”مــيدنايت إيـكسبريس”.. هوليوود في خدمة واشنطن

عبّر جاك فالنتي  عن العلاقة العضوية بين صناعة السينما بأمريكا و بين قيادة البيت الأبيض  بمقولته الشهيرة : “ واشنطن وهوليوود تنبعان من  نفس الحمض النووي ”. هكذا قال الرجل الذي تنقل طيلة أربعين عاما بين هوليوود وبين مكاتب رؤساء أمريكا المتعاقبين منذ أن أوكلت إليه سنة 1966 رئاسة جمعية الفيلم الأمريكي التي تضم ستة استوديوهات رئيسية في هوليود. وقف فالنتي في منتصف الطريق يضغط على الكونغريس لصالح شركات السينما الهوليودية العملاقة في مقابل ضمان تبعية الإنتاجات السينمائية وإذعانها للأجندة السياسية لصناع القرار الأمريكي, في كلتا الحالتين أدت مهمته تلك إلى ازدياد تناغم تأثير تلك القوى على الرأي العام طرديا مع تشعب مصالحها المشتركة.
 إن الفحص الدقيق “ للشفرة الجينية ” لإنتاجات هوليوود يطلعنا على تفاصيل تؤكد ما أشار إليه فالنتي من قوة للعلاقة التي تجمع بين أرباب السياسة وصناع السينما الأمريكية وتثبت تفوقها على      بعض الطفرات التي طرأت في مراحل محدودة من التاريخ, فلم تستطع أفلام مثل القيامة الآن    الذي أخرجه كوبولا حول حرب فييتنام  أن تغير نظرة واشنطن تجاه السينما كجزء من منظومة ”الأمن القومي” منذ  أن قام روزفلت أثناء الحرب العالمية الثانية باستدعائه للمخرجين الشهيرين    جون فورد وفرانك كابرا للاشتراك في حملات البروباكاندا العسكرية ومرورا بالحرب الباردة التي تحولت فيها هوليوود إلى مصانع عملاقة لفانتازيا حرب النجوم وصولا إلى الحرب على  الإرهاب التي عقبت أحداث 11 من سيبتمبر2001  وأخيرا مرحلة “الشرق الأوسط الجديد” 2004 التي تلت حرب العراق الأخيرة. ولعل ما يزيد هذه العلاقة إثارة وتعقيدا هو اختفاء   الحدود التي تفصل طرفيها فيسهل بعد ذلك أن يتحول ممثل درجة ثانية مثل رونالد ريغن إلى رجل دولة ويتحول جاك فالنتي من مساعد خاص للرئيس جونسون إلى مدير تنفيدي لأكبر لوبي لصناعة السينما…حيثما وجدت استوديوهات للسينما تجد ثمة مكتبا للاستخبارات الأمريكية أو ملحقا عسكريا تابعا للبنتاغون يستقبل سيناريوهات الأفلام التي تبحث عن الدعم اللوجستي, والتقني في مقابل تطويعها  للنص بما يوافق التصورات الجيوسياسية للمرحلة. و كلما بحثت عن  مقر للقرار السياسي الأمريكي فانظر بداخله أو بالقرب منه يواجهك مكتب للعلاقات العامة   (البروباكاندا) تصل نفوده إلى الضفة الغربية (لوس آنجلس), مثل مكتب (ويكلي آند فالنتي ) الذي  أسسه جاك فلنتي نفسه في فترة الخمسينيات.

