أفلام محمود مساد : المكان والشخصيات

ثلاثة أفلام تسجيلية هي حصيلة المخرج الأردني “محمود مساد” التي جعلت منه مخرجا ذائع الصيت في أوساط المهرجانات السينمائية الدولية، التي منح العديد منها أفلامه  هذه جوائز هامة.
 تختلف أفلامه الثلاثة هذه في المواضيع التي تطرحها، لكنها  جميعها يجمعها ميل واحد لدى المخرج يتمثل أولا: في اعتماد كل  فيلم على شخصية رئيسية ذات خصوصية متميزة، يقدمها المخرج بمثابة نموذج ينطلق من التعريف به نحو تعميمه كحالة إنسانية هي نتاج وضع اجتماعي مؤثر.
 وثانيا: في التركيز على المكان والبيئة اللذين يحيطان بالشخصية.
وثالثا: في العناية الخاصة باستكشاف والتعبير بصريا عن جمال المكان والبيئة، بخاصة وأنه يقوم بنفسه بتصوير أفلامه.
 ورابعا: في الأسلوب الحديث الذي صار يلجأ إليه العديد من المخرجين التسجيليين الذين يختارون السير الشخصية لأناس يتمتعون بميزة ما  كمواضيع لأفلامهم، وهو الأسلوب الذي يستفيد من بعض عناصر السينما الفنية الروائية للتعبير عن الموضوع الذي يعالجه، وبخاصة جعل الشخصية تعيش حياتها أمام الكاميرا وفق ترتيب مسبق، أي جعلها تمثل حياتها.
“محمود مساد” – مخرج أردني – من مدينة “الزرقاء” ثاني اكبر المدن الأردنية، غامر في بداية دراسته في إحدى الجامعات الأردنية فترك الجامعة، وهاجر إلى أوروبا وأقام في عدد من المدن الأوروبية قبل أن يستقر نهائيّا في هولندا، مقتربا من حلمه في أن يكون مخرجا سينمائيا.
 بعد سنوات من العيش والدراسة استطاع “محمود مساد” أن يحقق بجهوده الذاتية أوّل فيلم تسجيلي له تحت عنوان” الشاطر حسن”، والذي حظي بالنجاح خاصّة وأنه أدمج فيه افتتاحية وخاتمة روائية، وهو أشبه ما يكون بسيرة ذاتية لـ “هاجر مغربي” في هولندا؛ وجاء فيلمه الثاني” إعادة خلق” كـ: سيرة ذاتية لرجل بسيط سبق له أن انخرط في صفوف المجاهدين في أفغانستان؛ أما فيلمه الثالث والأخير كان بعنوان “هذه صورتي وأنا ميّت” فيحتوي على سيرتين معا تخصان أب وابنه.

فيلم” الشاطر حسن”
 
فيلم “الشاطر حسن” (سنة 2000)، هو الفيلم التسجيلي الأول للمخرج الأردني المقيم في هولندا “محمود مساد”، وهو فيلم متوسط الطول في مدّة زمنيّة لا تتجاوز الأربعين دقيقة، يروي فيه شخصية متشرد مغربي يعيش في شوارع العاصمة الهولندية.
لجأ “محمود مساد” في فيلمه هذا إلى المزج بين مادتين، احداهما “روائية تمثيلية” وأخرى “تسجيلية”، حيث تبدأ أحداث الفيلم بمشهد تمثيلي نرى فيه أماّ شابة تروي لطفلها قبيل نومه مقطعا من الحكاية الشعبية عن الشخصية الأسطورية “الشاطر حسن”. بعد هذا المشهد التمثيلي، ينتقل الفيلم ليروي حكاية “الشاطر حسن” – معاصر-، لا عن طريق التمثيل، بل من خلال مادة تسجيلية تتابع وقائع يومية من حياة رجل مغربي يدعى “حسن”، وهو متشرد يعيش في شوارع المدينة، رأى فيه المخرج أنموذجا واقعيا لشخصية الشاطر حسن الأسطورية، وذلك على الرغم من الفارق الكبير بين الشخصيتين، على الأقل من حيث حجم ونوعية المعاناة، فموضوع “الشاطر حسن” الأسطوري يرتبط بحكاية حب بين صياد وأميرة وفرص للحصول على الثروة، في حين أن حكاية “حسن” المعاصر حكاية شخص يصارع في سبيل محض العيش ولو العيش البائس لإنسان يستسلم لقدره ولا يبدو عليه أي طموح للتخلص من بؤسه.
( تابع المخرج تصوير حياة هذا المتشرد على مدى ثلاث سنوات، ويتضح من الأحاديث التي يدلي بها بطل الفيلم للمخرج أنه في البداية، وكان يبدو أصغر سنا، كان يقر بأنه لا يمانع في أن يكون له بين وعائلة، في حين أنه في اللقطات التي صورت في السنة الثالثة يبدو إنسانا هرما مستسلما لواقعه).
يربط المخرج بين المادتين والشخصيتين بواسطة التعليق الذي نسمعه من خارج إطار اللقطة و الذي يعبر عن صوت المؤلف، أي بين المادة التمثيلية التي تشكل افتتاحية الفيلم والمادة التسجيلية التي تشكل الهيكل الأساسي للفيلم.

