وثائقي أم روائي : انهض وصور
1
وثائقي أم روائي ؟
خيال أم واقع؟
ما هي أوجه التلاقي ؟ وما هي أوجه التناقض؟ أو التنافر؟ أو التزاحم؟
من أي زاوية نتوجه إلى هذه الثنائية؟
ومن أي موقع؟ ومن أي تراكم تاريخي وتقني؟.
أبسط جواب : كلها سينما ، كلها أفلام ، لكن عين المحلل تتوقف عند مركز الإبصار عندما نتحدث عن الوثائقي.
2
هناك علم صعب المنال طوّعه “كانت” Kant، الفيلسوف الألماني ، لكن طرحه الذين بحثوا في ماهية الوجود في الحضارة المرتكزة على الكنيسة وهو يبحث في الأساس أسس كينونة وجود الخالق “L’ontologie” الذي يمكن لنا أن نترجمه “بعلم الكينونة ” وقد اعتمده في ما بعد “داروين” .
هذا البحث عن الكينونة هو المدخل الصحيح إلى صلب موضوع الوثائقي وطرح مسؤال كبير: كيف يتم اختيار المخرج- المؤلف السينمائي عندما يريد أن يعبر بالصوت والصورة: وثائقي أم روائي ؟
يجيب على هذا السؤال المخرج المبدع لكن المؤرخ والناقد والمنظر يقف وراء باب الإبداع أو على الضفة الأخرى من نهر الصور الذي بدأ ينبع منذ أول عرض للأخوة لومبير حتى أخر فلم يوضع مجانا على صفحة الفايسبوك وهو فيلم ربما فاق تقنية ودقة وشمولا وحرفية من أفلام كانت تنفق عليها أموالا طائلة في ما بين الحربين؟
وهل لهذا السؤال وطرحه موجب؟
3
نعيش حيرة كبرى أمام خضم الصور وخاصة ممارستها إذ تحوّل المتفرج من موقع الدهشة إلى الأنباهار (هو المبهر) فقد يجيب أحد المتفرجين ، عند عملية المشاهدة المتعة والشغف، عوضا على النقد إما بتحريف الصور… وتحويلها من معنى إلى معنى من مقصد إلى مقصد… عوض النقاش أو الكتابة… فالصورة اليوم تنادي الصورة غير أننا لا بدا أن نلج في خضم تراكم النظريات حول التلاقي والتنافر بين الروائي والتسجيلي وذلك بحثا عن ما هو متخيل حتى وإن فاق الواقع وتحديد الحقيقي حتى ولو أنه يحاكي الخيال.
من هنا لا بد من طرح جذور الفلم من ناحية وجذور الوثائقي من ناحية أخرى وكيف خرج الروائي من الوثائقي وكيف استعاد الوثائقي “روائيتة ” وذلك على أرضية قوامها رأس المال والتكنولوجيات والجغرا سياسة وطبعا الأنتولوجيا التي ذكرنا.
4

جذور الوثائقيات
في البدء كانت التحديات للإجابة على سؤال بسيط : كيف نحرك الصورة : ما العمل حتى لا تبقى الصورة جامدة إن كانت ثنائية الأبعاد كالرسم والمنمنمات أو ثلاثية الأبعاد كالمنحوتات؟
كان تحديا فيزيائيا كما كانت كل التحديات العلمية في علم الحيل والفيزياء والكيمياء.
وعندما توصل الأخوة لوميار لتحريك الصور وإنجاز أول فلم طبعا كان الاتجاه لتسجيل الواقع : عمال يخرجون من المعمل وخاصة تلك اللقطة الشهيرة التي حدّدت العلاقة بين الواقع والخيال: لقطة القطار الخارج من المحطة والذي هرب منه المتفرجون حتى يصبح الخيال أكثر واقعية من الواقع. منذ تلك اللقطة حتى صور أعلى وأحدث كاميرا أي كوريوزتي” التي حطت على سطح المريخ. يبقى الفيلم يلهث وراء الواقع حتى وإن كان روائيا.
بين الحدثين مئات الآلاف من كيلومترات الشرائط وملايين “الأوكتيات والميغات والجيغات” من الصور المتحركة والتي تغطي الواقع وما وراء الواقع : الحياة والتاريخ والحروب والوثائق والتوابع والزوابع والحب والقمع والطب والقائمة أطول من أطول شريط.
5
بدأ الوثائقي فلما فحسب وبدأ الفلم وثائقيا فحسب … ويؤرخ لأول لقطة روائية عندما التقط أحد المصورين لقطة رجل يلمع حذاء جندي في الشارع ومنها بدأت السينما تبحث عن دور ولغة وجمهور وطبعا تموقعا داخل الحركة الاقتصادية.
كاميرا لوميار ومصوريه كانت مزدوجة تصور نهارا وهي بعد التحميض تعرض الفلم ليلا.