 لنبدأ من حيث انتهى هذا الأخير عند استقالته سنة 2004 من رئاسة جمعية الفيلم الأمريكي فذات السنة قد تصادفت مع بداية مرحلة جديدة من السياسة الخارجية الأمريكية تجاه العالم  الإسلامي تعرف بمشروع الشرق الأوسط الجديد أوالكبير الذي أعلن عنه جورج بوش الإبن في خطابه أمام الأمم المتحدة (21 سبتمبر2004) مرحلة تتغير فيها مفاهيم مثل مفهوم “الدول  الصديقة” وتتغير فيها ملامح الجغرافيا بما يتناسب ومشاريع الهيمنة الأمريكية الجديدة. واكب إعلان المشروع حملة علاقات عامة موسعة للتأثيرعلى الرأي العام الإسلامي ودفعه لقبول تركيا كلاعب إقليمي جديد يصلح لقيادة المنطقة بدلا عن القيادات التقليدية. بدأت الحملة بزيارة جورج بوش إلى جامعة غالاتا ساراي التركية في 29 من يونيو 2004 حيث ألقى خطابا  يروج فيه لفكرة انضمام الأتراك إلى الاتحاد الأوروبي ليمحوا بذلك تصريحاته السابقة التي هاجم فيها الحلفاء الجدد وإدانته لهم عبر ما يسمى بـ”مذابح الأرمين”. لم تتأخر هوليوود عن الموعد فقد تلت زيارة بوش بشهور قليلة زيارة تاريخية  للمخرج الشهيرأوليفر ستون اعتذر فيها للشعب التركي عن الصورة البشعة التي ألصقت بالأتراك لما يفوق عن العشرين عاما بسبب فيلم قطار منتصف الليل 1978 (ميدنايت إيكسبريس) الذي ساهم فيه ككاتب سيناريو إلى جانب المخرج ألان باركر. بعد سنوات من الحدث أنتجت ناشيونال جيوغرافيك فيلما وثائقيا يعيد النظر في قصة الفيلم بناءا على شهادة بطل القصة الحقيقي الذي حولت هوليوود تفاصيل اعتقاله بتركيا في   سبعينيات القرن الماضي إلى “ملحمة” عنيفة تستفزالموروث الإستشراقي في مخليلة الجماهير الغربية.

فهل يبدد فيم وثائقي آثار الصدمة النفسية لفيلم بقوة “ميدنايت إيكسبريس” ؟

للإجابة عن هذا السؤال يجب إخضاع فيلم “ميدنايت إيكسبريس” لتحليل بنيوي لإدراك قدرة “مفعول الوثائقي”  الذي تتخذه هذه العينة من الأفلام الروائية للإيحاء بواقعية المشاهد وتثبيتها بالذاكرة العرضية .
يصنف الفيلم داخل دائرة أفلام الدراما. اقتبس سنة 1978 من كتاب مشترك لويليام (بيلي) هايز وويليام هوفر  وقدمته شركة كازابلانكا فيلم ووركس في إنتاج بريطاني أمريكي مشترك, أوكلت  إخراجه للبريطاني ألان باركر وكتابة السيناريو للمخرج الأمريكي الشهير أوليفر ستون, الذي سنُظهر في مرحلة لاحقة كيف غير النص الأصلي الذي يزعم صاحبه بأن وقائعه حقيقية. يهدف   الفيلم عبر قصة أحداث اعتقال السلطات التركية لشاب أمريكي يدعى بيلي هايز في ما بين سنة  1970 و1974 فضح الظروف المرعبة لمحاكمة واعتقال رعايا غربيين في سجون إسطنبول وكشف ما يتعرضون له من صنوف التعذيب النفسي والجسدي بسبب سادية وفساد القائمين عليها في مقابل إبراز شجاعة و “بطولة” الشاب الأمريكي المحتجز دون التعرض لجريمة المتاجرة بالحشيش التي أدين على إثرها.
 قبل تحليل بنية الفيلم ينبغي الإشارة إلى أن الظروف التاريخية التي أحاطت بإنتاجه طبعها توتر  العلاقات الأمريكية التركية بسبب الأزمة القبرصية في سبعينيات القرن الماضي, حيث تدخلت الولايات لمتحدة الأمريكية لمنع الأتراك من استخدام السلاح في مواجهتهم مع اليونان حول  جزيرة قبرص. شهدت هذه المرحلة برودا في العلاقة مع واشنطن وتقاربا تركيا مع الاتحاد السوفياتي مما شجع حكومة أنقرة على مطالبة أمريكا بإعادة النظر في اتفاقية عام 1969 التي سمح بموجبها للولايات المتحدة الأمريكية بامتلاك قواعد عسكرية على أراضيها و فرض الكونغريس سنة 1974 حصارا على تصدير الأسلحة إلى تركيا ليعلن يذلك عن بداية مرحلة تدهور ملحوظ للعلاقات بين البلدين.

كامل المقال


إعلان