عن الموضوعية وحدودها في السينما التسجيلية
في البدء كانت السينما تسجيلية. في البدء لم يخطر على الأرجح في بال سلسلة العلماء والفنانين الذين “اخترعوا” السينما، وصولا الى الأخوين الفرنسيين لوميار، ان آلة التصوير التي استخدموها لتصوير “الواقع” يمكن ان تصور اي شيء آخر غير ذلك الواقع. ومن هنا احتاج الأمر الى سنوات من الإنتظار والإرتباك، منذ ذلك العرض الشهير لفيلم الأخوين لوميار الأول في “القاعة الهندية” في الجادات الفرنسية الكبرى، قبل ان يأتي جورج ميلياس ويصور شيئا آخر غير الواقع، فتنطلق السينما الروائية او “التخييلية”. غير اننا نعرف ان تلك الإنطلاقة التي ما لبثت ان غزت العالم والقرن العشرين بأكمله، لم تحلّ الفيلم الروائي نهائيا مكان التسجيلي. ففي الحقيقة تعايش النوعان جنبا الى جنب، لكلّ مواضيعه واهدافه، يقتربان من بعضهما البعض حينا ويفترقان احيانا، بل يمتزجان تماما في مرات عديدة. وطبعا لا يتسع المجال هنا لتفصيل ذلك كله، ومن هنا قد نكتفي بالقول ان ثمة في هذا كله امرين – على الأقل – مؤكدين: اولهما اننا لسنا ابدا في صدد تراتبية قيمية او حتى تقنية لدى الحديث عن النوعين، وثانيهما ان من الصعب تماما الموافقة على ذلك التقسيم الذي يراه بعض الباحثين بين النوعين، معتبرا ان العمل التسجيلي ينطلق من الحقيقة وبصبّ فيها، فيما ينطلق العمل التخييلي من “الكذب” الإبداعي ليصبّ فيه. ونحن لئن كنا هنا قد دخلنا هذا السياق مباشرة ومن دون مقدمات كافية ، فإن هذا متأتّ من اهميته ومن حقيقة اننا لا يمكننا ان ندنو من عالم السينما التسجيلية من دون التمهيد به، وتوضيحه. بل ان الجزء الأكبر من هذا النص إنما يريد ان يأخذ على عاتقه مهمة التأكيد على أمر نراه اساسيا ويتعلق بما نعتبره “المحدودية القصوى” للبعد الموضوعي في فيلم التسجيلي..ولعل علينا من أجل هذا ان نعود الى ذلك العرض الأول الذي قدّمه الأخوان لوميار قبل اكثر من قرن ليعتبر البداية الحقيقية لولادة السينما.
الجمهور المندهش يصنع تاريخ الكذب

العرض الذي نعنيه هو طبعا عرض فيلم “دخول القطار الى محطة لاسيوتا” الذي شاهده عدد من المتفرجين مشدوهين مقابل فرنك واحد دفعه كل واحد منهم. لقد كان فيلما تسجيليا بامتياز. اي ان صاحبيه اخذا كاميرا اخترعاها ووضعا في داخلها شريطا صنعاه ووضعا الكاميرا داخل محطة القطار في مدينة لا سيوتا ليسجلا مشهد دخول القطار الى المحطة وتوقفه وخروج الركاب منه. من ناحية منطقية كان ذلك مشهدا يحدث مئات المرات في كل ساعة وفي اي مكان من اوروبا وغيرها. وخلال التصوير لم يلجأ المصوران الى اية حيل تقنية – بل ان ولادة تلك الحيل كان عليها ان تنتظر ميلياس هي الاخرى -..كل ما فعلاه هو “تسجيل” مشهد شديد العادية، ومن ثم عرضه بعد ايام امام جمهور كان سلفا يعرف كل شيء عن القطارات ودخولها المحطات ومبارحة ركابها لها. فلماذا اذا كانت الرعشة التي اصابت مشاهدي الفيلم الأول هذا؟ ولماذا كان رعبهم؟ ولماذا حاولوا الهرب بشكل لم يفعله اي منهم وهو في محطات القطار في حياته اليومية يشاهد اندفاع القطار نحوه؟ ببساطة لأن الكاميرا حين صورت المشهد اختارت زاوية التصوير بشكل محدد واختارت العدسة بشكل محدد، حتى وإن لم يكن ذلك عن قصد. ومنذ الأخوين لوميار وحتى عمر اميرالاي ومايكل مور ومي المصري وفؤاد التهامي وكريس ماركر مرورا بنيكولا فيليبير ومئات غيرهم من اقطاب السينما التسجيلية في تاريخ السينما، كانت تلك الإختيارات – التي سرعان ما صارت مقصودة – هي العامل الحاسم في صناعة الفيلم التسجيلي. تلك الإختيارات وعشرات غيرها كما سوف نرى، حتى وإن كان الفرنسي فيليبير (صاحب “في بلاد الصمّ” و”ان تملك وان تكون” بين اعمال تسجيلية لافتة اخرى) يقول دائما انه حين يذهب الى التصوير عند الصباح لا تكون لديه اية فكرة واضحة عما سوف يصوره. وقد يكون هذا القول صحيحا، ولكن من الصحيح ايضا ان لحظة الإنتقال من التسجيل الموضوعي للمشهد الواقعي الى اللحظة التي سندعوها من الآن وصاعدا باللحظة الذاتية حينا واللحظة الأيديولو جية في حين آخر ثم بالصفتين في غالب الأحيان معا، – تبعا للتحليل المطلوب الوصول اليه ، هي لحظة لا تتقرر بالضرورة عشية التصوير بل ربما خلال التصوير وبعده وبخاصة خلال التوليف (المونتاج) ثم، وهذا فائق الأهمية بالنسبة الينا هنا: لحظة التلقي نفسها حين يعرض الفيلم امام جمهوره ولعل علينا هنا ان نذكر بأهمية هاء الضمير المتصل هذه.