محمود مساد أثناء تصوير أحد أفلامه

 يقول صوت المخرج إن أمه كانت دائما تروي له حكايات عن “الشاطر حسن” الذي كان يجتهد ليحصل على الطعام من أجل والدته وذلك قبل أن يتمكن من اصطياد سمكة وعدته بأن تحقق له أمانيه، وأن “الشاطر حسن” بات بطلا وصديقا بالنسبة له لا يفارق مخيلته وأحلامه.
ويضيف صوت المخرج أنه بعد أن ترك أهله و غادر وطنه في الشرق الأوسط هاجر إلى أوروبا سعيا وراء تحقيق حلمه لم يعد يفكر بـ “الشاطر حسن”، إلى أن تحولت الحكاية الأسطورية إلى حقيقة عندما التقى بشخص يدعى “حسن” ( هذا ليس اسمه الأصلي بل الإسم الذي يطلقه عليه معارفه)، فقط “حسن” بدون إلصاق صفة الشاطر به، وانه سيروي قصته.
يشكل تعليق المخرج هنا مدخلا أسلوبيا أدبيا للحكاية الواقعية المعاصرة، سيواصل المخرج استخدامه على مدار الفيلم.
يكتسب التعليق الأدبي بعدا عاطفيا بالعلاقة مع التعبير البصري الموازي، مثال ذلك عندما  نرى، بالتوازي مع النص الأدبي في بداية الفيلم ، لقطة مظلمة يتوسطها ضوء خفيف يأتي من مدخل نفق( هذا النوع من التشكيل سيتكرر في العديد من لقطات الفيلم)، ثم يعبر منه شخص لا تبين ملامحه بسبب العتمة، ثم تعرض الكاميرا لقطة للمدينة لحظة غروب الشمس و تتابع الكاميرا طريقها ببطء وسط نهر، ليقطع المخرج بعد ذلك على لقطة لـ  “حسن” واقفا في الشارع تحت المطر الغزير قبل أن يشرع في الركض هربا من المطر.
يعكس هذا المدخل بعض ملامح أسلوب “محمود مساد” الذي لا يكتفي بتقديم مادة واقعية بل حرص على عرضها بإعتبارها عملا فنيّا مشبع بالحس الجمالي والعاطفة الإنسانية، كما أن المقارنة بين “حسن” الأسطورة و”حسن” الواقعي تتضمن في جوهرها وإن بصورة غير مباشرة، نوعا من الميل نحو التعبير الساخر القائم على المفارقة، وهذان الأمران أي “الحس الجمالي”
والميل لـ “لتعبير الساخر”، هما ما سيمكن ملاحظته أيضا في فيلمه الثاني” إعادة خلق” و إلى حد ما كذلك في فيلمه الثالث ” هذه صورتي وأنا ميت”.
“حسن” الحقيقي، الواقعي، والمعاصر- بطل الفيلم -، رجل مغربي يبدو في أوائل الأربعينيات من عمره، أقنعته امرأة هولندية بالهجرة إلى هولندا واعدة إياه بحياة رغيدة، لكنها بعد أن عاش معها في هولندا بضع سنوات وأنجبت منه أطفالا، تخلت عنه وهجرته مما أدى به إلى عيش حياة التشرد التي سرعان ما إعتادها وتآلف معها، خاصة وأن حياة الشوارع لم تكن غريبة إذ أن العمل الوحيد الذي عثر عليه بعد هجرته إلى هولندا كان العمل في التنظيف.
لا يبدأ الفيلم من ماضي “حسن” بل من حاضره كـ “متشرد”، لا نعرف من الفيلم كيف كان “حسن” يعيش في بلاده، بإستثناء قوله أن حياته كانت مريحة وسط أهله، ولا نعرف كيف التقى بالمرأة الهولندية التي ستصبح زوجته وتقنعه بالهجرة، ولا يفسر المخرج لماذا تخلت زوجة “حسن” عنه؟ ولماذا اختار حياة الشوارع؟ أو تحديدا لماذا أصبح متشردا؟
 فما يهمه من الشخصية هو وضعها الحالي ونموذجها الذي ينطبق على العديد من المهاجرين الذين تحولوا إلى متشردين تغص بهم شوارع أوروبا.
هيئة “حسن” لا تختلف عن هيئة أي متشرد يسير بثياب قذرة ويتأبط حقيبة بالية يضع داخلها مقتنياته المتواضعة؛ يقتات “حسن” مما يتصدق عليه المارة من نقود قليلة لقاء عزفه على قارعة الطريق موسيقى شرقية بواسطة الناي مستخدما يديه اللتين شوهت منظرهما آثار الحروق التي أصيب بها بفعل إقدام شخص مجهول على حرقه حين كان نائما يفترش الشارع،  نقود يصرف بعضها على شراء لقمة العيش وبعضها على المخدرات التي بات مدمنا عليها.
يصور المخرج بطله “حسن” وهو يعزف في الشوارع..يصوره وهو يتناول طعامه..يصوره وهو يتعاطى المخدرات..يصوره وهو يتحدث أمام الكاميرا.

كامل المقال


إعلان