حين لا يكون الواقع حقيقة، ولا خيالاً أيضاً
أفلام الثورات العربية بدأت قبل سنين وبمواضيع شتّى
محمد رُضا
كان من الطبيعي اشتراك عدد كبير نسبياً من الشباب المسلّح بكاميرات الفيديو (وما دون ذلك) في ثورة يناير المصرية حال اندلاعها. والطبيعي في ذلك ليس الموقع الجغرافي القريب ولا حتى الشعور بأن على ماسك الكاميرا المشاركة في الحدث بقدر ما استطاع من عفوية كون الثورة ذاتها ارتدت الثوب العفوي ذاته، بل أساساً لأن التقنيات الحديثة جعلت من السهولة إلى أقصى الدرجات تصوير أي شيء في أي وقت من ناحية، وتنفيذه بتقنيات الكومبيوتر المتداولة من دون كلفة تُذكر. على هذا الأساس لم يمر اليوم الأول الا وقد تم تسجيله على صفحات الإنترنت لينطلق بعضها متصدّراً النشرات الإخبارية حول العالم. لأول مرّة عربياً وعلى هذا النحو الشاسع، فإن التقنيات التي تصنع الخبر التلفزيوني هو ذاتها التي تصنع ما سيعرض على الشاشة الكبيرة وما عُرض بالفعل على شاشات مهرجانات كان وفنيسيا وأبوظبي ودبي وبرلين وتورنتو من بين أخرى. فجأة صرنا نرى ما لا يختلف في كيانه وشروطه عما تدافعت المحطّات التلفزيونية لعرضه. وبدأ ذلك بفيلم «18 يوم» الذي شارك بإخراجه عشرة سينمائيين مصريين من بينهم شريف عرفة وكاملة أبو ذكرى وخالد مرعي ويسري نصرالله ومريح أبو عوف ومروان حامد.
«التحرير 2011: الطيّب، الشرس والسياسي» الذي حققه ثلاثة سينمائيين شبّان هم عمرو سلامة وأيتين أمين وتامر عزّت مقدّمين ثلاثة أفلام قصيرة كل منها يحتوي على زواية مختلفة تطل على المشهد الجاري طرحه وهو ثورة يناير. «18 يوم» عُرض في مهرجان “كان” في ربيع العام الماضي و«التحرير 2011» عرض في مهرجان فانيسيا على بعد أشهر قليلة كانت كافية لتجعل مخرجي الفيلم الثاني أكثر قدرة على اختيار الزوايا الجديدة التي يودّون طرحها. وما أن حل مهرجان دبي في نهاية ذلك العام حتى عرفت السينما المصرية عملاً كانت لديه مسافة أفضل لطرح تساؤلات محقّة أنجزه أحمد رشوان تحت عنوان «مولود في الخامس والعشرين من يناير».
هذا ليس للقول أن الأفلام التي تم تقديمها إلى اليوم، وعلى مدار عام واحد، خطت سريعاً لأي نوع من الكمال. في أساسها لا زالت ردة فعل غير قادرة على الإمساك بالصورة كاملة، كون الصورة في الواقع ليست الحقيقة النهائية. وفي حين أنها ليست خيالاً مبتدعاً في الوقت ذاته، الا أنها لا زالت منتقصة وغير متكاملة لكي يذهب المخرج بها إلى تجسيد إدراك شامل لها.
عن الحياة في ظل حكم بائد
بذلك، ننظر، وقبل المضي في تقديم قراءتنا لبعض هذه الأفلام، إلى وضع لم يصادف صانعي السينما من قبل، فالتقنيات التي جعلت من السهولة بمكان كبير التقاط الحدث حال وقوعه، هي ذاتها التي ساهمت في تعميمه كمادة غير مدروسة لا فنّاً ولا موضوعاً. بذلك برهنت على أن الملكية الأولى هي ملكية المخرج وليست ملكية الوسيط بمعنى أنه هو وحده الذي يستطيع أن يرفع مستوى الفيلم، سواء أستخدم كاميرا الدجيتال (او حتّى الهاتف المحمول) او الكاميرا السينمائية، بينما التقنية المتوفّرة هي الوسيط الذي يمكن عبره إنجاز فيلم بروعة «سفينة روسية» لألكسندر سوخوروف او شيئاً يتحرّك أمامنا من الصعب تسميته فيلم، كما حال العديد مما شاهدناه من هذه الأفلام المنتمية إلى الحدث.
وهناك سبب مهم في أن الفيلم الناتج عن هذه الثورة في أسابيعها الأولى لن يحصد سوى ميزة تاريخية كأول فيلم عن تلك الثورة، او كأحد أولى أفلامها، وهي ميزة بالكاد ذات أهمية على أي نطاق آخر. هذا السبب هو حقيقة أن التلفزيون الإخباري سبق العروض السينمائية لما تم تصنيعه من أفلام ثورجية. بالتالي، فإن قدراً كبيراً من أهمية المبادرة وهو القدر الكامن في أن تقوم السينما بعملية فتح البصر والبصيرة على الموضوع، ذاب في طيّات البث التلفزيوني اللاهث.
إنه لهذا السبب أكثر من سواه، لم تشهد الأفلام الأميركية الكثيرة التي دارت حول الحرب العراقية، بما فيها الفيلم الفائز بالأوسكار قبل عامين («خزانة الألم») اهتماما شعبياً كبيراً في الولايات المتحدة وحول العالم.
