الثورة و الفلم الوثائقي..

نحو مقاربة استقرائية لتوثيق الحدث

د . عبدالله أبوعوض

منذ تبلور الصورة في هيئتها الحديثة و تحديدا مند نشأة الصورة الفوتوغرافية المجسمة للحدث و للشخوص و للمشهد. أصبح هذا الشكل الجديد من الترميز و من التعبير الثقافي لدى الإنسان يكتسح ساحة التوثيق و الأرشفة محدثا حالة من التشكيك في مقولة أن التاريخ هو ما يكتب بعد أن كان فيما مضى ما تحفظه الشفاهة. و قد زاد في تسارع حضور الصورة و في بعثرة المشهد الثقافي التقليدي تحولها إلى صورة متحركة مجسدة  في السينما الصامتة ” الأخوان لوميار” ثم إلى صورة ناطقة منذ 1927 وصولا إلى عصر الصورة الرقمية مع اندماج الصوت و الصورة و النص عبر ما يعرف بالروابط التشعبية في عصر الملتيميديا .
إن البحت في طبيعة العلاقة بين الصورة بالذاكرة و التوثيق الفيلمي يعتبر في هذا العصر من المباحث العلمية و العملية التي تأخذ اهتمام العلوم الإنسانية و خاصة المتعلقة بعلوم الاتصال ، حيث عرف بداية قائمة على التصوير الفوتوغرافي الذي جاء التسجيل الصوتي بعده لتوثيق اللحظة بكل مكوناتها.و هذا كان سببا مباشرا في إيقاف الزمن لحظة الرجوع إليه ، و توثيق الذاكرة الجمعية. فكانت الصورة من مكونات البقاء و التخليد للحياة الإنسانية و البيئية وغيرها…
إن الوثيقة هي العدو المباشر للنسيان و الإهمال و خاصة أنها خاضعة لمنطق (الحفظ ) و (الأرشفة ) ،كما أنها تسمح بالعودة إليها لإعادة قراءتها عباريا (صوريا ) و دلاليا (رمزيا ) و من تم تأويلها بحسب طبيعة الإسقاطات المعرفية التي تحكم متداولوها. و توثيق الصورة المصاحبة بالصوت هو توثيق للذاكرة التأصيلية المشهدية التي يكون الرجوع إليها بمثابة معايشة الحدث في حينه كما هو  ( و إن كان الغرض من التوثيق عموما هو بقاء ما يوثق على أصله دون خضوعه إلى مركبات خيالية تخرجه عما هو عليه ) دون الاجتهاد المبدع المفضي إلى خروج الحقيقة الى المتخيل.
لقد مكن علم الاتصال من الوقوف على أشكال كثيرة في توثيق الصورة، و على رأس طبيعة هذه الأشكال جاء ما يعتبر المرجع الوحيد للتوثيق في بنائه الفني ألا و هو الفلم الوثائقي ” التسجيلي”.
التسجيليون من ممارسين و منظرين لا يتفقون على تعريف محدد للفلم الوثائقي، لأن مصطلح (وثائقى) ذاته مختلف عليه. بعض المعلقين يفضل التعبير العام (فلم غير خيالي ) بينما يعارض آخرون و يقدمون مصطلح (الفلم الحقائقي) .طبقا لبعض هؤلاء النقاد يجب أن يستخدم مصطلح (وثائقي ) لوصف فقط تلك الأفلام التي تحتوي على تفسير خلاق للمواد الواقعية. إن مجرد تقديم المعلومات (كما في الأفلام الصناعية و أفلام السفرات و الأفلام التدريبية ) يجب أن يصنف تحت مصطلح أقل اعتبارا.
مصطلح (الوثائقي) إذا بالنسبة للبعض نوعي يوحي على الأقل بدرجة من الامتياز الفني, إلا أن هذا التمييز فيه مشكلة أكثر منها قيمة .
إن تطور التمييز بين (الفلم الوثائقي ) و (الفلم الخيالي) في عصر الملتميديا أوحى إلى المهتمين تدقيق المعنى و توصيفه, إلا أن (التسجيلي )في حمولته الاصطلاحية ليس هو (الوثائقي) بل هو مرادف لمفهوم (التوثيقي) لأن مصطلح التسجيل في اللغة العربية هو من دلالات كلمة (تدوين)  تدوين الشيء و كتابته  و يقترن بمصطلح (السجلات )، في حين أن (الوثائقي) هو من مصطلح (الوثيقة) و (الوثيقة) لا يمكن إقرار كونها وثيقة إلا بعد معرفة ما (دوّن فيها و سجل) هل هو في مصاف الوثائق أم أدبيات خيالية عامة قد تكون للاستئناس. بمعنى أن بعد التسجيل يأتي التوثيق لذا يمكن الذهاب إلى تبني (الوثائقي) في عالم السينما على أنه (النقل الخلاق للصورة ) أو ( تشخيص الوثيقة بالصورة الخلاقة ). و عموما وفي إطار مفهوم (المجال التداولي) في عالم السينما و الفن ، يمكن أن يصطلح عليه تداوليا بالتسجيلي و الوثائقي، شرط أن يخضع لضوابطه العلمية و العملية التي تحكمه.
 و البعد الخيالي في الفلم الوثائقي الذي يجد مواجهة من قبل البعض قد يكون حاضرا في الوثائقي إذا غابت الأحداث صورة وحضرت وثيقة ليقف عليها الفلم الوثائقي متمرسا لتحويلها إلى صورة تجسد الواقع كما كان ، و إلا ضاعت مجموعة من المكتسبات الموروثة في الثقافة الإنسانية.

كامل المقال


إعلان