تلقي الفيلم الوثائقي في العالم العربي

د. الحبيب ناصري

تقديم

الفيلم الوثائقي (1) ،مكون ثقافي وفني وتربوي وجمالي،به، من الممكن، أن نراهن في عالمنا العربي، على تطوير ذوقنا ،والسموبه، وجعله ينفتح على الأسئلة الكبرى المحددة لإشكالياته الأساسية والجوهرية،ثقافيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا وروحيا (2)، في زمن عولمة مخيفة ومرعبة (3)،بل في زمن يسير عالمنا نحو ما أصبح يسمى بعولمة العولمة (4)،على الرغم مما تنهض عليه هذه العولمة، من ‘تدفقات’ معلوماتية وسمعية وبصرية،متعددة ومكسرة للعديد من الحواجز بمفهومها التقليدي. ضمن هذا السياق،تتولد الحاجة إلى الفيلم الوثائقي (5)، في عالمنا العربي، الذي يمر اليوم من منعطف تاريخي، سيلعب فيه الفيلم الوثائقي دورا هاما،في الكشف عن طبيعة هذه الذات العربية وعلاقاتها البسيطة والمركبة،مع ذاتها والآخر ككل. في ضوء هذا المعطى، نتساءل عن طبيعة تلقي العربي، لهذا المكون السمعي البصري، والثقافي، والفني، والجمالي،في ظل وضعية سوسيوثقافية تتميز بالعديد من المعالم التي كشفت عنها مجموعة من الدراسات والبحوث (6). إنه التساؤل الذي سنعمقه من خلال مجموعة من المحاور وهي كالتالي.

ـ ما موقع الفيلم الوثائقي في سياق إعلامه العربي؟، وكيف يتلقى المتفرج العربي العام،هذه المادة السمعية البصرية الثقافية والاجتماعية؟وما موقع الفيلم الوثائقي في كتاباتنا النقدية العربية؟وما درجة اهتمام بحثنا العلمي العربي بهذا الخطاب الفيلمي؟  إنها أسئلة جوهرية،من خلالها من الممكن، أن نمسك ببعض العناصر التي من شأنها توضيح كيفية تلقي العربي  لهذا الجنس التعبيري والفني والثقافي الذي به وضعت السينما كفن سابع،أولى خطواتها (7) بل به  تلقى العالم أولى الصور المتحركة التي أبهرت الجميع،وكانت بالفعل أهم و/أو أخطر ما اكتشف الإنسان،مما جعل عصره يسمى بالفعل عصر الصورة (8) ،ومن ثم الممسك بأسرارها هو ممسك بجزء مهم من أسرار هذا العالم.

العربي والفيلم الوثائقي  

 تشكل ثقافة الصورة بمفهومها الأيقوني العام الحديث،مجالا جنينيا في البحث والاهتمام داخل منظومتنا العربية التربوية والعلمية والثقافية،وذلك راجع الى طبيعة العلاقة الرابطة بين العربي والصورة بمفهومها الأيقوني وليس البلاغي، كعلاقة استهلاكية في الغالب الأعم،مما جعل صورته الثقافية ‘النمطية’ تصنع من طرف الغير،دون نفي أن  بعض الأعمال العربية،  بدأت تخلخل هذا التصور،في أفق الانخراط في رسم صورة حقيقية عن طبيعة هذا العربي ككل.

 قليلة هي الدراسات والبحوث، المبنية على روح المساءلة العلمية،التي فككت سؤال تلقي العربي لثقافة الصورة بشكل عام،وثقافة الفيلم الوثائقي بشكل خاص،مما يجعلنا نثمن،هذه المبادرة التي تقوم بها إدارة الجزيرة الوثائقية،في جمع هذه الدراسات والمقالات العربية،ونشرها وتوزيعها داخل وخارج عالمنا العربي،مما سيخلق تراكما كميا وكيفيا،من شأنه المساعدة على تفكيك هذه العلاقة الموجودة بين العربي وكيفية تلقيه لمكون ثقافي وفني وجمالي،في زمن العولمة،ونقصد الفيلم الوثائقي(9)،’كجنس’،تعبيري سمعي بصري،لازال يقاوم من أجل نزع هويته وشرعيته المهنية في العديد من الأقطار العربية.

الفيلم الوثائقي في سياق وسائل الإعلام العربية

إن الحديث عن اهتمام وسائل الإعلام العربية،بالفيلم الوثائقي،حديث يجرنا إلى علاقة هذه الوسائل،بثقافة الصورة ككل، علاقة لا يمكن فهمها إلا في ضوء علاقة التصور الثقافي الرسمي العام السائد، خصوصا في حقب تاريخية وسياسية عربية،لاسيما وأن طبيعة التمثلات السائدة عن السينما،ككل،والفيلم الوثائقي على وجه الخصوص،يدخل في سياق ‘الترفيه’،وليس في خانة تطوير الذوق العام نحو ما هو أفضل وأكثر انفتاحا على العالم.

