حول إشكالية كتابة “نص” الفيلم الوثائقي

  لماذا نعبر بالوثائقي وليس الروائي ..

لم توجد السينما حسب كراكاور، لتتجاوز مادة الواقع بل لتسجل مادة الواقع وتحترمه.فالفيلم مهيأ بشكل فريد لان يرصد الواقع الطبيعي ويكشفه ومن ثم ينجذب نحوه ، وعلينا البحث عن قصص مكتشفة وليس عن قصص مختلقة قصص لا يجوز لأحد اختلاق حبكتها بل يكتشف القصص التي تصنع من الواقع نفسه. ولا شك إن الهدف الرئيس من فرضية كراكاور حول علاقة الفيلم الوثيقة بالواقع هي لإعلاء مكانة الفيلم التسجيلي.
نؤكد من جديد إن فن الفيلم  يتشكل من جنسين فنيين- تسجيلي واقعي وروائي خيالي ، وبقدر ما هما متشابهان، لكنهما أيضا مختلفان في جوهر سردهما للمادة وطبيعتها التي يتناولانها: ويتفرع من كل منهما أنواع أخرى. وتعرف السينما المعاصرة تداخلاً وتشابكاً وتمازجاً لأنواع هذين الجنسين الأساسيين ونتاجا لتركيبهما المعقد .
وقاد تاريخ تطور المنهجين في السينما إلى طريقة تسجيلية في التعبير السينماتوغرافي تجعله بغوص في قيم بنية الواقع العميقة وطريقة روائية موازية تجعله يغوص في بنية الواقع السطحية. وسار تاريخ السينما في طريقتين أولاهما تسجل وتوثق صور الواقع المرئي وفقاً لمنهج تنظيم المادة المنتقاة من الواقع وثانيتهما تسرد وتروي صور موديل خيالي حي متحرك وفقاً لمنهج يعتمد إعادة بناء لمادة الواقع ومحاكاته.
المنهج ألأول يكتشف طبيعة الوسيط السينمائي ويستخدم وسائله في تسجيل ظواهر حياتية مختلفة ومتنوعة بصرياً
 والمنهج الثاني: يكتشف الوسيط السينمائي ويستخدم وسائله في ترجمة نصوص مختلفة ومتنوعة بصرياً.           
منهجان في طريقة الانتاج يختلفان. الوثائقي يستند على المونتاج تماما والروائي على تصوير السيناريو تماما. الوثائقي ينشغل بعرض “الموضوع” الدرامي والروائي ينشغل بتطوير “حبكة” الحدث الدرامي. وهذا الاختلاف الجوهري في اسلوب التناول يحدد طريقة في الانتاج مختلفة تماما.