عام 2012 انتشرت كاميرات في حجم مصغر ذات دقة عالية وتعمل كآلة عرض على الشاشة. عندما فكر رأس المال التفرقة بين الكاميرا وآلة العرض والتفرقة بين المخرج وجمهوره فقد تحوّل العمل السينمائي لما هو عليه اليوم : مخرج ومنتج وموزع ومستغل لقاعات ، ها هو اليوم أي مواطن يصبح الأربعة في نفس الوقت وربما هو وحدة جمهور إنتاجه.
لذا أصبح السؤال لماذا الروائي ولماذا الوثائقي ولمن يتوجه كل رهط منهما وكيف وأين؟ وهل هناك حاجز بين الروائي والوثائقي.
¬عندنا نحن العرب وفي حشرجة الترجمة صار عندنا نوعان : الوثائقي والتسجيلي .
ولذلك وجب تحديد المفهومين والرجوع إلى جذور الوثائقي.
في الأصل لما اشتد عود الكاميرا وتبلورت التقنيات كان البحث عن الحدث هو الأساس وأصبحت جل الأفلام هي أفلام إعلامية actualités غير أن تدخل رأس المال والاستيتقيا وتعدد إمكانيات التعبير خلقت عند المخرج أفضلية لبناء أشكال تعبيرية سينمائيه أولها الوثائقي وأساسها الروائي ثم تعدّدت المشارب التي خلقت فوضى اقتصادية ومفهومية ونظرية وهو ما أدى الى طرح ملفنا هذا.
6
وثائقي أو رؤائي
كيف نحدّد أن الفلم هو فلم وثائقي؟ ما لذي يميز على الشاشة ما هو واقعي وما هو روائي متخيل ؟
بين الذين يتشبثون بالموضوعية إلى حد التعصب عبر الأحداث المصورة وأفلام الأرشيف والذين يرون أن تلك الواقعية ما هي إلا إعادة تركيب الواقع “وإخراج” وثائقي ، الطريق ضيقة ووعرة لأن الواقعي والمتخيل يتقاطعان قطعا.
إن أي لقطة أو مشهد لا تعدو أن تكون انعكاسا لأمر ما في زمن ما، في حين أنها تريد أن تكون شاهدا واقعيا، فهي لا تنفلت من تأثير المتخيل.
كل لقطة أو مشهد يوضع على محك تساؤلات عدّة : المعنى المقصود من عملية التسجيل أو الالتقاط ؟ ماذا تريد اللقطة تقديمه؟ ما هي الأسباب التي تجعل صاحبها يلتقطها ويعبر من خلالها ؟وماذا يريد أن يعتقد ما يخلق لدى المشاهد أي عملية التأرجح بين “هكذا ” و”كأن ” الهاكذا … يريد تقديم الواقع والتسجيل وإن أراد أن يدعم يقدم الوثيقة والـ “كأن … ” ينتزع لحظة من الواقع ويقدمها عن طريق السرد فتصبح متخيلا.
وفي الحقيقة عند كل مخرج يوجد تقاطع بين “الهكذا…” والكأن…” ولا هروب منها..
والحقيقة ليست طبيعة ما يصور ـ إن كان حقيقة أو خيال – ، الذي يحدّد الوثائقي ويفرزه من الروائي إنما هي المعالجة في الأساس … والعلاقة بين( المصوّر (بجرّ الواو) والمصوّر (بنصبها واقتسام أو اشتراك النظرة عبر المنظار التي تحدّد طبيعة الفلم ومن هنا تدخل المكونات الأساسية: الزاوية ، و الصوت والموسيقى والتركيب والحوار أو التعليق .
من هنا يقع إلهام المتفرج إما بواقعية مفرطة تريد أن تكون واقعا أو حقيقة ومراوغة سردية تريد أن تغرق المتخرج في المتخيل في حين ذلك المتخيل هو انطلاق من عين الواقع حتى في أفلام الخيال العلمي…
فالروائي يقول هكذا كان وكأنك كنت مع الحدث. هنا يلتقي “الهكذا” و”الكان”.
والوثائقي يقول هكذا … هكذا وإلا لن يكون.
من هنا نجد في كل وثائقي نفس روائي وهو “الحكي” وفي كل روائي نفس وثائقي وهو تقاطع المكان والزمان والشخصيات التي لا تأت من عدم.
لماذا يختار المخرج الوثائقي؟ ولماذا يفضل آخر الروائي؟
للإجابة على هذا السؤال لا يقدر أحدا المجازفة على وجود إجابة وتاريخ السينما يعج بالأمثلة حيث ان جل المخرجين الوثائقيين الكبار الذين أعطاهم التاريخ والممارسة موقع الكبار، جلهم حشروا في الوثائقي الروائي.
لنأخذ مسيرة أربعة كبار كعينات وسيأتي يوم نستعرض فيه تجربة كل كبار الوثائقيين في العالم بطريقة ممنهجة.
ـ فلاهرتي ودزيغا فرتوف وجوريس إفنس و يوهان فن دركوكن.
![]() |