نقد الفيلم التسجيلي: أسس المعرفة والتناول
أمير العمري
من المهم أولا أن يعرف الناقد الذي يرغب في التعامل المكثف والمتعمق، مع الفيلم الوثائقي، كيف يتجاوز ذلك الجدل الذي شغل النقاد المهتمون بأمر هذا النوع من الأفلام عقودا في ثقافيتنا العربية بوجه خاص، وتمحور حول التفرقة بين الفيلم الوثائقي والفيلم التسجيلي، فقد اتفق الباحثون في العالم، الذي تتقارب فيه الأفكار وتتجادل الثقافات على نحو يشبع ويثري المصطلح ويطوره، على استخدام مصطلح “الفيلم غير الخيالي” non-fiction film لوصف هذا النوع الذي يختلف بالضرورة في بنائه وشكله وطريقة إنتاجه وتصويره عن الفيلم الخيالي fiction film
غير أن هذا المصطلح (أي الفيلم غير الخيالي) لم يمتد بعد إلى الثقافة العربية والنقد السينمائي العربي، ليس لأن لا أحد يعترف به أو يستوعبه، بل لأن معظم المشتغلين بالنقد يجدونه مصطلحا ثقيلا أو مركبا، أو ربما لن يمكنه أن يوصل للقاريء المعنى المراد توصيله بدقة كما في اللغات الأجنبية.
لذلك، ولتجنب الجدل الطويل حول التسجيلي والوثائقي وغير الخيالي، سوف أستخدم في هذه الدراسة مصطلح الفيلم “التسجيلي”.. ولكن بعيدا عن ذلك التعريف الكلاسيكي الضيق الذي قد يدفع البعض الى المجادلة بالتقليل من شأن “التسجيلي” مفضلين “الوثائقي”، مثيرين عادة، الكثير من الجدل في التفرقة بين التسجيلي والوثائقي، في حين أننا أصبحنا في الحقيقة منذ سنوات، أمام نوع آخر من الأفلام يشمل الوثائقي والتسجيلي، والروائي – التسجيلي، أي الفيلم الذي لا يكتفي باستخدام الوثائق ولا بتصوير الواقع أو باعادة تجسيده، بل ويستخدم أيضا العناصر الدرامية والأشكال المختلفة التي أتاحتها التكنولوجيا البصرية الجديدة ومنتجاتها مثل الرسوم والجرافيك والتحريك واللوحات والمؤثرات الخاصة، بل ومن الممكن أن يعتمد على “حبكة” ما، وعلى “رؤية” ذاتية لصاحب الفيلم أي مخرجه الذي قد يستخدم أيضا التعليق الساخر المباشر، والكتابة التي تحمل بعض الاستهجان والاعتراض والسخرية مما نراه على شريط الصورة، بدلا من تلك الرؤية “الموضوعية” التقليدية أو ذلك الصوت “المحايد” الصادر من أعلا، أي من خارج الصورة، والذي ينبئنا بأننا أمام حقيقة “موضوعية” يتعين علينا قبولها والإقرار بها بدلا من طرح التساؤلات المختلفة حولها.
ويبقى الفيلم هو الفيلم، سواء كان عملا تسجيليا أم روائيا، دراميا خياليا، لكنه يختلف دون شك، عن الجريدة السينمائية، والريبورتاج التليفزيوني أو البرامج التليفزيونية التي تستخجم لقطات صورت من الواقع مباشرة، سواء في إطار التقرير الإخباري التليفزيوني، أو لتطعم بها برامج الحوارات.
هدف الفيلم
دعونا نتفق أولا على أن ما يميز الفيلم “التسجيلي” بشكل عام هو ضرورة أن يكون له هدف، وأن يتعامل مع الحقائق الكبرى والقضايا الكبرى، حتى لو كان ينطلق من تصوير موضوع محلي قد يبدو للمتفرج صغيرا. ولعل في هذا أيضا يكمن خلاف مهم بينه وبين التقارير أو الريبورتاجات التليفزيونية التي عادة ما تصور أحداثا طارئة شديدة المحلية قد تهم سكان منطقة معينة هي تلك التي تغطيها المحطة التليفزيونية التي تنتجها أو تبثها.
وفيلم القضية الكبرى يختلف بالتأكيد عن فيلم “الدعاية” (السياحية أو السياسية أو الاقتصادية.. إلخ).
تورد الدكتورة منى الحديدي في كتابها “الفيلم التسجيلي: تعريفه، اتجاهاته، أسسه وقواعده” أن الاتحاد الدولي للسينما التسجيلية حدد عام 1948 الفيلم التسجيلي بأنه “كل طريقة للتسجيل على شرائط السيلولويد لأي مظهر من مظاهر الواقع، وذلك بتقديمه عن طريق التصوير المباشر أو بإعادة البناء المخلص والمنطقي ليتمشى مع العقل والعاطفة من أجل إشباع الرغبة في توسيع المعرفة والادراك وعرض المشكلات وحلولها بأمانة. وذلك في المجالات الاقتصادية والثصقافية والعلاقات الإنسانية”.
هذا التعريف أصبح في تصوري، في حاجة اليوم إلى كثير من المراجعة، بل إن المراجعة قد حدثت مرات ومرات منذ 1948 وحتى يومنا هذا، وقد حدثت هذه المراجعة عن طريق النقد، وما ساهم به النقاد السينمائيون، وأساتذة السينما، والسينما التسجيلية بوجه خاص، من جهود وأبحاث ودراسات، أعادت النظر في الكثير من المسلمات التي كانت مستقرة طويلا لدى الدارسين.
أولا لم يعد مجال الفيلم التسجيلي يقتصر عل التسجيل على “شرائط السيلولويد”، بل أصبحت الكاميرات الرقمية (الديجيتال) التي تختزن الصور في ذاكرتها ويمكن بعد ذلك إنزالها وتخزينها على ذاكرة جهاز الكومبيوتر ثم القيام بعمل المونتاج لها، هذه الكاميرات أصبحت الوسيلة السائدة اليوم أمام صناع الفيلم التسجيلي، ليس فقط بسبب رخص أسعاره، بل بسبب صغر حجمها وسهولة حملها وبالتالي القدرة على اقتحام العديد من الأماكن المزدحمة التي قد يشكل التصوير فيها مخاطرة ما، أو الأماكن الضيقة المرتفعة، أو غير ذلك من المواقف التي تشتعل بالأحداث المعقدة، حيث لم يعد ينفع أن ينصب السينمائي كاميرا سينمائية واضحة كبيرة فوق حامل على الملأ ثم يقوم مساعدوه بضبط الإضاءة ووضع عاكسات الضوء المناسبة، ثم استخدام العدسة المناسبة أكثر للحدث وضبط بؤرتها والتحكم في حجم اللقطة..إلخ فقد يكون الحدث قد بدأ وانتهى بينما المخرج ومساعدوه مازالوا يعدون العدة لتصويره!
![]() |