البيرتو كافالكانتي

ولأن مخرج الفيلم الوثائقي بعكس مخرج الفيلم الروائي يفتقد التوتر في صياغة حبكة الحدث، لانه لا يتمسك بتنفيذ سيناريو ثابت وحازم. بل بمعالجة موضوعه السينمائي دراميا بشكل اقل او اكثر وفقا لطبيعة نص بسيناريو مفتوح ومتحرك فانه يكسب في الوقت نفسه حربة تمكنه من استخدام وسائل تعبيره بشكل تعبيري أصيل فهو مثلا غير مجبر على تقديم تتابع احداث موضوعه بصرامة بل يستطيع ان يقدمها  بطريقة متعددة الاوجه ويغير من اسلوب تتابعها وسرعة ايقاعها كما يشاء.  ولأن صوره لا ترتكز على الحوار، فهو يستطيع ان يجرب بشكل مبتكر استعمال الصوت الاصلي والتعليق.
المهم بالنسبة لمقارنة مخرجه بمخرج الفيلم بالروائي هو حريته العظيمة في التأويل والتفسير لان التأويل أولا- أي المونتاج، هو ما يضفي حيوية على موضوع الفيلم الذي يخرجه.  
غير اننا مع هذا نجد كثيرا من الافلام الوثائقية تشتمل على حدث درامي وكثيرا من الافلام الروائية تشتمل على سمات ذات طابع وثائقي، لهذا يتفاقم ويتعقد الاختلاف اكثر فأكثر.
وكما سبق ان بين ا البيرتو كافالكانتي  ان افلامه الوثائقية كانت تميل  باستمرار الى جمالية الفيلم الروائي فقد اكد في العام 1960: نحن اليوم في عملية تركيب حيث بدأت الاتجاهات ينفصل بعضها عن البعض ويتداخل بعضها في البعض. وأخذت اساليب التعبير يهاجم بعضها البعض.
وقد لعب مثل هذا التداخل وأشكاله المتنوعة دورا بارزا في أسلوب السرد السينمائي. ولعل مرجع ذلك التداخل هو قدرة السينما على إعادة بناء الواقع وعلى ارتباطها المباشر مع الواقع. من هنا قاد ما يسمى المصداقية الفنية في تناول المواضيع الواقعية على أساس جاذبية السينما إزاء الواقع عموما، وعلى أهمية الالتزام بمنهج الصدق الفني خصوصا في تناول المواضيع الاجتماعية والسياسية الراهنة.
يركز التسجيلي على ما هو موضوعي وحيوي لهذا نجده ينقب في عالم حقيقي ويبحث عن أحداث حقيقية وقضايا واقعية وصراعات حقيقية وعوالم حقيقية ومشاعر حقيقية، دون أي ما هو من نسيج الخيال. لأن الأفلام التسجيلية ترتبط أصلا بموضوعها الرئيس وهدفها التمسك بالنزاهة في تصوير أحداثها الوقائعية، لأن المصداقية هي جانبها الأهم.
لقد احتفت بعض النظريات السينمائية بمادة السينما الخام، التي تسجل العالم المادي والأشياء والأماكن والناس الحقيقيين، وتعتبرها واقعية في ألأساس وتأتي دلالة العمل الفني وترتبط مباشرة بالدرجة التي يتعامل فيها الفنان مع مثل هذه المواد. أما تلك النظريات ألسينمائية التي ركزت أولاً على سلطة صانع الفيلم في تحوير الواقع أو التلاعب فيه، فكانت في الأساس نظريات تعبيرية أي أنها تعنى بتعبير صانع الفيلم للمواد الخام أكثر من اهتمامها بالواقع المصوّر نفسه. وهكذا صبغت نظرية الفيلم بأكملها تقريباً، التعارض القائم بين الواقعية والتعبيرية، وسيطر هذان المنهجان على تاريخ نظرية السينما وممارستها، منذ عهد الأخوين لوميير (اللذين خضعا لهاجس نقل المواد الخام على الفيلم) وميليه (الذي كان مأخوذاً بشكل واضح، بما يمكن عمله بالمواد الخام).

