستنقعات الفيتنامية التي كانت تصطاد الطيارين الأمريكيين وتحولهم إلى أسرى في البيجاماات .
فقد اتفـقت مع المخرج قيس الزبيدي ، على مونتاج الفيلم التسجيلي الذي صورته عن المنشد الحلبي صبري مدلل . لكننا هذه المرة ، اخترنا العمل في بيتـه في برلين ، وتنـفيذ المونتاج كـ ” ماكيت ” انطلاقا من نسخة ” V.H.S ” .
3 / 3
باريس
في الصباح وضعت في حقيبة سفري نسخ V.H.Sللمواد المصورة لفيلم عن صبري مدلل ، وأنا أتساءل مع نفسي :
ترى هل فكرت بشكل صحيح ، حين وافقت على المونتاج بهذه الطريقة البدائية ؟! وهل سنصل إلى الفيلم فعلا ؟! .
في المساء مضيت إلى محطة القطار لأغادر إلى برلين. حين تحرك القطار ، أدركت أن أمامـي الآن اثنتي عشر ساعة من الاهتزازات . وأنـه لا مفر لي من أن أستلقي للنوم مبكرا، بلا قهوة أو سجائر أو عرق و بلا نساء…
مع تحرك القطار ، لم يظهر في حجرتي إلا امرأة وابنتها . وحين دخلا لم نتبادل إلا تحية عابرة ، ومن خلال حديثها مع ابنتها تبين لي أنها بلغارية. مع انسدال العتمة الكاملة في الحجرة ، بدا أن كلا منا سيستلقي على مسافة قصيرة تفصله عن الآخر . ولمثل مسافة كهذه في النوم ، كان لابد لشيء من الألفة ولو قليلة ، فـلم يبادر أي منا إلى ذلك .
مع طرقات عجلات القطار وأنا مستلق ، فاحت في داخلي رائحة تلك الرحلة الجميلة من باريس إلى مهرجان ” مونبيلية ” السينمائي بقطار ليلي ، حيث كان لاهتزازات ذاك القطار طعم آخر . فتذكرت قول ابن عربي :
بأن المرأة تكونت على صورة الرجل ، فحن إليها حنين الشيء إلى نفسه . تساءلت من جديد:
ترى هل سأتجه في مشروعي السينمائي القادم ، نحو المرأة وقصص الحب والجسد ؟
يا ترى ما هي المصادر الشخصية والذاتية لدي، للإحساس بالشهوة ؟!
وما هي المرجعيات المرئية والحكائية لظهور الشهوة والإحساس بها ؟
من هن النساء اللواتي ، عبرت في حياتي بينهن فـأثرنني ، وجعلن الشهوة تكمن وتتربص بي ؟! ومن هن النساء اللواتي أججن الشهوة ، وساهمن في صياغتها على النحو الذي سارت إليه عبر سنوات العمر ؟
من هن النساء اللواتي دفعن الحب ليتقـوقع في داخلي تائها بين الاشتهاء والعشق .
من أين أبدأ ؟
فاض بي التأمل والتفكير ، وانبعثت رائحة الذاكرة الطرية ، فأخذت اهتزازات القطار تتناغم مع الصور المختلفة ، بينما كانت طرقات عجلات القطار تتلاعب بهذه الصور بإيقاعاتها . فظهرت الوجوه الجميلة مبللة بالعرق ، والأصابع الحلوة مغطسة برغوة الصابون . وتذكرت ركبة يترجرج على انطواءها لون لهيب الموقد البرتقالي ، وحلمة ضاقت بانحباسها فانفـلت الثدي من حمالته .. وساق أبيض يصعد إلى السماء على سلم خشبي ، فأخفض بصري خوفا ، لكني حين أختلس نظرة نحوه ، أرى أمامي قدمها المطلية أظافره بالأحمر أمام عيني تماما .
تذكرت كيف أني لم أكن أدرك ، ما هذا الذي يغلي و يهيم ، ليس في داخلي فقط ، بل في داخل هذه النساء والصبايا ، وهن يتلوعن ضجرا وخوفا واختناقا ، فينـفثن زر موقد الطعام أو الغسيل ، ولا يبق إلا صوت تنفسهم وآهاتهم وحسراتهن…
لكني أعرف أني لن اختار للتعبير إلا النساء التي تخصني . والتي تـنتمي إلى زمان ومكان خاص ، كنت قد انتميت له يوما .
لكي أخفف عن نفسي الآن ، من ثقل الذاكرة البعيدة ، وكي لا أخذ نفسي بعيدا عن القطار الذي يمضي الآن ، أريد أن تقودني تأملاتي لصور، توضح ما أقصده بالنساء التي تخصني . الفكرة التي قلتها لنفسي قبل قليل . فأخذت أستعيد تلك المرأة في ذاك القطار في زمن هو زمن السينما . فشعرت أنه لا من تأجيل التفكير بذلك الآن ، فالمرأة البلغارية نائمة ، واهتزازات القطار باردة. وأنا أبحث عن ذاكرة لنساء يحتلها الحب ويحتلني. فأنا أحاول أن أصل إلى معرفة ، متى تكون المرأة ” صورة ” والرجل ” صوت ” ! ومتى يتماهى الصوت في نسيج الصورة ، والصورة في ذبذبات الصوت .
اليوم أخذت تتعتـق الصور الحبيسة في الوجدان ، ويختلط كل شيء. الشهوات والحب والدعارة والتخلف والاستبداد . ويتعايش الحشيش وأصوات المآذن والمشاريع السياسية، ويتمدد جسد الوطن منتهكا، لا حول له ولا قوة. فأي ” عدسة ” من عدسات الروح ، يمكن لها أن تصور المرأة الراويـة والمرويـة والقتيـلة ؟ فقد أصبح الإنسان في بلدنا، في هذه الأيام ، يسير من ” حيط لحيط ” وهو يقول :
يا ربي السترة ! . وفي سيره يعانق ” الحيط ” كعشيقة، لكنه حين يرى ظله على الحائط، يخاف من ظله ويهرب .
أحس أني أمام مزاج عاصف ضد كل شيء . لكني أرى الآن من النافذة تشقق الضوء، ويبدو أننا على مداخل برلين .
![]() |