السينما الوثائقية في تونس ورياح الثورة العربية
ملامح الإبداعية الشعبوية ورهانات الجمالية الجديدة
وسيم القربي – تونس
إنّ الوقوف على التجربة السينمائية الوثائقية في الوطن العربي هو استحضار لإبداعية الفكر السينمائي والصور التي رُسمت على الأشرطة لتوثّق أحداثا وتطبع رؤية للمستقبل، وهو أيضا استحضار لمآسي الإبداع العربي الذي تمّ أسره في بوتقة السجن الإبداعي من خلال هيمنة ذهنية التحريم والرقابة التي حدّت من جمالية الصورة وكبتت الفكر. لقد مرّت التجربة الوثائقية بإحباطات وأحزان جعلت من صورها توابيتا للإبداع البائس بعيدا عن الجمالية الجادّة أحيانا أو اغتيالا لإرادة الفنان من طرف السلطة وسياساتها الثقافية القمعية.
غير أنّ الربيع العربي حمل معه رياحا هبّت لتفرض تغييرا عميقا لا سيما على المستوى الثقافي حيث تحرّرت الآلة السينمائية موازاة مع تحرّر الفكر وانفتاح باب الفكر الحرّ. ومن بين التجارب السينمائية العربية التي خذلها التضييق على حرّية الفكر والإبداع خلال عقود من التسلّط والاستبداد نجد التجربة التونسية، حيث تشهد الساحة السينمائية عموما والتوثيقية خصوصا في هذا البلد تحرّكات إبداعية هي أشبه بالإنفجار الإبداعي… وبالتالي فإننا نقف من خلال هذه الدراسة على التجربة الوثائقية الجديدة في تونس التي شهدت هبوب أولى رياح الثورة، ونحاول من خلال هذه التجربة تسليط الضوء على الصيغ المتنوعة للتوثيق والجماليات الجديدة المنبثقة…
1- السينما الوثائقية العربية ووقائع القهر الثقافي: وثائقيات تونس أنموذجا
الفن السينمائي هو فنّ قادم من الغرب استنبت على الأرض العربية عبر تمرحلات جعلته مسارا إبداعيا شاملا للموضوعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية… وعبر الانتفاضات المتتالية للصورة بأشكالها المتعددة نشأت السينما الوثائقية لتتمايز بإبداعية خاصة جعلتها مشروعا فكريا وثقافيا قائما بذاته. وعلى الرغم من أنّ السينما العالمية بدأت وثائقية من خلال أفلام الأخوين لوميير، فإنّ الوثائقي في البلدان العربية انتظر عقودا ليشهد نشأته الجنينية لاعتبارات متعددة لعلّ من أبرزها العوائق والتضييقات والإكراهات التي شهدها من مقصات الرقابة الثقافية المنضوية تحت الإملاءات الحكومية باعتباره جنسا إبداعيا غير مرغوب فيه نظرا لكون الشريط الوثائقي وسيلة لنقل الواقع أو لإعادة صياغته عبر التخييل. ولقد شكّل الواقع إحراجا سياسيا للسلط العربية عموما وهو ما جعل الماسكين بزمام الثقافة أمام خيار تعطيل هذا الجنس الإبداعي وقمعه مقابل التشجيع النسبي على السينما التخييلية بموضوعاتها الجانبية قصد الابتعاد عن المشاغل الأساسية للمواطن العربي.
أ- مسالك التجربة الوثائقية في تونس وثنايا الأثر
إذا كانت أولى اللقطات في تاريخ السينما العالمية توثيقية بالأساس، من خلال أفلام الأخوين لوميير “خروج عاملات من المصنع” و”وصول قطار إلى محطة سيوتا”، فإنّ استنبات هذا الفنّ في تونس جاء وثائقيا أيضا. لقد صوّر فريق الأخوين لوميير مشاهد من مدينة تونس وأسواقها ونذكر خاصة أماكن مثل “سوق الخضر” و”باب فرنسا” و”ساحة باب سويقة”… لتكون وثيقة نادرة عن تونس أوائل القرن الماضي . تواصلت هذه الصور المتواترة من خلال الصور التوثيقية للأسطول الحربي الفرنسي بميناء صفاقس.
تواصلت التجارب السينمائية بصفة محتشمة نسبيّا باعتبار أنّ البلاد التونسية قد شكلت الفضاء- الديكور لصور الآخر الذي انبهر بطبيعتها وضوئها. ولم تخلو الصور السينمائية لليهودي التونسي من أصل فرنسي ألبرت شمامة شيكلي من الطابع الوثائقي حيث عكست صور فيلمي “الزهرة” و”فتاة قرطاج” البعض من واقع العشرينيات النادر.
تواصل استنبات الفن السينمائي على الأرض التونسية من خلال خلال عروض الأفلام الأوروبية والأمريكية التي كانت حكرا على الرعايا الاجنبية المقيمة بتونس وعلى فئة من النخبة التونسية القريبة من السلطة الاستعمارية. لم تكن علاقة التونسي بالسينما وطيدة حيث اقتصرت على بعض المساهمات المتواضعة من خلال مشاركة بعض الممثلين في أفلام “مطموسة” مثل محي الدين مراد وحبيبة مسيكة في “مجنون القيروان” سنة 1936. لم يمارس التونسي الفن السينمائي كتقنية إلى حدود الخمسينيات من القرن الماضي.
وقد بدأت العلاقة الفعلية تنشأ مع بداية الأربعينيات من خلال القافلة السينمائية التي تخطّت تونس العاصمة لتجوب أعماق الجمهورية وتنشر الثقافة السينمائية. وقد أسس الراحل الأستاذ الطاهر شريعة سنة 1946 أول نادي سينمائي بمدينة صفاقس حيث يتمّ عرض الأفلام الأجنبية للشباب ومناقشتها، وهكذا كانت هذه المبادرة منطلقا حقيقيا لتأسيس نوادي أخرى بالبلاد التونسية أفرزت إنشاء الجامعة التونسية لنوادي السينما سنة 1950 وقد كان هدفها جمع هذه النوادي ضمن إطار واحد. وقد ضمّت هذه النوادي المولعين بالفنّ السينمائي بالإضافة لبعض الفرنسين بتشجيع من السلطة الكولونيالية قصد نشر ثقافتها لتغلغل غاياتها الاستعمارية بالأساس وخدمة غاياتها الإيديولوجية. اقتصرت هذه النوادي على عرض الأفلام المشفوعة بحصص مناقشة باللغة الفرنسية بالأساس.
تواصلت هذه التجربة السينمائية التي ساهمت بشكل أو بآخر في نشر الثقافة السينمائية وتكوين جيل من المولعين بفنّ الآخر، وبدأ جيل من العصاميين في المساهمة التقنية ونذكر على سبيل المثال عمارالخليفي الذي أسس شركته الخاصة في أواخر الخمسينيات وأنجز أولى الأفلام الهاوية. بدأت الدولة التونسية إبان الاستقلال بالتفكير في إرساء مشروع جمالي وفكري يُعنى بالحقل السينمائي، فكانت البنى الإبداعية في أوائل الستينيات مؤشرا لذلك، ومن ذلك سنّ قانون ينظم الصناعة السينمائية، كما تمّ تأسيس أول مهرجان عربي إفريقي خُصّص لسينما الهواة بمدينة قليبية سنة 1962. ولقد كان هذا المهرجان فضاء يحتفي بالمحاولات التجريبية بمختلف أنواعها لجيل نوادي السينما وقد مثّل فرصة لتلاقي المولعين وتبادل التجارب، ليحمل في ما بعد الصبغة الدولية.
![]() |