سيناريوهات الوثائقي العربي: قراءة مستقبليّة

ينخرط البحث في آفاق الفيلم الوثائقي بعد التحوّلات الجيوسياسيّة العميقة التي شهدها العالم العربي ضمن ما بات يعرف منذ ثمانينات القرن الماضي بعلم المستقبليات، وإن عادت إرهاصات نشأته إلى سنين خلت، ذلك العلم الذي يعمل على استباق أهم التطورات على المستويين الدولي والإقليمي مستفيدا من الآليات المشكّلة للماضي والحاضر ومن فهم قوانين التحوّل بغاية ضبط  وضع محتمل أو ممكن ضمن تصوّر مستقبلي. وبقدر ما يطمح طموحه المعلن هذا يعمل على أن ينضبط بمنهج علمي يعتمد الدّراسات المقارنة وينطلق من المسلمات فيبني عليها فرضياته بعيدا عن كلّ انحياز أيديولوجي أو جهويّ، وبقدر ما يكتسب هذا مبحث آفاق الفيلم الوثائقي مشروعيّته يواجه من العقبات ما يرتقي إلى درجة الإشكال المنهجيّ.

البحث في المستقبل والإشكال المنهجي

ارتبطت المستقبليّات بالمسائل الإستراتيجية ذات الصلة بالشأن الاقتصادي أو العسكري أو التربويّ فكانت تلاقي نجاحات ذات بال كلّما وفرت لنفسها الشروط الموضوعيّة المطلوبة ولا غور في ذلك وهي تشتغل على التفاعل المنتج بين عناصر قارة في لحظة زمنيّة معيّنة فتستخرج منها قانون التّطوّر واحتمالات تجسّده في الواقع. فتهيئ الأذهان لما يحتمل من التغيرات وتستعدّ لمواجهتها بالإجراءات الحاسمة والفعّالة . فتتجاوز المعرفة النظرية الصّرفة إلى العمليّ التّطبيقيّ وضعا للخطط ورسما للسياسات النّاجعة. ولكن نقل سؤال المستقبل إلى المجال الفنيّ الإبداعيّ استباقا للعمليّة الإبداعية وتسييجا لها مغامرة محفوفة بالمخاطر. فمبدأ الإنتاج الفنّي إنما هو النّسج على غير منوال وخرق أفق انتظار المتقبّل ومفاجأته مفاجأة تمنح الأثر الفيلميّ طرافته وتميّزه.
ولكنّ ما يشفع لهذا السؤال ويجعل تحديد ملامح الوثائقيّ العربيّ ممكنا والسّير في اتجاهه متاحا وإن على رمال متحركة أنّ السينما، فضلا عن كونها فنّا، صناعة تحكمها جملة من المعطيات الموضوعيّة مادية كانت أو وسائطيّة. وعليه فإنّ عملنا هذا يعمل على استشراف مستقبل هذا الوثائقي  من منطلق رصد التفاعل بين السياسيّ والفنيّ والوسائطيّ ضمن نماذج من الماضي.
 ولئن عدنا كثيرا إلى النبش في هذا الماضي فإنّنا نجعله مجازا نعبر منه إلى المستقبل الذي يبقى وجهتنا وبؤرة دراستنا، مسلّمين سلفا، تسليم مهدي المنجرة رائد علم المستقبليات في الوطن العربي، بأن معرفة هذا الماضي لا تمكّن آلياً من معرفة ما يمكن أن يكون عليه الغد ، معتمدين مبدأ القياس في ضبط سيناريوهات مختلفة للصّيغ المحتملة لهذا الفن، معدّدين، شأن كل دراسة مستقبليّة ، مداخل المقاربة نظرا للصبغة التفاعليّة بين العناصر المتدخّلة في تشكيل العمل الفنّي، موزّعين لها بين الوسائطيّ والفكريّ والجماليّ.
 ولئن وضعتنا معطيات الماضي هذه، ونحن نستشرف مستقبل الفيلم الوثائقي العربي آخذين بعين الاعتبار حراك الشارع العربيّ ونزعة قطاع هامّ منه إلى التشدّد الأصولي المعادي لكلّ تصوير أو تجسيم، أمام افتراض عدميّ مداره استهداف الفنّ السينمائي ، فإنّنا ندوّنه دون أن نحمله محمل الجدّ نظرا لطوباويّة أصحابه وعدم قدرتهم على تغيير نمط حياة المجتمع العربيّ أو في طبيعة الفنون التي ينتجها.