نوعان لكنهما يلتقيان احيانا
والحقيقة اننا في قولنا هذا انما نحاول ان نفرق بين نوعين من العمل التسجيلي: النوع الذي يقوم على تصوير مشاهد الواقع كما هي من دون اي تدخل فني – ونكاد نعني بهذا الوف الشرائط والتحقيقات التلفزيونية وغير التلفزيونية – وذاك النوع الآخر الذي نعتبره عملا فنيا إبداعيا حقيقيا مهما كان رأينا التقييمي فيه. ولعل علينا ان نقرّ هنا اننا حتى في مجال هذا التفريق نواجه صعوبات كثيرة إذ لا ننسين هنا ان كل تصوير لمشهد ما إنما هو اختيار واع لزاوية تصوير محددة ستعني لدى عرض الصورة ما تعنيه، بيد اننا هنا سنتجاوز هذه الصعوبة لنقصر حديثنا على تلك الأعمال الفنية التسجيلية الكبيرة التي دخلت تاريخ الفن السينمائي وتعتبر علامات فيه. وهذه الأعمال تنتمي تلقائيا الى الإبداع الفني…اي الإبداع الذي ينبع من ارادة المبدع الواعية في تصوير شيء ما وتقويل هذا الشيء غير ما يبدو عليه انه يقوله اول الأمر. وهذا التقويل الواعي هو الأساس الذي ينقل الفيلم من خانة السردي البسيط الى خانة الإبداع. وها هنا الفارق بين مئات الشرائط الإخبارية من ناحية واعمال دزيغا فرتوف وفلاهرتي وفردريك وايزمان وحتى بعض لحظات ايزنشتاين وسينما شادي عبد السلام وغيرهم،…من طينة جوريس ايفنز وجون غريرسون، من ناحية أخرى. والحال اننا لا نتعمّد هنا ذكر هذه الأسماء لمجرد الإستعراض او رسم جردة ما، بل للتأكيد على فنية واهمية ذلك النوع السينمائي الذي من الصعب مع هذا القول ان شعبيته تضاهي مثلا شعبية السينما التجارية الأميركية او حتى سينما الفن الروائية. ومع هذا نجد دوافع كثيرة تدفعنا الى القول انه بالنسبة الى تاريخ الفن السابع، يبدو لافتا ان المدارس الجمالية الكبرى في تاريخ الفيلم الروائي (مثل “سينما نوفو” البرازيلية و”فري سينما” البريطانية و”الموجة الجديدة” الفرنسية ولا سيما الواقعية الجديدة الإيطالية وصولا الى واقعية الثمانينات “الجديدة في السينما المصرية – سينما محمد خان وعاطف الطيب وخيري بشارة وغيرهم-) انما استمدت جزءا كبيرا من قيمتها ن خلال اعتبارها شديدة الدنوّ من السينما التسجيلية.ولعله يتعين هنا إذ وصلنا الى هذا المستوى من الحديث ان نتوقف بعض الشيء عند العناصر التي تجعل للسينما التسجيلية هذه المكانة مفرّقة اياها من ناحية عن السينما الروائية التخييلية، ومن ناحية ثانية عن الشرائط “الحيادية” التي تكتفي إخباريا وسرديا بتصوير واقع ما وتكون عادة صالحة للعروض التلفزيونية…
![]() |