“الرّأس الأخرى”: تأمّلات في أيقونة محمّد البوعزيز
د. عادل خضر- أكاديمي تونسي
أحترق وأُبعث من ناري… أو تحوّلات الفينيق
يبدو أنّ الثّورة التّونسيّة لم تكن مسرحا للتّحوّلات السّياسيّة فحسب، وإنّما كانت فضاء واقعيّا تحقّقت فيه أحلام الشّعراء. فأدونيس الّذي تغنّى كثيرا في أشعاره بطائر الفينيق الأسطوريّ “فينيق يا فينيقْ/ يا طائر الحنين والحريقْ/ أنت من يرى ظلامنا/ يُحسّ كيف نَمّحي/ فينيق متْ فدى لنا” لم يكن يخطر بباله في يوم من الأيّام أنّ أسطورة هذا الطّائر سيخرجها على مسرح الواقع شابّ يحمل اسم محمّد البوعزيزي، أقدم ذات يوم على إحراق نفسه، فاحترق كما احترق في الأسطورة فينيق، أو احترق كما احترق الفينيق في قصائد الشّعر “لتبدأ الحياة”، أو احترق محقّقا نبوءة شاعر قال ذات يوم: “فينيق لتبدأ بك الحرائق/ لتبدأ الشقائق/ لتبدأ الحياة”.
بيد أنّ محمّد البوعزيزي ليس أسطورة تمّوزيّة من أساطير الموت والانبعاث، وإنّما هو حكاية الإنسان العربيّ في زمان البيوسياسيّbiopolitique ، هذا الإنسان الّذي جعلته الأنظمة العربيّة الدكتاتورية “إنسانا زائدا على الحاجة” l’homme superflue (حنّا أرندت)، يعيش في مدن قد حوّلتها سنوات طويلة من الاستبداد إلى معتقلات، فانقلبت حياة المواطن من جرّاء ذلك إلى “حياة عارية” مجرّدة من جميع حقوق المواطنة السّياسيّة والحقوق الإنسانيّة.
يمثّل محمّد البوعزيزي كذلك صنف “الإنسان المقدس” أو “الهومو ساكار” homo sacer، أي هذا الإنسان الّذي يمكن قتله دون أن نقترف بقتله أيّ جرم، ولكنّه أيضا الإنسان الّذي لا يمكن التّضحية بقتله في أيّ شكل من أشكال القتل الطّقوسيّة. وقد اتّخذ هذا الإنسان اليوم صورا عديدة وأصنافا بشريّة متزايدة مع الأيّام، منهم النّاس “بلا أوراق” بفرنسا، و”حارقو الحدود” بتونس، وسكّان الفافلاسfavelas (الأحياء القصديريّة الفقيرة) بالبرازيل، وسكّان الغيتوات من الأفرو – أمريكيّين بالولايات المتّحدة، وسكّان الملاجئ الّتي شيّدت لتوزيع المعونات الإنسانيّة، والمستفيدون من مؤسّسات الإعانة الإنسانيّة… جميع هذه الأصناف (والقائمة طويلة…) وجوه حديثة من “الإنسان المقدّس” قد مثّلها اليوم أولئك الّذين سحبت منهم إنسانيتهم، وأضحوا الموضوع الأثير للبيوسياسة. فـ”الإنسان المقدّس” عموما هو الّذي لا يشمله القانون لأنّه بلا حقوق وخارج القانون في الزّمان البيوسياسيّ.
يكفي أن نتابع حكاية محمّد البوعزيزي في يوم موته المشهود حتّى نعتبر حدث الموت بالاحتراق إنّما هو موت “بيوسياسيّ” بامتياز.
ففي يوم من أيّام شهر ديسمبر المنقضي، خرج “مواطن” تونسيّ، ككلّ صباح، إلى العمل يدفع عربته المحمّلة بالغلال والخضر. غير أنّ الأقدار قد جعلته يلتقي بأعوان البلديّة، الّذين قبضوا عليه وصادروا مورد رزقه الوحيد بدعوى أنّه كان يتاجر دون ترخيص. حاول البوعزيزي أن يقابل الوالي على أمل أن يسوّي له المشكلة ويسترجع عربته، فلم يجابه إلاّ بالصّدّ والإهانات (على ما جاء في أشهر الرّوايات). وبدافع من الإحباط واليأس أقبل هذا الشّابّ على إهلاك نفسه حرقا بالنّار أمام مقرّ الولاية. وسرعان ما نقل إلى مستشفى الحروق البليغة بولاية بن عروس. ورغم ما بُذل من جهود لإنقاذه فإنّه لفظ أنفاسه الأخيرة يوم 4 جانفي 2011 قبل عشرة أيّام من سقوط نظام بن عليّ الاستبداديّ.
![]() |