فيديوهات الانترنت … درس الوثائقي الجديد
شاكر عيادي
مخرج سينمائي
محاضر بقسم الاعلام بجامعة قطر
غالبا ما تتسبب طبيعة الفيلم الوثائقي في جدالات ساخنة خاصة اثناء المنعطفات الكبرى للتطورات التكنولوجية والاختراعات لأدوات جديدة في صناعة الافلام. العلاقة بين الفيلم الوثائقي و “الواقع” ، بعيدا عن كونها قد حسمت ، ما انفكت تخرج على السطح من حين الى اخر. على نفس القدر من الأهمية الآن هي سلامة النص الوثائقي نفسه. فقد تعود المتلقي للفيلم الوثائقي منذ بداية السينما على قبول النص الوثائقي دفعة واحدة، في مكان واحد، وبنفس الطريقة الخطية التي ارتاها المنتج. لكن مع تطور التقنيات الجديدة وبروز المبدعين القادرين على التحكم في الوسائط التقنية الحديثة، ولا سيما الانترنت ، من المهم أن نعيد النظر في الفيلم الوثائقي كعمل متكامل ومتواجد في مكان واحد ، تتم صياغته من طرف مجموعة مترابطة، ويتم تقديمه كما ورد نصا متماسكا وله بداية ومتن ونهاية. قد يكون الوقت قد حان لإعادة صياغة تعريف قريرسون الشهيرة للفيلم الوثائقي ك “معالجة خلاقة للواقع”، و تضمينه تحديدا أكثر شمولية لإضافة التفاعل ، وإشراك المتلقي في العملية الإبداعية للإنتاج، وإمكانية إعادة ترتيب محتوى الفيلم. الاختراقات الحديثة في مجال تكنولوجيا الاتصال تحتم إعادة النظر في مفهوم الفيلم الوثائقي من زوايا مختلفة والتي تمثل في الأصل جوهره : تمثيل الواقع، تطور الأسلوب، وطبيعة التأليف.
تمثيل الواقع
بخلاف الحركات الفنية الأخرى لا يزال الفيلم الوثائقي يتصارع مع القيود المفروضة عليه، التوقعات منه، وشروط البقاء وفيا لـ”الواقع”، مهما تباينت مفاهيم “الواقع”. منذ بداية وجوده تمتع الفيلم الوثائقي بالاستثناء في تمثيل “الواقع” وهو ما يجعله نوعا خاصا من السرد. في الواقع، مهما كانت الأساليب والموضوعات والمقاربات التي يعتمدها الفيلم الوثائقي، فإنه لا يمكنه أن يتجنب إعطاء الانطباع بعرض “الواقع” أو على الأقل تمثيله. ولكن هذه العلاقة الوجودية بين النص الوثائقي و”تمثيل الواقع” هي بالضبط التي تطرح اشكاليات عدة مهما كان الاستثناء الذي يتمتع به. لأن “الواقع” دائما ما يأتي الينا ، في أحسن الأحوال، عبر وسيط فإن مفهوم “الواقع” نفسه يبقى غير مؤكد و يصعب الامساك به او التمكن منه.
بطبيعته واثناء تسجيل ما يحدث يستغل الفيلم الوثائقي قدرته الضاربة والغير متكافئة مع “الشخوص الاجتماعيين”، كما يسميهم بيل نكولز، وينتهك بالضرورة خصوصيتهم. قد يخضع الشخص ويقبل هذا التطفل المتبادل والتدخل المؤقت، ولكن في واقع الأمر لا يوجد لديه من مفر لحماية نفسه سوى الكذب في بعض جوانب حياته او المبالغة فيها تماما. وعلاوة على ذلك، لا بد لصانع الفيلم الوثائقي، حالما ينتهي من جمع كمية كبيرة من المواد المصورة والمسجلة، ان يعهد بها لمونتير الفيلم ليتمحصها و يدقق فيها. يستخدم المونتير الترسانة التقليدية في تشكيل و بناء التسلسلات المحتملة ،و الاختصار أو الحذف، والعناوين الفرعية، والتعليق والمؤثرات البصرية والصوتية. نتيجة لذلك، ما قد ينتج في وقت لاحق هو الحصول على فيلم له علاقة أكثر بوجهة نظر المخرج ونظرته للعالم، أكثر منه بالشخوص الممثلة فيه. في هذا المعنى، ونتيجة لذلك، يمكن اعتبار الفيلم الوثائقي كشبه رواية من الخيال يتم بناؤه بأشياء يعثر عليها.
على الرغم من أن المشاهد يتوقع من النص الوثائقي ان يقدم جزءا من “الواقع”، علينا أن ندرك أنه، في واقع الأمر، لا يتعدى إلا أن يكون عملا فنيا بمفاهيم مشكلة مثل أي شكل فني آخر. يحكي الفيلم الوثائقي قصة ويضفي انطباعا مثل أي عمل اخر من اعمال الفن السردي. يستخدم صناع الفيلم الوثائقي جميع الوسائل اللازمة والمتاحة تحت تصرفهم من أجل تكثيف الأحداث، وتوضيح توجهات الشخوص الاجتماعية، واستبعاد أية مواد من شأنها إضعاف تماسك الفيلم الوثائقي. كل هذه التدخلات الفنية، في أحسن الأحوال، تدعو إلى إعادة النظر في الفيلم الوثائقي كوثيقة مطابقة للأصل، ومدى استحقاقه لـ “تمثيل الواقع”. بالتالي لا يمكننا أن نكون قادرين على الحديث عن عملية التوثيق لـ”الواقع”، ولكن يمكننا تأجيل ذلك لأجل غير مسمى، آخذين تفكيكية دريدا كملاذ امن.
لذا، ليس هناك تعريف شمولي وجامع لمفهوم الفيلم الوثائقي أو حتى “الواقع”. علينا إذًا أن نسلم بأنّ الفيلم الوثائقي يعرض قصصا ذاتية ومحلية، تتفاعل مع قصص أخرى موجودة أو ستوجد. ولكن ما يجعل الفيلم الوثائقي نصا جذابا وواسع الانتشار هي تلك القصص الذاتية والشخصية، التي يعرضها من وجهة نظر الشخوص الاجتماعية وصانع الفيلم على حد سواء.
![]() |