السينما ولعبة الحظ والحقيقة
الفيلم الوثائقي و الفيلم الروائي..
أحمد بجاوي
منذ ظهور الصناعة السينمائية، اقتحم الفيلم الحياة اليوميةللجزائريين. ففي الواقع سرعان ما طاب المقام ” ل بروميو” و مسغويش” وهما يعتبران عضوين مهمين في فرق الإخوة ” لوميار” حيث استقرا في حي باب الواد بالجزائر العاصمة، مما مكّنهما من إخراج افلام كثيرة في عدة مدن جزائرية.
هذه الافلام القصيرة جدا و التي تستغرق 90 ثانية فقط والمصنفة في مكتبة السينما الجزائرية ، تعدّ وثائق تطلعنا تماما على حياة المجتمع في المدن الكبرى حيث يمكن بمعاينتها ، مشاهدة طريقة لباس سكان المدن وكذا وسائل النقل التي يستعملونها و ذلك منذ أكثر من قرن مضى.
كان من الممكن أن نتوقع أن يفضّل المخرجَيْن تصوير المجتمع الأوربي دون غيره ، لكن الأمر لم يكن كذلك. شخصيا أنا لا أتقاسم الرأي مع بعض زملائي الذين يصنّفون هذه المَشَاهد القليلة في زمرة السينما الاستعمارية مع كل ما يفضي إليه المفهوم من دلالات الكراهية.
بالعكس، أنا أعتقد أن هذه الأفلام الصغيرة هي أول و آخر أمثلة عن نوعية من السينما تميزت بالبراءة .ففي تلك الفترة لم تكن شواحن بطاريات الكاميرا تمنح من الزمن إلاّ لتصوير لقطة من دقيقة و نصف و من زاوية وحيدة ،مما كان يلغي خيار التقاط الصورة من زاوية معقدة و انفرادية كما أصبح يسمح به التركيب فيما بعد مع ” ملياس” و ” بورتر”.
يجسّد صيادو الصور حلم كل المخرجين الوثائقيين و محبّي سينما الحقيقة ، في اقتناص الواقع بعتمته/بضبابيته, و لقد ظلوا لسنوات حريصين على استعادة أو إعادة إنتاج ما كان يبدو لهم الواقع. لهذا، كانوا يعمدون إلى اللقطات الواسعة و التي تضم مجموعة من الناس بدل أشخاص فرادى، مما كان يضمن عمقا مهمّا في حقل الرؤية،
و كمثال نموذجي عن هذا ،نذكر” حورية الأمواج” 1903 لتقنيي “إيديسون” أو ” دخول القطار لمحطة سيوتا” 1895 للكاميرامان الإخوة ” لوميار”، ففي كلا المثالين صدّق المشاهدون أن الأمواج أو القطار كانا سيصدمانهم. وبعد مرور قرن من ذلك، بقي تصوير دخول القطار إلى المحطة يتم من نفس الزاوية، كما بقي القطار من العناصر الحركية و وسطدرماتيكي مفضّل لدى المخرجين خاصة في أفلام التشويق .
في بداية القرن العشرين، كان وضع الكاميرا في زاوية (ناصية)من شارع في نيويورك أو مومباي ،يمكّن من الحصول على معلومات واقعية عن طبيعة سلوك السكان. في الواقع، لم يكن لمكتشفي السينما من الطموح إلا تثبيت الصور الفوتوغرافية المتحركة على شريط الفيلم. في هذا المعنى كانت السينما اكتشافا دون أن تكون ابتكارا بما أنها لم تقم إلا بالاستمرار في التقليد الفوتوغرافي و الذي فتن العالم في القرن التاسع عاشر.
قدرة السينما على إعادة إنتاج واقع وهمي، دفعت بالانتقادات الأولى ، أن تميز الشريط الوثائقي و تصطلح عليه ب: فن الموضوعية ، و يبدو أنه وقع هنا خلط بين الموضوعية ( و التي تعتبر رؤيا العقل) و براءة الأيام الأولى. لقد كانت تلك البراءة الهشة للنظرة ، هي ما يحاول المخرجون السينمائيون اقتناصه من وقت لآخر. في فيلم ” دخان” ل ” واين فانغ” وهو فيلم روائي محض ، كان ” اوغي” ( هارفيكيتل) يٌظهر للكاتب بول ( وليم هارت) ألبومات تضم مئات من الصور ، كان يلتقطها في نسخة واحدة منذ سنوات و ذلك كل يوم على الساعة الثامنة بالضبط من نفس الزاوية بركن من متجره ببروكلين. كان بول يجد الصور مكررة و مملّة،حتى انتبه في لحظة ما، إلى صورة زوجته التي توفيت في حادثة سطو انتهت بمأساة وفاتها. حينها غطّى الواقع على الخيال من زاوية البراءة العابرة.
يرصد المخرج السينمائي أيضا لحظات خاطفة تطلعنا على الحياة اليومية لبروكلين و التي يصفها الكاتب “بول أوستر” في أحد رواياته. فكل مخرج سينمائي حتى الأكثر استعراضا و إبداعا يحاول في لحظة ما أن يدرج جرعة من الوثائقية ليعطي معنى لفيلمه الروائي.
![]() |