هذا الوضع لا يعني مطلقاً أن الأفلام التي تم تقديمها بالمناسبة، لم تحتو على ما هو جدير بالتقديم. فيلم «التحرير 2011» حوى ثلاثة أعمال يسهم كل منها (وعلى نحو متفاوت) في رصف عمل كلّي مثير للاهتمام. في الوقت ذاته، وجد المخرج التونسي مراد بن الشيخ سبيلاً لخلق نظرته الخاصّة حول وضع لا يكتفي فيه بعرض الأشرطة المصوّرة، بل ينتقل للبحث فيها وذلك عبر فيلمه الجيد «لا خوف بعد اليوم».
“البائع المتجوّل الذي أسقط بن علي”، يقول أحد الشبّان المتحمّـسين الجالسين بين مجموعة تحرس الحي ليلاً، وهو بالفعل مصيب بالفعل في ملاحظته، إذ أدّت الحادثة الحزينة فعلاً وسبباً إلى خروج التونسيين إلى الشوارع بعدما نفذ صبرهم من حكم بوليسي متعسّـف. هذا الفيلم هو عن عدّة شخصيات تتحدّث عن الحياة كما كانت في ظل الحكم البائد وخلاله الثورة ضدّه، مع مشاهد كثيرة من الأحداث ذاتها: المظاهرات، المواجهات، وآراء الناس التي تختلف كلماتها لكنها تتّـفق على أن الثورة كانت في محلّها الصحيح وكان لابد منها. بعد حين يبدأ الفيلم بالدوران حول نفسه على الرغم من اختلاف المشاهد. وهي، نسبياً، مشاهدة جديدة كون التلفزيونات (العربية خصوصاً وبينها قناة “الجزيرة” ذاتها التي ساهمت في إنتاج هذا الفيلم) حرصت على عدم التواجد في الأيام الأولى من تلك الثورة. كذلك فإن السينما التونسية لم تنجز حتى الآن أكثر من حفنة أشرطة هذا هو أكثرها انتشاراً. تصوير الفيلم (لا مانع من الاعتقاد بأن المخرج هو الذي صوّره بنفسه) جيّد ومحترف. الرغبة في نقل حقيقة الشارع وأسباب الثورة واضحة والفيلم ينجح في الانتقال بين شخصياته في مواقع شتّى.
مثله في محاولة الخروج من المتوقّع، ولو بنتائج مختلفة، فيلم أحمد رشوان «مولود في الخامس والعشرين من يناير» الذي يأخذ فاصلاً زمنياً يتبلور خلاله حس المخرج التسجيلي المعروف حيال ما أنجزته ثورة الشعب المصري، وبما لم تنجزه أيضاً. كذلك يتبلور فيه موقف المخرج الشخصي منها وهو موقف تميّز بالريبة في مطلع الأمر، ثم بالإنتقال إليها للمشاركة فيها على أكثر من وجه.
نسمع المخرج وهو يطرح أسئلة محقّة على نفسه وحين لا يدري جوابها ينزل بالكاميرا الى الشارع لعل هذا الشارع يمنحه المعرفة التي يبحث عنها. هو سعيد بالثورة التي أدّت إلى إثبات هوية الشعب المصري وانتفاضته، لكنه كثير التساؤل حول المستقبل وما ينتظر مصر تبعاً لما حدث. المخرج ليس عاطفي النزعة حيال الحاصل. يستقبله بفضول وترقّب ثم حين يشترك في مسيرته فرحاً به، لا يزال يتلمّس الأجوبة على ما يحدث وما سيلي.
ما يميّز فيلم رشوان عن أفلام مصرية أخرى تعاملت و”ثورة يناير” أكثر من شأن، ففي حين كانت تلك الأفلام، مثل «التحرير 2011: الطيب والشرس والسياسي» و«18 يوماً» هو أنه فيلم تم إنجازه عن بعد. الأفلام السابقة هبطت الشارع وصوّرت وتحققت والثورة، عملياً، كانت لا تزال سارية، لذلك كانت أقرب إلى ردّات الفعل على الفعل نفسه. لكن حيال هذه الحقيقة، يميل المخرج إلى الكثير من الذات على حساب الرؤية. هناك العديد من التنقيب عن الإحساس بالحدث وردّ الفعل الشخصي عليه، وأقل من ذلك إبداء الرأي في منحى الحدث ودواعيه وما يتمنّاه المثقّف من خلاله. على صعيد تصوير الحدث كاميرات الفيلم تلتقط وتؤرخ بعض أهم الوقائع التي لم نرها من قبل، وبذلك تتجاوز المشاهد التي تم تعليبها تلفزيونياً على الأقل. لكن على الصعيد الذاتي، فإن الفيلم لا يزال بحاجة إلى ما يجعله ملحّـاً. والكثير من التعليق بصوت المخرج من دون تحليل الوضع المذكور لا يمنح العمل هذا الإلحاح. وهناك الكثير من “الأنا” والقليل من “نحن” في فيلمه. صحيح أن فكرة الفيلم تدور حول المتلقّي الأول (المخرج نفسه) الا أن المطلوب لم يكن البدء والانتهاء عنده، بل البدء والانتهاء عند المتلقّين جميعاً، سواء أكانوا فئة المثقّفين، او الشعب برموزه المختلفة.
![]() |