الفليم الوثائقي: الخطاب الإبداعي ورهانات التجريب

تجربة فيلم “أزول” أنموذجا
وسيم القربي

يشهد الفيلم الوثائقي اليوم طفرة إنتاجية عززت مكانته داخل الحقل السينمائي خاصة وفي المشهد الإبداعي عموما وهو ما جعل التوثيق عبر الصورة يتخذ بعدا ثقافيا يتجاوز نقل صور الواقع والتجريد ليتموقع كجنس إبداعي قائم بذاته ويكتسب مقومات إبداعية وخصوصيات فنية وتقنية خاصة.
لقد كانت ولادة الفن السينمائي وثائقيا بامتياز حيث كانت أولى المحاولات السينمائية عن طريق الأخوين لوميير من خلال عدة أفلام قصيرة جدا مثل “وصول قطار إلى محطة سيوتا” و”خروج عاملات من المصنع”… ومع تطور الفن السينمائي وظهور تيارات سينمائي غالبا ما ارتبطت مع بقية التحولات الفنية أو السياسية أو الاجتماعية شهد الوثائقي بدوره ولادة أسس وخصوصيات جعلته يتميز عن بقية الأجناس ا��سينمائية.
سنحاول من خلال هذه الدراسة الوقوف على أبرز الخصوصيات الفنية للشريط الوثائقي اليوم والتدرج بإبراز المقومات التقنية والجمالية التي يمكن اعتمادها وذلك انطلاقا من المدونة الفليمية في تونس عامة والاستئناس بالتجربة الخاصة في هذا المجال كأكاديمي ومخرج. كما سنناقش من خلال هذه الدراسة رهانات التجريب وآفاق الصورة الوثائقية. فكيف تلوح جدلية الواقع والتخييل في السينما التوثيقية؟ ما هي أبرز الخصوصيات الجمالية والتقنية التي يمتاز بها الشريط الوثائقي؟ ما هي آفاق التجريب في هذا الجنس الإبداعي؟ وما هي رهانات الوثائقي اليوم؟

1 السينما الوثائقية: لمحة تاريخية
شهد الفيلم الوثائقي تطورات مختلفة منذ نشأة السينما إلى حدود اليوم حيث مرّت التجربة الوثائقية بعدة عتبات تزامنا مع التطور التاريخي لفنّ الصورة. ولئن اعتبرت أولى أفلام الأخوين لوميير توثيقا ورصدا للحظات معينة مما جعل ولادة السينما في حدّ ذاتها وثائقية بامتياز، فإنّ النشأة الفعلية لمفهوم الصورة- الحركة كان من خلال تطور الصورة الفوتوغرافية. لقد بدأ هذا المفهوم بتوجه علمي بالأساس من خلال محاولة “مايبريدج” رصد حركة الحصان خلال سباق عبر تسلسل زمني للصورة وهو ما يمكن أن يؤكد هذه البداية الوثائقية. تواصلت إثر ذلك المحاولات السينمائية ذات الطابع الوثائقي عبر تجارب الأخوين لوميير خاصة و”ملييس”… إلا أنّ مؤرّخي الفنّ السينمائي يعتبرون أنّ “روبارت فلاهيرتي” هو الأب الفعلي للسينما الوثائقية من خلال فيلمه “نانوك رجل الشمال”. شكلت هذه الفترة التأسيس الفعلي لفنّ جديد جامع بين مختلف الفنون ليرسي رؤية مغايرة فتحت آفاق جديدة وجمالية تمتاز بها. ولقد استنبت الوعي بأهمية الصورة الوثائقية وتم استثمارها لنقد الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي موازاة مع التطور التقني والجمالي للتعبير السينمائي والمراوحة بين صور الواقع وجمالية المتخيّل.
تطرح جدلية الواقع والمتخيل إشكالية حقيقية في تحقيق ارتسامات مختلفة، ولئن كان يمكن وصف بدايات السينما بكونها وثائقية على اعتبار أنها توثق للحياة اليومية عبر الفضاء والزمن والصدفة، فإنّ عرض فيلم “وصول قطار إلى محطة سيوتا” في مقهى باريس جعل الحاضرين يغادرون قاعة العرض فزعا. هكذا كان الوثائقي صورة للواقع غير أنّه حمل في ما بعد صورا من الواقع المتخيّل لتمتزج صورة الحقيقة بالمخيلة خاصة مع أفلام “ميلييس” وصولا إلى الإنتاجات السينمائية الآنية التي تعتمد كثيرا على التطور التكنولوجي في مجال آلات الكاميرا والمعالجة الرقمية.

