المتفرّج في “الحقيقة المزعجة”

مقاربات سيميائيّة تداوليّة
د. أحمد القاسمي

تضافر عاملان فتحا بالدّراسات السّينمائيّة على مدارس التّقبل ودفعا بها إلى الإفادة من منجزها، على المستوى المنهجي خاصّة، هما ضيقٌ بالسيميولوجيا كرهَ أن تُختزل دلالة الفيلم في الظّواهر الشّكليّة وأن يُقصر دور الدّارس في رصدها قصرا  يكرّس فكرة انغلاق النّصوص وعزلتها عن عالمها الخارجيّ وسياقها الاجتماعيّ وهيمنةٌ لمبادئ مدرسة كونستنس Constance  لما فيها من تجديد منهجيّ يتجاوز البحث في النّص الأدبي وفي قارئه إلى البحث في الآثار الفنيّة مطلقا وإلى الإفادة من سياقات إنشائها. ومن هذا المنطلق “لم تعد عمليّة فهم صورة مّا مسألة تقنيّة أو مسألة صانع أقفال ذي مفاتيح تشفّر الرّسائل، إن جاز القول… لقد غدت نشاطا لا يستدعي المعارف من كل حدب، ما تعلّق منها بالصّورة أو العالم أو الذّات فحسب، وإنما يستدعي كذلك المعتقدات والمشاعر.. فنحن لا نخلع على وثيقة سمعيّة بصريّة معنى معينا إلا بعد أن نعقد لها صلة بمصدر معيّن نتصور أنه يتقبّلها”  .
ضمن هذه الأطر المعرفيّة إذن كان لقاء الفنون البصريّة المخصب بمناهج التقبّل. فتشكّل مفهوم المتفرّج نظيرا للقارئ في النّص الأدبي يوازيه أو يتقاطع معه أو يتعارض بحسب المميّزات الوسائطيّة أو المحمليّة لكل فيلم أو بحسب خصائص الإنشاء فيه وظروف استهلاكه. ويتميّز الفن السّينمائي، بما هو فن مشهديّ، باعتماد مخصوص للعلامة البصريّة، من خلال توظيف الصّورة حركةً أساسا والمحمل التّقني (le support technique)  الحساس لزوايا التّصوير وسُلم اللّقطات. وهذا ما أولى المتفرّج موقعا مركزيا من عمليّة تحديد دلالات الفيلم، وما وجّه اهتمام مباحث التّقبّل السّينمائي شطر المرسل إليه، للخوض في طبيعة إدراكه وكيفيّة اشتغال ذاكرته أو شطر الرّسالة نفسها لتبيّن إسهام الحركة المميّزة للصورة الفيلميّة في توليد المتفرّج الضمنيّ باعتباره إستراتيجية نصيّة.
ولمّا قامت السّينما الوثائقيّة جنسا مستقلاّ له خصوصيات تميّزه عن سينما التّخييل إنشاء وتقبّلا من ناحية ولمّا عز البحث النظريّ المحض الذي يخصّ هذا الجنس بالدّرس والتمحيص، من جهة ثانية، سنحاول ضمن عملنا هذا اختبار مفاهيم التقبّل على فيلم “الحقيقة المزعجة” (An Inconvenient Truth 2006) وسبر ما يتخلّله من مسارب معنى تظلّ ثاوية طيّ الأثر تنتظر فرجةً يقظةً تحرّرها من كمونها وتبعثها من سباتها العميق .
ولن يكون عملنا قراءة تطبيقيّة محضا فكثيرا ما ينصرف إلى التّذكير بمنجز مباحث التّقبل السينمائي ليطوّعها لقراءة هذا الفيلم الوثائقي. وفي الآن نفسه لا يدّعي هذا العمل ضبط قوانين دراسة تقبّل الفيلم الوثائقي عامّة. فذلك عمل عزيز المنال تحول دونه عوائق كثيرة. ولكنه يختار، بقصد ونيّة، المراوحة بين الخلفيّة النّظريّة وسبل استثمارها لإنتاج ما في الأثر من معاني كامنة. لقد صدرنا في دراستنا هذه عن فيلم المخرج قينقهام (David Guggenheim ، وفضلا عن قيمته الفنيّة ولم نجعل هذا الأثر منطلقا إلاّ لتعدّد مناحي تقبّله بين فنّي وسياسيّ وعلميّ ولاختلاف قراءاته في كل منحى منها.
 (Iالفيلم وخلق المتفرّج الضّمني:  في التّحوّل من حالة الشّلل إلى الحركة الدّؤوب.
تقوم عمليّة الفرجة السّينمائية، سواء كان الفيلم تخييليّا أو وثائقيّا على مفارقة جوهريّة. فبدل أن يرحل المتفرّج من فضاء إلى آخر ملاحقا الأحداث والشّخصيات على اختلافها، تأتيه هذه العناصر إلى حيث يوجد هو وتحلّ بين يديه من منطلق زوايا مختلفة ممّا يجعله يحيط بكلّ جوانب المشهد رغم استرخائه على المقعد فيما يشبه الشّلل العضويّ. ولكن إمعان النّظر في أطروحات  جون بيار إسكينازي  يقلب المعادلة كليّا. ويجعلنا ننتبه إلى ما يصدر عن المتفرّج من حركات افتراضيّة دؤوب تحدّد مواقع إبصار العناصر الواردة ضمن الإطار وتجعله يحلّ فيها ليدرك من خلالها ما يعرض. وعندها يسلّم المتفرّج بموقعه ذاك ويصبح طرف الحركة الأقصى ونقطة تلاشيها . ( son point de fuite)  فالمسافة التي يتّخذها المتفرّج من [الحقيقة المزعجة] تحدّد مشاركته فيه. وحركته هذه تمنحه عندئذ حضورا مضاعفا، إذ يكون في الآن نفسه داخل الفيلم من خلال نقطة التّلاشي ومن خلال تبنيه زاوية الإبصار التي تقترحها عليه كاميرا دافيد قيقنهام، وخارجه من خلال موقعه المواجه للشّاشة. فتكون وضعيّته المتفرّج إذن مزدوجة فهو يَرى ما يُعرض أمامه باعتباره طرفا خارجيّا يكتشف الفيلم على الشّاشة وما فيه من مشاهد تبيّن فعل الاحتباس الحراري المدمّر للكون، ولكنه في الآن نفسه يُرى باعتبار وجوده الافتراضي داخل الفيلم بالمواطن التي تقترحها عليه زوايا التّصوير بما يشبه طباعة مضاعفة(la surimpression)  . وتتمّ عمليّة الإدراك أولا، حسب اسكينازي، من خلال مركزٍ للإدراك (Centre de perception) على صلة بالحركة نفسها. بحيث يكون المتفرّج  وهو يتابع آل قور / متمركزا ، افتراضيّا، في موقع الكاميرا مكتسبا خصائص زاوية التقاطها. ويصطلح اسكينازي على هذه الزّاوية بالمتفرج المنظوري (spectateur perspectif) ، فيما تجعله الزاوية التي يدرك منها المتفرج الحقيقي الحركة السّينمائيّة من خلال موقعه في قاعة العرض تجريبيّا (Spectateur empirique ) فيجسّد المفهومان تلك المضاعفة الافتراضيّة للمتفرّج .

كامل المقال


إعلان