 لمعرفة طبيعة هذه التمثلات السائدة،دون نفي لوجود بعض الاستثناءات،يكفي تتبع ما يكتب في الصحافة العربية وكيفية ترتيبها للمواد الثقافية بشكل عام والفيلمية بشكل خاص،حيث تحتل الصفحات الأخيرة وبشكل كمي يضعف،بل ينعدم أحيانا، لترك المكان لمادة إشهارية، قد تتناقض أحيانا مع روح ما ينشر في هذه الصفحة الثقافية،لكي تبقى السياسة،المكون المهتم به بشكل  ملحوظ.
 إن ظهور التلفزيون في عالمنا العربي،ظهور تم ‘تسييسه’،منذ البداية،مع التأكيد، على أن هذا التسييس،قد ‘خفت’، إلى حد ما،لغته خصوصا في بعض البلدان العربية،التي سمحت بتحرير المشهد السمعي البصري،وهو ما أعطى الفرصة لتتحرر بعض الأقلام والبرامج والأفلام الوثائقية والروائية،وتوسيع مساحات المهرجانات المختصة الخ،مما سمح بإطلالات فنية وثقافية عربية،تعمقت بشكل ملحوظ، مع ازدهار ما يسمى بالربيع العربي،حيث لعب فيه جسد البوعزيزي وعربته،دورا هاما،أسقط من خلاله العديد من الأقنعة العربية السياسية.
حديثنا هذا،وبهذا الشكل،هو من أجل أن نؤطر ضمنه،كيفية تلقي هذه الوسائل الإعلامية العربية،لثقافة الصورة،بشكل عام. فإذا كانت هذه الوسائل،بين الفينة والأخرى، تقدم مواد إخبارية معلوماتية،عن بعض الأفلام الروائية،فهي في المقابل،كانت تساير تهميش الفيلم الوثائقي،في ظل تمثل سائد لديها حول هذا الشكل التعبيري،ومراده أنه نوع ثقافي ‘نخبوي’،غير مستقطب لمتلق متعدد، مما جعل التصور السائد في العديد من وسائل الإعلام العربية،كالتلفزيون مثلا،مرتبط ببرمجة كمية قليلة للفيلم الوثائقي،وهي برمجة، يفاد منها،مجرد سد فراغ زمني إعلامي، وقد ولد هذا، نوعا من النظرة ‘الدونية’ للفيلم الوثائقي،مما جعل الاشتغال عليه يدخل في باب المبادرات الأولى.
لكن،وفي ظل بعض التحولات الآتية من ريح العولمة، كبعد ليبرالي (10) ،المحولة لهذا العالم، إلى فضاء صغير،حيث الفضائيات الأجنبية،كانت ولا تزال قبلة مفضلة للبعض،تم الانتباه إلى مكانة الفيلم الوثائقي، وما تولده من كتابات ومناقشات ومهرجانات واستثمارات الخ،بل تم التأكد من ولادة قنوات متخصصة في هذا اللون التعبيري والفني والثقافي والجمالي،مما جعل العربي،هنا،عبارة عن مادة فيلمية وثائقية،مادة نمطية تضليلية،في الغالب الأعم،إنها الصورة التي تقدم عنا كعرب في معظم هذه القنوات.
في هذا السياق،بدأت بعض الشبكات الإعلامية العربية،تنفتح على الفيلم الوثائقي،مما سمح،وفي ظل الحاجة الثقافية والسياسية العربية لهذا الشكل التعبيري،من توسيع نسبة الاهتمام من خلال إحداث بعض القنوات القليلة والمتخصصة في هذا المجال، وهو ما ساهم في تطوير الحاجة إلى الفيلم الوثائقي،وبداية إنتاجه ولو لفائدة هذه القنوات العربية.
من الممكن الجزم أيضا،أن ربيعنا العربي،أعطى أيضا شحنة قوية، لكتابة وإخراج أعمال فيلمية وثائقية عربية مهمة،مما ولد الرغبة، لدى بعض وسائل الإعلام العربية،كالتلفزيون والصحافة المكتوبة وبعض المواقع الالكترونية المتخصصة،في التعاطي مع الفيلم الوثائقي،الذي بدأ نسبيا،يفرض مدلوله لدى  بعض الفئات من مجتمعاتنا العربية،ولو أنه اهتمام،يقدم من سياقات ّإخبارية معلوماتية.

كامل المقال


إعلان