أ‌- من صور الحرب إلى حرب الصور:
اكتسب التوثيق عبر الصورة السينمائية مكانة هامة خلال النصف الأول من القرن العشرين من خلال رصده لأغلب الفترات السياسية والاقتصادية والحراك الاجتماعي، وتسجيله لوقائع الحرب العالمية الأولى والثانية وتأثيرات الأزمة الاقتصادية العالمية… ساهم الشريط الوثائقي في توثيق الحروب الإستعمارية موازاة مع توسّع الامتداد الكولونيالي الفرنسي والانجليزي خاصة من خلال تصوير الأساطيل الحربية ووقائع الحرب. كما اعتمدت الأشرطة الوثائقية كوسيلة تواصل جديدة قصد نقل الواقع من ناحية وخدمة الغايات السياسية من ناحية أخرى عبر التأثير على المشاهد وتمرير إيديولوجي عبر الصورة لشحذ همم الشعوب أو لإحباط معنويات البعض الآخر. كل هذا جعل الوثائقي خادما للسياسات وبمثابة الرسالة الحاملة للعديد من المعاني، غير أنّ الشريط الوثائقي لم يقتصر على هذا التوجه الحربي فقط بل إنّ السينما الوثائقية حاولت معالجة الواقع بطرق جمالية جديدة.
في هذا الإطار قادت الموجة السوفييتية رؤية سينمائية جديدة، حيث أسّس “فيرتوف” تيار سينمائيا إيديولوجيا – الكاميرا الحقيقة- بعد إخراجه لعدّة وثائقيات مثلت فيها الكاميرا عينا على سينما المستقبل التي استشرفت بنظرة ورؤية للعالم الواقعي وتسجيل اللحظة. كما شكّل فيلم “رجل بالكاميرا” ثورة سينمائية من خلال نقله لوقائع حية في عدة مدن من الاتحاد السوفياتي. ولعلّ أهمّ الجماليات السينمائية التي أتى بها “فيرتوف” هو اعتماده على عدة تقنيات جديدة منها اللقطة البطيئة للصورة الثابتة، والتمازج بين اللقطات، والاعتماد على عدة صور داخل الإطار الواحد، والمؤثر “كوليشوف”… وعلى غرار “فيرتوف” كان هناك تجارب أخرى رائدة في هذا المجال مثل “بودوفكين” الذي صوّر المجاعة، و”إيزنشتين” الذي نقل صورا من الحرب عبر تقنيات جمالية متجددة وإعادة بناء الواقع مثل فيلم “المدرّعة بوتمكين”.
كما شهدت فترة الثلاثينيات الإطلاق الفعلي لتسمية “الوثائقي” على هذا الجنس الإبداعي من قبل “جون قريرسون” الذي أخرج العديد من الوثائقيات التي تهتم بالجانب الاجتماعي وتنقل مشاهد من الحياة اليومية عبر واقع أمين ولا سيّما تأثيرات الأزمة الاقتصادية والحراك السياسي العالمي وأثره على مختلف الشرائح الاجتماعية. وقد تعمقت التجارب الوثائقية على المستوى الجمالي والتقني مع “ليني ريفونستال” الذي أضفى جمالية خاصة على وثائقياته من خلال التصوير تحت الماء والاعتماد على الموسيقى المصاحبة…

كامل الدراسة


إعلان