«الشعب يريد».. في السينما الفلسطينية
انتهى فيلم «عيد ميلاد ليلى»، بالصرخة المدوّية التي أطلقها «أبو ليلى»، بعد أن ضاقت به السُبل: «بدنا نعيش»!.. حينها كان «أبو ليلى» قد وصل إلى نهاية «يوم عادي»، من أيامه التي يعيشها في «رام الله»، وقد بات، وهو القاضي الخبير والمُجرّب، يعمل «سائق تاكسي» يمتلكه شقيق زوجته. «يوم عادي»، هكذا سيصفه، وقد تابعنا معه رحلته منذ الصباح الباكر، حتى المساء، وأعدنا معه اكتشاف تفاصيل معروفة من الحياة الفلسطينية، التي باتت موزَّعة بين ممارسات الاحتلال، وفساد السلطة، والانقسام الفصائلي، وفلتان السلاح، والواقع الاقتصادي والاجتماعي المؤلم، الذي يرزح تحته أبناء الشعب الفلسطيني.
وفيلم «عيد ميلاد ليلى»، للمخرج رشيد مشهراوي، (إنتاج 2008، تمثيل: محمد البكري، عرين العمري)، الفائز بجائزة أفضل سيناريو في «مهرجان أبوظبي السينمائي»، في العام نفسه، ينتمي إلى نسق «السينما الفلسطينية الجديدة»، التي كان المخرج مشهراوي أحد روّادها منذ بداياتها، في ثمانينات القرن العشرين، والتي تمثلت بنشوء تيار سينمائي فلسطيني، يهتم بالتفاصيل اليومية للشعب الفلسطيني، دون أن يُفلت القضايا الكبرى، المصيرية، والوجودية، بل يعبّر عنها من خلال وقائع الحياة. فامتازت السينما الفلسطينية الجديدة، على أيدي مخرجيها، ومخرجاتها، بأنها لم تعد حاملة للشعارات الكبيرة، قدر ما هي معنية بالحديث عن الإنسان الفلسطيني، في واقعه الراهن؛ الإنسان العادي.
بعد عمله سنوات، في سلك القضاء في إحدى الدول العربية، يعود القاضي «أبو ليلى» (يؤديه الفنان محمد البكري)، إلى الضفة الغربية، على وعد أن ينتسب إلى سلك القضاء الفلسطيني، في إطار «السلطة الفلسطينية»، الناشئة، خاصة وأن «أبو ليلى»، يؤمن أن لا إمكانية لقيام «سلطة وطنية»، وتطوّرها، إلا بوجود قضاء عادل مستقل. أن يعمل القاضي «أبو ليلى»، سائق تكسي، لتحصيل لقمة العيش، هو مما يختزل الكثير، دون الحاجة إلى المزيد من الشرح، حقيقة الواقع الفلسطيني!.. هل ثمة من يحتاج لتفسير لماذا يضطر «القاضي» للعمل «سائق تاكسي»؟.. أيُّ مرارة أشدّ من ذلك؟.. وأيّ ذلّ وهوان أوجع من هذا؟..
الذريعة الدرامية التي يؤسِّس فيلم «عيد ميلاد ليلى» أحداثه عليها، تسمح لنا بالتجوال مع «سائق التاكسي» في شوارع مدينة «رام الله»، والالتقاء بالعشرات من النماذج المتنوعة. كل نموذج منها يكشف عن جانب ما، من جوانب الحياة. وهي، نموذج إثر آخر، تكشف عن مقدار العنت المتفشّي في أحشاء الواقع، والذي لا يدفع إلى مزيد من الحنق، مقدمة للانفجار الشعبي الكبير المُرتقب!..
يميل الممثل محمد البكري، وهو أحد أهم الممثلين الفلسطينيين، داخل الوطن المحتل وخارجه، إلى اعتماد أسلوب التمثيل الهادئ، الذي ربما يعيبه البعض، ويأخذه عليه. ومع هذا، فإن ذلك كان خياراً فنياً، على ما نرى، يريد التعبير عن مفارقة التناقض الكبير، بين الهدوء الخارجي، عبر الملامح، والنظرات، وطريقة الكلام، وردود الأفعال.. والغليان الداخلي، الذي يعتمل في داخله، بسبب فجيعة ما يراه، وما يصادفه يوماً بعد يوم، ونموذجاً بعد آخر، من مفارقات الواقع الفلسطيني. إنه الهدوء الظاهري ذاته، الذي خدع قوى الاستبداد، من احتلال، وسلطات حكم، وأجهزة استخبارات، إلى درجة أنها ظنّت أن لا قيامة لهذا الشعب.