ما هي الشروط الفنية للروائي أو الوثائقي ؟

 البداية هي اختيار الموضوع وكما سبق وان اكد بول روثا: “يأتي كل فيلم بمشكلة جديدة وفقا للموضوع الذي يعالجه. ووفقا للموضوع الذي يجد حلولا لانجازه.
لنأخذ مثلا
هل يمكننا مثلا أن نصنع فيلما روائيا عن إنشاء الخط الحديدي الحجازي في العام 1864م  هذه الحالة يكون الموضوع مجرد خلفية للقصة نستنبطها من الموضوع ونسردها خياليا دون أن يكون الهدف من سردها التاريخي حقيقيا إنما يكون قصة مختلقة بغض النظر عن مدى اقترابها من موضوعها التاريخي الديني والسياسي.
كيف؟ لنجرب ونأخذ موضوع فيلم تم إنتاجه من قبل برنامج تحت المجهر في الجزيرة الإخبارية:
أثناء العمل على فتح قناة السويس التي ربطت بين البحر الأبيض المتوسط والبحر ألأحمر ولدت فكرة إنشاء الخط الحديدي الحجازي في العام 1864م، باقتراح من مهندس أمريكي من أصل ألماني يقضي بمد خط حديدي يربط بين دمشق وساحل البحر ألأحمر ثم أُعيد طرح المشروع في الأستانة في العام 1880 مع بعض التعديلات التي تقضي بمدّه من دمشق إلى الأراضي المقدسة والهدف أن يسهل إنشاؤه نقل الحجاج إلى أرض الحجاز  غير أن  الأهداف (السياسية والعسكرية) لم تكن أقل أهمية من الهدف الديني إذ كان من مصلحة الباب العالي ربط الولايات العربية التابعة للسلطنة العثمانية بشبكة خطوط حديديه لكي يسهل السيطرة عليها، وتأمين الإمدادات من مؤن وعتاد للحاميات العسكرية التركية في الولايات.
افتُتح الخط رسمياً باحتفال مهيب في الأول من أيلول 1908،  ودشنت أول رحلة على الخط الحديدي الحجازي بين دمشق والمدينة المنوّرة، واستغرقت خمساً وخمسين ساعة، بينما كانت تستغرق أربعين يوماً، وبعد تدشينه بسنة واحدة تم خلع السلطان عبد ألحميد لكن الخط أستمر بتسيير رحلاته، قبل أن يتوقف نهائياً، في نقل التجار والحجيج بين دمشق والمدينة المنورة ما يقارب التسع سنوات.
إن معرفة الفنان للحياة التي تلعب دورا هاما في نشاط العالم لا تعطي وحدها الشيء الجوهري لأنه بحاجة إلى ذلك التلاحم إلى تلك الوحدة بين المعرفة والتقويم، بين الذاتي والموضوعي”. وإن دراسة العمل الفني وتحليله يجب أن تجمع بين مجالات ثلاثة وتوضح قوانينها التي تحدد بدورها: ولادة وتشكيل العمل الوثائقي الفني، طبيعة بنية العمل الوثائقي الفني، استقبال العمل الوثائقي الفني.
إن كل فيلم وثائقي هو بحث دؤوب عن الحقيقة أو هكذا يجب أن يكون
وبما انه يقوم على الحقيقة فيجب أن تتوفر فيه الشروط التالية

1. موضوعه حقيقي وموثق ويمكن التأكد من صحة واقعيته
2. انه يعرض الأحداث والأفعال كما وقعت بدقة وأمانة
3. انه بحث عن الحقيقة وتقديم براهين بأمانة عن دليل وجودها

إن فيلم “من اسكت الصافرة” لا يكتفي طبعا بمسالة تاريخية إنشاء الخط فقط  إنما يكشف أيضا الأهداف السياسية من إنشائه والأهداف السياسية من تعطيله؟
إن كل فيلم هو تجربة سينمائية خاصة تختلف عنها في إي وسيط تعبيري آخر وإن أفضل الأفلام التسجيلية هي أفضل ليس لأنها الأكثر تضمناً للمعلومات أو الأكثر إقناعاً أو الأكثر فائدة، بل لأنها الأكثر إبداعاً، وتأثيراً، وتضميناً للوثائق البشرية القيمة التي يمكن صنعها من خلال الأحداث  الموثقة فيها.

هل هناك خيارات جمالية لمخرج الوثائقي؟

الانسان الموهوب يصنع ما يريد لكن العبقري يصنع فقط ما يقدر عليه.
 اليو كاربينتر كاتب كوبي

