آفاق السينما التسجيلية العربية
ما هي آفاق السينما التسجيلية العربية؟
تحتمل الكثير من الأسئلة، ومنها هذا السؤال، عددا متنوعا من إمكانيات الأجوبة، وهذا يعني في الحقيقة أنه على الرغم من أن بعض الأجوبة قد تلامس الحقيقة إلا أنه قد لا يوجد جواب حاسم شافي أو نهائي لها، مما قد يذكّر بالمقولة الدارجة التي تقول إن الجواب:” في علم الغيب”، لكن الأسئلة، ومهما تعددت احتمالات الأجوبة عليها تبقى أسئلة مشروعة بل وموضوعية، لأنه، وكما تقول لنا الفلسفة، ما من سؤال يطرح إلا وله أساس في الواقع.
بعض الأجوبة على مثل هذه الأسئلة المشروعة تأتي عن طريق التوقع المبني على ملاحظات وقراءات الواقع الراهن، وبعضها يستقي مضمونه من العودة إلى تجارب حدثت في الماضي يمكن أن تشكل أنموذجا يُقتدى به مع ضرورة ملائمته لتطورات و مستجدات العصر بطبيعة الحال.
من هذه الأسئلة المشروعة والراهنة التي لا جواب حاسما عليها السؤال حول مستقبل وآفاق السينما التسجيلية العربية في زمن ما بعد الربيع العربي، وهو السؤال الذي قد تنفعنا الاستفادة من بعض تجارب الماضي التي شهدها تاريخ السينما العالمي والعربي، في تلمس بعض جوانب الإجابة عليه.
مشروعية السؤال تنتج عن واقع السينما التسجيلية العربية المتزامن مع تشكل وقائع الانتفاضات الشعبية في عدد من الدول العربية، وتحديدا تونس ومصر، والتي صار يطلق عليها تسمية” الربيع العربي” وهي تسمية تعكس حالة التفاؤل التي انتشرت في العالم العربي بخاصة بعد الانتصارات المبدئية التي تحققت نتيجة الانتفاضات الشعبية وتمثلت في سقوط ثلاثة من الرؤساء العرب الطغاة هم على التوالي الرئيس التونسي ثم الرئيس المصري ثم الرئيس اليمني لاحقا، هذا الواقع الذي بدت فيه السينما التسجيلية العربية في مصر تونس في أوج نشاطها حيث تصدرت واجهة المشهد السينمائي المصري، وليس ذلك فقط فقد بدت وكأنها جزء من الانتفاضة الشعبية أو على الأقل جزء مكمل لها.
حالة التفاؤل هذه هي ما أكدها بوضوح الفيلم التسجيلي التونسي والعنوان الذي اختير له وهو:” لا خوف بعد اليوم” للمخرج مراد بن الشيخ، وكذلك العديد من الأفلام التسجيلية التي جرى إنتاجها في مصر حول وقائع الانتفاضة الشعبية التي عمت كل أرجاء مصر، وهي الأفلام التي تنتمي في غالبيتها إلى سينما المخرجين الشباب المستقلين والذين لم يكتف بعضهم بتصوير ما أمكنهم من وقائع الانتفاضة بل كانت لهم مشاركة فعلية فيها بشخوصهم و بكاميراتهم، وهذا ما عكس نوعا من الانسجام بين القول والفعل، بين الموقف الذي يتخذه السينمائي التسجيلي و الجانب المهم من جوانب الفيلم التسجيلي، وهو الجانب السياسي النضالي إلى حد ما.
تعيد هذه الحالة إلى الذهن الفيلم المصري الروائي الطويل” العوامة 70″ للمخرج خيري بشارة والذي جرى إنتاجه قبل نحو ثلاثة عقود من الزمن، وهو الفيلم الذي يطرح السؤال حول الانسجام ما بين وظيفة الفيلم التسجيلي المتمثلة في التعبير عن الواقع وطرح ما فيه من مشاكل بجرأة وشجاعة، ومدى التزام المخرج التسجيلي بهذه الوظيفة وتحمله لهذه المسؤولية، وذلك عبر حكاية مخرج سينمائي تسجيلي يكتشف فيما هو يصور فيلمه قضية فساد كبرى و يتردد في فضحها.
في حين، أطلق العديد من المعلقين على الانتفاضة الشعبية العربية وصف انتفاضة مشهدية بصرية بامتياز، وذلك بالنظر إلى الدور الكبير الذي لعبته المشاهد الحية المصورة لأحداث الانتفاضة، والتي كان يجري عرضها في بث حي مباشر على مدار الساعة عبر المحطات التلفزيونية الفضائية، والتي كان يجري تصويرها بكل التقنيات الرقمية المتاحة مثل كاميرات المحترفين وكاميرات الهواة وكاميرات الهواتف الشخصية المحمولة، ليس فقط في تعريف العالم بما يحدث وتوثيقه، بل في تحفيز فئات الشعب التي تتخذ موقف المتفرج، وهو موقف سلبي أو حيادي، على المشاركة في الحدث.
يذكرنا هذا الحال بالدور الهام الذي لعبته محطات البث التلفزيوني الأمريكية أثناء حرب الفيتنام في تحفيز الشعب الأمريكي على التظاهر ضد هذه الحرب التي تسببت في وقوع آلاف القتلى والجرحى بين صفوف الجنود الأمريكيين.
كان من الطبيعي في مثل هذه الأجواء أن يسارع السينمائيون، خاصة في مصر، إلى إنتاج الأفلام التسجيلية، التي لم يكتف مخرجوها باستخدام وثائق من الأرشيف التلفزيوني، بل اعتمدوا على جهودهم الذاتية لتصوير الأحداث آخذين بعين الاعتبار إمكانية تحويل المواد المصورة إلى أفلام تسجيلية لا تكتفي بالتوثيق، كما هو الحال بالنسبة للمشاهد التلفزيونية المصورة، بل تعكس وجهة نظرهم و رؤيتهم الخاصة وتعبر عن التزامهم الشخصي بالمشاركة في الانتفاضة مع أبناء شعبهم، و لو عن طريق السينما.
![]() |