الفيلم الوثائقي في موسم الربيع العربي
المستقبل من خلال نظرة إلى الماضي
عصام زكريا
تعرفت على أعمال فيلسوف الإعلام الكندي مارشال ماكلوهان ( 1911 – 1980) منذ فترة قصيرة، ولكن في التوقيت المناسب لتقبل نظريته حول الوسائط الإعلامية ودورها في تغيير المجتمعات، التي يمكن تلخيصها في عبارته الشهيرة ” الوسيط هو الرسالة” Medium Is the Message، وبالتالي فهم الكثير عن العلاقة بين ما يجرى في مجتمعاتنا والعالم من تغيرات سياسية وثقافية وبين صعود الوسائط الإعلامية الحديثة من كمبيوتر وانترنت وكاميرات رقمية.
يرى ماكلوهان أن الحقب التاريخية الكبرى تستمد شخصيتها وخصوصيتها من نوع الوسيط الإعلامي السائد والمنتشر خلال هذه الفترة، ويضرب مثلا باثنين من أهم الاختراعات البشرية. الأول هو اختراع المطبعة وانتشار الطباعة في الفترة من القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن العشرين، حيث كانت الصحف والكتب هي الوسيلة الرئيسية لنقل المعرفة بين الناس، وقد أثر هذا الوسيط الجديد على المجتمعات البشرية تأثيرا هائلا، من ثماره صعود الفردية والقومية والديموقراطية وخلق الفضاء الشخصي والحياة الشخصية للأفراد والأسر، وكذلك ظهور التخصصية في العمل والعلوم، وظهور ما يعرف بوقت الفراغ الذي يختلف عن الوقت المخصص للعمل.
ماكلوهان كان معاصرا لظهور التليفزيون والثورة التي أحدثها في العالم، والجدل المبكر الذي أثير حول محتوى هذا الوسيط الخطير، والذي أتهم بأنه يؤثر سلبيا على عقول مشاهديه بسبب تفاهة ما يعرض من ناحية وتحكم الدول وأصحاب رؤوس المال فيما يعرض من ناحية ثانية…
ولكن ماكلوهان في كتابه ” فهم وسائط الإعلام: إمتدادات الانسان” Understanding Media: Extensions of Man ( 1964) ألقى بنظريته القنبلة التي تقول بأن تأثير الوسائط الإعلامية على الجمهور لا علاقة له بمضمونها أو محتواها، وأنه بغض النظر عن نوعية ما يعرضه التليفزيون، سواء كان برامجا ثقافية أو مباريات مصارعة أو نشرة أخبار أو برنامج مسابقات…إلخ إلخ…وبغض النظر عن التوجه السياسي والعقائدي لهذا المحتوى، سواء كان شيوعيا أو رأسماليا، محافظا أو متحررا، فإن النتيجة تظل واحدة.
ويرى ماكلوهان أن عصر الالكترونيات الذي جاء في أعقاب عصر الطباعة جعل الاتصال بين الناس سريعا إلى درجة أن الشعوب جميعا، على اختلاف مواقعها ودرجة تقدمها، قد انصهرت في بوتقة واحدة، وأن الوسائط الالكترونية قد قضت على القومية والفردية بمعناها القديم، وأنها تشكل مجتمعا عالميا جديدا…
وحتى يقرب فكرته إلى أقصى حد يضرب ماكلوهان مثل المصباح الكهربائي الذي غير العالم دون أن يكون لديه أي مضمون أو محتوى، ولكن مجرد ظهوره غير حياة الملايين الذين امتلأت لياليهم بالضياء وامتد نهارهم إلى ما لانهاية.
ومثلما يفعل مع المصباح الكهربائي يتتبع ماكلوهان التأثيرات الاجتماعية والثقافية والنفسية لعدد من الوسائط مثل الراديو والتليفون والآلة الكاتبة والسينما وغيرها.
ماكلوهان الذي توفي عام 1980 لم يكتب بالقطع عن الثورة الرقمية وتأثيرها الجبار على حياتنا المعاصرة…ولكني دائما ما أتخيل ما كان يمكن أن يكتبه اليوم عن تأثير الكاميرات الرقمية وأجهزة الهاتف الحديثة والانترنت والفيسبوك على حياتنا وعواطفنا وعقولنا وما تفرزه هذه العقول من أراء
هذه المقدمة الطويلة بعض الشيء وثيقة الصلة بما أريد أن أكتب عنه اليوم، وهو مستقبل الفيلم الوثائقي في عالم ما بعد الربيع العربي.
السؤال بشكل أكثر دقة قد يكون مستقبل الفيلم الوثائقي في عالم الثورة الرقمية وما تركته من تأثير وتغيير في حياتنا السياسية والثقافية…ولكنه أيضا قابل لأن يوجه بطريقة عكسية تأثير الكاميرات الرقمية على حياتنا السياسية والثقافية وعلى مستقبل الفيلم الوثائقي في المنطقة العربية.
![]() |