بيلا بالاج

مصطلح الوثائقي/التسجيلي هو في الأساس أقدم من المصطلحات المتداولة التي أصبح منها اليوم ما يسمى أفلام لا خيالية وأفلام –وقائعية. أو أكثر من ذلك “أفلام عن ألحياة ففي تاريخ السينما اعتبر جون غريرسون لأول مرة في العام 1926 فيلم “موانا” لروبرت فلاهرتي  بمنزلة إعداد بصري لأحداث يومية ذات أهمية وثائقية تسجل مصير صبي وعائلته البولينيزية.
وتأتى على هذا المفهوم في البداية أن يؤكد على نوعية مصداقية مميزه لا تتعارض  ومتطلبات الواقع ألسردية المتعارف عليها، في التدخل ألمشهدي في مادة الوقائع الراهنة. وفي وقت لاحق عرف غريرسون الفيلم الوثائقي “إنه المعالجة الخلاقة للأحداث ألواقعية وأضاف رفيق دربه بول روثا: “إن جوهر الوثائقي يتحدد في تحويل مادة -واقعية- راهنة إلى دراما
أن الجهود التي سعت لتغيير كلمة تسجيلي بتعاريف أخرى كما إن من استعمل بدل كلمة تسجيلي مفهوم فيلم لا خيالي قاد إلى سوء فهم يقول أن الأفلام كلها التي لا تعمل بالخبال وهو أمر مستحيل هي أفلام حقيقة بينما الأفلام الأخرى كلها أو معظمها هي أفلام غير حقيقية. لان الأفلام التسجيلية التي تنظم مشاهد وتركيبات في لحظة وقوع الأحداث لا يمكنها أن تقتصر على واقع مصور سينماتوغرافيا، ولأن الفيلم الروائي الخيالي يسجل كذلك الواقع المُعاد تمثيله بالصور السينماتوغرافية.
بيلا بالاج  هو اول من كتب عن درامية سيناريو الفيلم الروائي واهميته. وقد أكد صنف السيناريو كنوع أدبي جديد له قوانينه الدرامية الخاصة. ووجد إن شكل السيناريو الجديد سوف يرسم تاريخ السينما ويرسم تاريخه الخاص و من هنا يخرج الفيلم من عزلته و يصبح نوعاً أدبياً معترفاً به.
أولا علينا أن نجاوب على بعض الأسئلة الحاسمة تحديدا في صناعة الفيلم الوثائقي. الخطوة الأولى هي أن تلتزم منهجيا، بطريقة تفكير وثائقية منطلقين معرفيا من خصوصية لغة الفيلم الوثائقي البصرية/سمعية وثائقية على أن تكون خياراتنا الجمالية خيارات ملتزمة بتطور كل تلك ألأساليب الوثائقية الخصوصية ألشرعية التي تم إنتاجها وابتكارها في الماضي وتبتكر أيضا في الحاضر.
خصوصا وان المبدأ الأول باختصار هو أن الوثائقي مشروع جمالي في ذهن صانعه، لكنه مرتبط بما توفره معطيات الواقع وبما انه ليس مجرد توثيق لهذه المعطيات الملموسة بل هو إضافة إلى مصداقية تسجيلها، إلا انه بمنزلة صدام بين التصور الذهني وبين تجسيد صوره فنيا في صيغة وثائقية وجمالية مميزة لا تسجل ما هو واقعي إنما تحويل مادته الواقعية بشكل مبتكر وخلاق إلى دراما.
تحدث رومان كارمن عن سيناريو واحد من أفلامه كنا نعمل على السيناريو او مخطط افكارنا قبل ان نبدأ العمل وكان عملنا مع الكتاب يستغرق حوالي شهر واحد لكن الحياة كانت تصحح دائما مخططنا وهكذا يجب ان يكون.
وإذا عدنا للنظرية الدرامية التي انشغلت بالسؤال حول خصوصية ومضأكدت، في كثير من الأحيان على أهمية “نص” ونوعية الفيلم الوثائقي ومستوى جمالية “عرض” مضمونه الاجتماعي وكيف يحاول العمل الوثائقي أن يوفق بينهما أو أن يخلق بينهما حالة من الصراع والتصادم.

كامل المقال

مون وبنية العرض ألمميزة فإنها


إعلان