سيناريوهات الوثائقي العربي من المنظور الوسائطيّ

تجمع السينما بين الإبداع والصناعة ومن ثمة مأتى عمق تفاعلها مع ما يطرأ من الاختراعات وفق ما يثبته تاريخ تطوّرها. فقد تدرّجت من عرض الصّور الصامتة إلى إدراج الصوت ومن الأبيض والأسود إلى اعتماد الألوان ومن اعتماد الشّريط المغناطيسي إلى اعتماد الفيديو ثم غزتها المحامل الرقميّة، ولم تقتصر التحولات على المستوى التقنيّ منها وإنما تأثرت لهذا التّطوّر تأثرا بالغا شمل مفاهيمها وتصوراتها الجماليّة في آن واحد.
 وحاصل هذا التحوّل اليوم أن هجر الفيلم الوثائقي الشّاشةَ الكبيرةَ، وقد انتشرت الفضائيات ومواقع تحميل الفيديوهات انتشارا واسعا وتنافست على الاستئثار به، ولم يعد يرتادها إلا لماما، على هامش المهرجانات السينمائيّة التي تنظّم هنا أو هناك واتّخذ من شاشة التلفاز أو الحاسوب موطنا بديلا عنها. وشأن هذا التحوّل الوسائطي أن يؤثر في الفيلم ذاته، في مدته ومسالك توزيعه من جهة وفي كيفيّة ضبطه لفعاليات فرجته من جهة ثانيّة. فنقدّر، وقد ظهرت بعد بوادر تؤيّد زعمنا، أنه سينصرف عن المدة التقليديّة للفيلم الوثائقي الطويل (نحو 75 دقيقة) إلى مدة تتناسب وتقاليد متقبّله في موطنه الجديد الذي يتحدّد في التلفزيون بنحو ساعة من البث (تتضمن الفواصل الإشهاريّة) أو نصفها وهو ما سيبعده عن الإسهاب ويدفعه أكثر نحو التكثيف والاكتناز. وشأن ما ستتداوله مواقع التّواصل الاجتماعي أن يكون أميل إلى أشكال وجيزة تناسب سلوك المبحرين على النّات الراغبين في التسللّ السّريع من موقع إلى آخر. كما نقدّر في الآن نفسه، أن تتراجع سطوة شركات التوزيع الكبرى وتنوب عنها القنوات المتخصّصة في عرض الوثائقي ومواقع تحميل الفيديوهات فتنشأ المواقع المنافسة لليوتيوب وتحقّق ما يحقّقه هذه الأيام من نجاحات ماليّة كبيرة.
ولهيمنة الميديولوجيا الافتراضيّة هذه أن تحوّل المتفرّج من متابع سلبيّ “يشاهد حدثا ما أو جريان حركة ويستغرق في تأملها بحيث يكون شاهد عيان”  إلى متفرّج متفاعل يحلّ في المركز من العمليّة الإبداعية ويشارك فيها مشاركة فعليّة فيما يشكّل سينما تفاعليّة، بدءا من اختياره مادة فرجته، فينتخب ما يشاهد من بين عشرات الأفلام المتاحة إلى تدخّله بإضافة المؤثرات أو التعليقات التي تمثل خارطة فرجة ومسار تأويل إلى النشر والإذاعة بين جمهور المتواصلين عبر هذه المواقع .
ولئن وجد هذا النمط التفاعلي بعد وظلّ حبيس السينما التخييليّة فإنّ ظهور مواقع التواصل الاجتماعي سيدفع بالفيديو الوثائقي إلى نمط من التقبّل التفاعلي وقد تجلّت بشائره بعد مع الثورات السياسيّة من تونس إلى مصر إلى ليبيا فعمل المتفرّجون على تبادلها والتعليق عليها والتّدخل فيها أحيانا أخرى بزيادة مشاهد أو حذف أخرى حتّى تجاوزت وظيفتها الإخباريّة إلى التّعبير عن الرأي وإبداء الموقف النقدي من الفيلم نفسه. وهذا ما أحلّه ضمن سينما الجيب  فقد جعلت الثّورات العربيّة هذه الفيديوهات تغزو، على أيامنا، الفضائيات وتدير إليها رقاب ملايين الجماهير في كامل أنحاء المعمورة بما ترصد من حراك الشّارع الثائر في البلدان العربيّة فتفرض على النقد تصنيفها ضمن الأفلام الوثائقيّة واعتبارها فنّا مستقبليّا طالما أضحى كل مواطن بشكل من الأشكال مصورا سينمائيّا يتحيّن الفرصة ليوثّق ما تجود به اللّحظة.
 وتكتسب شرعيّة الانتماء هذه من قدرتها الفائقة على توثيق الحقيقة وعلى استباق الحدث بحيث تكون في اللّحظة وفي المكان المناسبين لترصد اندلاع احتجاج في إقليم من الأقاليم أو سقوط متظاهر إثر طلقٍ ناري أو دوسٍ تحت عجلات سيارة نظاميّة ترعب بدل توّفر الأمن.
وما يُكسب هذا الانتماء شرعيّته اشتمال هذه الأفلام على خصائص فنيّة مميّزة إذ تتمّ دون إعداد مسبق أو سيناريوهات جاهزة ما قبليّا وفق بناء نمطيّ ممّا يمنحها قدرا كبيرا من العفويّة والتلقائيّة ويدرجها ضمن نمط الدّراسة الوثائقيّة (L’essai documentaire)  التي تسعى إلى التقاط وجوه من الحقيقة متجاهلة وجود الكاميرا بغاية تحقيق عرض يضمن  قدرا وافرا من واقعيّة الأحداث وتلقائيتها. وغالبا ما يصاحب هذه الأفلام صوت من خارج الإطار يشرح المشهد أو يعلّق عليه حتى ينزّله ضمن سياقه الاجتماعي والتّاريخي وظروف تصويره.

كامل المقال


إعلان