الفيلم الوثائقي: رؤية المرئي واللامرئي
البحث عن أسس نظرية في علاقة الفيلم بالواقع
د. شاكر نوري
لا توجد نظرية بدون إبداع.هذه حقيقة لا بد من الاعتراف بها في تلمس الطريق نحو أي بحث أو دراسة. فالإنتاج الروائي العربي في ميدان السينما التسجيلية الوثائقية لم يصل بعد إلى إفراز ما يمكن أن نطلق عليه نظرية لأنها تخرج من تراكم التجارب، وتحوّل الكم إلى كيف، آنذاك يمكننا الحديث عن نظرية..
ولو ألقينا نظرة على تراثنا السينمائي الذي بدأ بالتزامن مع التراث الغربي تقريباً، على سبيل المثال، ظهرت السينما العراقية في عام 1945 مع السينما الايطالية، ولكنها تخلفت كثيراً عن السينما الايطالية التي أسست تياراً هاماً في السينما العالمية وأفرزت مختلف أنواع النظريات، وتنوّعت رؤى مخرجيها حتى باتت ظاهرة في السينما.
لذلك تبدو الإجابة على طرح سؤال عن علاقة السينما بالنظرية في ميدان الفيلم التسجيلي العربي صعبة وتتطلب دراسة الجذور والمعوقات والتعريفات. فالفيلم الوثائقي باعتباره( عملاً تواصلياً يعتمد على الحقيقة التي تنتج سجالا بصريا وفكرياً). يحتاج إلى تمعّن وتبصر ورؤية.
كم هو عدد الأفلام التسجيلية العربية التي تنتج(سجالاً بصرياً وفكرياً)؟
هناك بلا شك أفلام تقع في هذه الدائرة، ولكن القليل منها يولد هذا السجال البصري في العالم العربي على نطاق يسمح بإفراز مقدمات ولبنات لتأسيس نظرية مستقلة في نقد السينما التسجيلية والوثائقية. وجل الكتابات العربية في هذا الميدان تعتمد على التراث الغربي وما أنتجته السينما الأوروبية والأمريكية من نظريات، لذلك لا يمكن تلمس نظرية عربية للنقد الوثائقي لذا يجب أن ننتظر أن يفرز الواقع أفلاماً قادرة على تسجيل سجال بصري وفكري.
إن الاعتماد على المصادر الغربية أمر لا بد منه لأن الواقع العربي لم يفرز أفلاماً وثائقية لا كماً ولا كيفاً من أجل صياغة هذه النظرية الموعودة.
يضطر النقاد العرب للاستعانة بالمصطلحات الغربية، حتى أن كلمة وثائقي تندرج ضمن التصنيفات المنهجية الذي توصلت إليها السينما الغربية، من خلال تمييزها وتعريف ماهية الفيلم الوثائقي وعلاقته بالأجناس الأخرى وخاصة الفيلم الخيالي أو الروائي.
يمكن القول إن الفيلم التسجيلي هو ما يعرض فيه مخرجه لحقيقة علمية (تاريخية، سياسية…) بصورة حيادية ودون إبداء رأي فيها. هذه الحيادية والموضوعية من شأنهما أن تجعلنا نميّز بين الفيلم الوثائق الإشكالي وبين الفيلم الوثائقي التبسيطي لأن الأول يثير الحوار والجدل والنقاش من خلال ارتباطه بالواقع، وهذا ما يؤدي إلى إيجاد التفاعل المطلوب.
الخيال في الفيلم الوثائقي
لم يحظ المخرج الوثائقي بالتقدير الذي لقيه المخرج الروائي في عالمنا العربي. كما أن غالبية المخرجين العرب يرفضون تسمية مخرج وثائقي، معتقداً بقصور هذا الفيلم عن التعبير والتجسيد لأن ذلك نابع من عدم فهم أبعاد الفيلم الوثائقي. وقبل ظهور “الجزيرة الوثائقية” لم يكن للفيلم الوثائقي أية قيمة في الترويج والعرض.
كل هذه الأمور هي معوقات حقيقية لظهور الفيلم الوثائقي العربي
بينما يزخر العالم بقنوات تلفزيونية فضائية عالمية متخصصة في عرض وإنتاج الفيلم الوثائقي وهناك شركات إنتاج متخصصة في هذا المجال بينما لا نرى في العالم العربي مؤسسات إنتاج خاصة لإنتاج الفيلم الوثائقي إلا ما ندر. وترى هذه الشركات أن الفيلم الوثائقي أقل كلفة ويُسوق أقل بكثير من سعر الفيلم الروائي، وتستخدم معظم القنوات التلفزيونية الوثائقي لمجرد سد الفراغ. هذه معوقات تُضاف إلى المعوقات الأخرى أمام تطور الفيلم الوثائقي.
وهناك معوق أساسي أمام المخرجين وهو اعتقاد معظمهم أن الفيلم الوثائقي يقتصر على نقل الواقع كما هو بينما الفيلم الوثائقي المتميز يحتوي على عوالم متخيلة تتجاوز الواقع، وتضفي عليه حقائق أخرى. خاصة وأن الفيلم الوثائقي يتمتع بقدرة على التزييف والتأثير على الرأي العام ما يفوق قدرة الفيلم الروائي على ذلك.
لقد جاء أندريه بازان وروبرت فلاهرتي وغيرهما بنظرية اعتماد الفيلم الوثائقي على الحقيقة غير المزيفة أو المصطنعة، أي المفعمة بالمادة الحياتية، وتعالج الواقع بطريقة خلاقة ومبدعة بحيث يفسح المجال واسعاً أمام النقد لمناقشته والغوص في أعماق المجتمع.
يمكن القول، إن الثورات التي قامت في البلدان العربية لم تفرز رواداً للأفلام الوثائقية، كما هو الحال في الثورة السوفيتية والثورة الكوبية على سبيل المثال لا الحصر، حتى وإن عكست السينما التسجيلية آنذاك الحقيقة من منظور شيوعي إيديولوجي محدد! ومنذ ذلك الوقت، تحولت الصورة إلى قوة تأثيرية كبرى في الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وبريطانيا.
![]() |