في الصورة الفايسبوكية بين التقني والإيطيقي
(الثورة التونسية مثالا)
كمال الزغباني- باحث في الفلسفة
تطرح الصورة الفايسبوكية في علاقاتها المركّبة بالثورات العربية الحالية أو بما يوصف بالربيع العربي عددا من الأسئلة الحارقة التي من شأنها تنشيط علوم ومناهج عدّة مثل السيميولوجيا (علم السيمات أو العلامات) والميديولوجيا (علم الإعلام ووسائطه). كما أنه من شأنها أن تدفعنا ربّما إلى الإقرار بأننا بصدد مواكبة ولادة فن ثامن يمتح من الفنون الأخرى جميعها (وحتى من غيرها) ليصهرها ضمن نظام علاماتي وتواصلي جديد وفاعل على الأصعدة كافة، إستيتيقية كانت أم نفسية أم سياسية أم سوسيو-تاريخية. وهي كلّها تشكّل في الوقت ذاته زوايا نظر ومقاربات ممكنة لهذا “الفن” الجديد.
غير أننا سنقتصر في هذه المقاربة الأوّلية على بعدين أساسيين لفتا انتباهنا من خلال مشاهداتنا المتمحّصة لعيّنات من المقاطع الفايسبوكية المصوّرة. وهما من جهة البعد التقني الصرف المرتبط بالمقتضيات المادية والشكلية للهاتف الجوّال وللانترنيت وللتلفزيون. أمّا ثاني الأبعاد، في تواشجه الضروري مع الأوّل، فهو البعد الإيطيقي سواء من جهة ملتقط أو باث أو مروّج أو متلقّي الصورة الفايسبوكية في صلتها أيضا بالنص الفايسبوكي. وسنتّخذ مادّة للتحليل عيّنات من المقاطع الفايسبوكية التي واكبت الثورة التونسية منذ شرارتها الأولى يوم 17 ديسمبر 2010 حتى لحظتها القصوى يوم 14 جانفي 2011. لا فقط لأنها شكّلت نوعا من النموذج الذي ستسير على منواله باقي الثورات العربية التي جرت، ولكن أيضا لسبب منهجي صرف هو كوننا لا نملك سوى بالنسبة لهذا المثال الكمّ الضروري من الوثائق المصوّرة التي من شأنها أن تسمح لنا ببعض الاستنتاجات، وإن كانت أوّلية ومؤقتة في انتظار المزيد من التمعّن والتعميق.
لن نُعنى هنا إذن بتعريف أو بتقديم الفايسبوك بما هو وسيط إعلامي وبتاريخيته. فهو رغم جدّته في الزمان قد غدا أمرا يكاد يكون بديهيا إلى حدّ أن من لا يعرفه أو لا يتعامل معه أمسى ينظر إليه على أنه غير مواكب للّحظة أو أمّيّ. كما أن التعريف العام به وبظروف ولادته وانتشاره متاح للجميع، بما في ذلك على “جدران” الفايسبوك ذاتها. ولكننا سنثير تساؤلا حول الدواعي التي تجعلنا ننظر إلى الفايسبوك بما هو فن، أو مشروع فنّ على الأقل، وإن كانت الصرامة المنهجية تقتضي التمييز فيه (مثل ما هو الأمر في الفنون الأخرى جميعها) بين استعمالين متغايرين لكلمة “فن”. إذ أن الفن بما هو تقنية أو مهارة أو صناعة ليس دائما متلازما مع الفن بما هو إبداع، أي الإتيان بالجديد والمعبّر انطلاقا من موادّ أو عناصر ليست بالضرورة جديدة. في المستوى الأوّل يبدو الأمر محسوما ولا جدال فيه. فالفايسبوك قد تمكّن في ظرف وجيز جدّا من استيعاب شتّى الفنون وشتى ضروب التعبير والتواصل. فأنت واجد فيه التواصل المكتوب بكل أشكاله من إخبار وكلام يومي وتحريض وتحاور فكري وإيديولوجي ومن تعبيرات إبداعية شعرية وقصصية، كما تجد فيه التواصل السمعي والبصري وتبادل الإبداعات الموسيقية والسينمائية والتشكيلية والكاريكاتورية والفوتوغرافية عبر المقاطع التي يتداولها “المنشبكون” لحظيا ويتحاورون بصددها ويتناوبون على إعادة بثّها بعد تلقيها بحيث تأخذ في كل مرّة أبعادا جديدة وتأثيرات شتى بحسب المقتضيات والمقاصد ونوعيات العلاقات بين متداوليها.
من الجهة التقنية تختصّ الصورة الفايسبوكية بأمر هو ظاهريا نقطة ضعف فيها في حين أنه في الواقع مصدر قوّتها وفعلها الحاسم في المتلقي: كونها صورة سيّئة ومشوّشة ومرتعشة. إنها تتناقض في ذلك جذريا مع الصورة التلفزية بما هي الوجه المشرق والمطمئن للخطاب الرسمي، خطاب السلطة المهيمنة والواثقة من نفسها ومن جبروتها. ومن ثمّة كانت الصورة التلفزية ساطعة ومنتظمة هندسيا ومبهرة على مستوى الألوان. إنها الصورة التي تعكس رسالة الجهاز السلطوي المهيمن إلى المتلقّين-الرّعايا: كلّ شيء على ما يرام في أفضل العوالم الممكنة. وهي أيضا صورة نمطية ومنتظمة (شكلا ومضمونا) وقابلة لأن يتكهّن بها بحيث يعرف المشاهد سلفا –بفعل التعوّد والتكرار- ما سيأتي بعد الصورة التي هو بصدد تلقّيها. أمّا الصورة الفايسبوكية فهي “سيّئة” وغير واضحة و”مزعجة” لحواس المتلقي لأنها صورة “فقيرة” تقنيا (استعمال الهاتف الجوّال) كما أنها صورة “غير شرعية” باعتبارها موازية بل مضادة ومناهضة للصورة التلفزية الرسمية. وهي إلى ذلك تعكس الوضعيات الجسدية والنفسية المتحوّلة على نحو متسارع تسارُع حركات ملتقطها وانفعالاته: من مشارك في الاحتجاج وشاهد عليه إلى موثّق له وموضوع محتمل للعنف، لا فقط بسبب انخراطه في الفعل الاحتجاجي وإنما أيضا وبالخصوص لأنه يقوم بنقله وتوثيقه إلى جانب قيامه به. إلى درجة أن الانقطاع الفجئي للصورة الفايسبوكية وحضور نقاط التشويش (parasitage)على الشاشة البيضاء أو السوداء يصبح في حد ذاته تعبيرا عن احتداد أقصى بما أنه يحمل المتلقي على توقّع نوع الخطر الذي تعرّض له ملتقط الصورة..
![]() |