لا يكتفي فيلم «عيد ميلاد ليلى»، بالإشارة إلى ما يبثّه وجود الاحتلال الإسرائيلي، على الأرض، وفي السماء، وفي نفوس البشر، بل إنه يذهب إلى مستوى نقد الذات الفلسطينية، وما تضيفه، بفسادها وفواتها، من معاناة فوق معاناة، وألم إلى ألم، وهو ما عبّر عنه بذكاء بالكثير من المفردات؛ فالحواجز والمعابر الإسرائيلية، تسدّ الطرق، حتى أمام «الراهبة» الذاهبة إلى قدّاس، والسماء مساحة للطائرات الحربية والحوّامة، التي تراقب الذاهبين والغادين، ولا تتوانى عن إلقاء صواريخها الفتّاكة، حتى لو أصابت حماراً يجر عربة، في سوق خضار.. والقلق والتوتر كامن في النفوس، سواء أكانت امرأة تحتار في الذهاب إلى المشفى أولاً، أم المرور على المقبرة، أو كان ذاك المعتقل الذي أمضى 11 عاماً، من «التدخين»، في سجون الاحتلال.. والفساد والفوات الفلسطيني، يثير الألم بطريقته أيضاً، كأن ترى مسلحين منتشرين في الشوارع، وتنتبه إلى الفلتان الحاصل، أو أن تشاهد شرطيّ المرور الذي يلاحق سائق التاكسي، لنكتشف في النهاية أنه يبحث عن سيارة يشتريها، ليعمل عليها خارج أوقات الدوام، ويدبّر رزقه.
الإنسان الفلسطيني الذي قدَّم، عبر سنوات من النضال والكفاح والجهاد، تراثاً فريداً من التضحية والبذل؛ الإنسان الذي حلم بوطن حرّ، وعيش سعيد، هاهو كما يقدّمه فيلم «عيد ميلاد ليلى»، بات رهينة للقلق والتوتر، والتحفّز، ربما بانتظار شرارة تفجّر هذا البركان، الذي يمور في داخله، وهو يرى قهر الاحتلال، وفساد السلطة، وحالة الانقسام بين «فتح»، و«حماس»، وفوضى فلتان السلاح.. لتتحوّل خطبة «أبو ليلى» الأخيرة، بمثابة بيان؛ يعد، ويتوعّد بالكثير؛ «بدنا نعيش»، تلك الجملة التي تختزل رغبة الشعب الفلسطيني الجامحة للعيش بحرية، وكرامة.
«بدنا نعيش»؛ لم تكن تلك نبوءة مبكّرة لفيلم «عيد ميلاد ليلى»، بل ربما تلمّساً ذكياً لواقع، سنكتشف بعد ما لايزيد على سنتين، أنه لم يكن حكراً على الشعب الفلسطيني، وحده، إذ ما أن توفّرت الشرارة المناسبة، حتى هبَّ الشعب العربي، في غير بلد عربي، هاتفاً «بدنا نعيش»، وكان موسم «الثورات العربية»، الذي امتد على العام 2011، ولم يكتمل بنهاياتها.
ترى، هل كانت صرخة «محمد بوعزيزي»، التي عبّر عنها بالنار التي أوقدها في جسده، سوى نفوره من حالة الذلّ والهوان، التي أحاقت به من كل جانب، وهو الذي لا يريد من الحياة إلا أن يعيش بكرامة؟.. وترى، أي فارق بين «بوعزيزي»، الشخص الحقيقي، و«أبو ليلى»، الشخصية السينمائية، وكلاهما يعاني من تنويعات لا تكاد تختلف على أوتار القهر، ويصطدم بالفساد، والنهب، والاستغلال.
يمكننا القول، دون كثير من المغالاة، لعله كان من قدر السينما الفلسطينية، بسبب من خصوصية الواقع الفلسطيني، أن تكون صاحبة قصب السبق والمبادرة في الإشارة إلى أهمية الدور الشعبي في عملية التغيير القادمة لا محالة. ربما يمكننا العودة ثلاثين سنة، إلى الوراء، لننتبه أنه مع نشوء تيار «السينما الفلسطينية الجديدة»، بدأ الإنسان الفلسطيني العادي، بالظهور على شاشة السينما. لم تعد الشاشة حكراً على شخصيات الأبطال الاستثنائيين، سواء أكانوا من الفدائيين الملثمين، أو المقاتلين الأشاوس، أو القادة الميامين. صارت الشاشة فسحة للتعرّف على الناس العاديين، تماماً إلى درجة أن الكثيرين صدمهم ظهور فلسطيني يبكي، بسبب ما يلاقيه من قهر، وقلة حيلة.
لا يمكن لتلك المشاعر أن تنطفئ، ولا يمكن لها أن تذهب أدراج الرياح!.. إنها «مداميك» تتراكم، وتعلو، لتُعلي في النهاية من الخيار الشعبي، الذي كان لابد أن ينفجر، ذات يوم. حصل ذلك يوم 12/12/1987، عندما أشعل الفلسطينيون انتفاضتهم الشعبية الكبرى، والتي دامت قرابة أربع سنوات (1987 – 1991). حينها كان واقع الثورة الفلسطينية المُسلَّحة، التي علَّق الفلسطينيون آمالهم، قد شهد تضعضعاً فاضحاً. وكانت منظمة التحرير الفلسطينية، التي يعتبرها الفلسطينيون ممثلهم الشرعي والوحيد، قد وقعت في قبضة العزلة، بسبب إغراقها نفسها في مستنقعات السياسات العربية الرسمية. حينها، لم يكن الفلسطينيون بحاجة إلا لشرارة تُفجّر بركان الغضب. كانت الشرارة قادمة على أيدي حادثة دهس عربة إسرائيلية عمداً لمجموعة من العمال في جباليا.
![]() |