جدلية الصورة والصوت
جدلية العين والأذن
قيس الزبيدي
يأتي اختلاف السينما عن بقية الفنون البصرية من الصورة الفوتوغرافية التي هي العامل الأهم في إعادة إنتاج الواقع. لهذا يرى السينمائي الفرنسي ديليوك، إن السينما في جوهرها تطور للفوتوغرافيا التي فتحت الطريق أمام تطورها. كانت الفوتوغرافيا إذن أساس السينماتوغرافيا وامتداد لها. وقد مرت السينماتوغرافيا في مراحل أثيرت فيها العلاقة التي تجمع بين السينما والفوتوغرافيا، والسينما والفونوغرافيا، من وجهة نظر درامية وبنيوية وسيميائية. وذلك بدءاً من مرحلة العشرينيات. لقد بدأ عندئذ “التحرر” من ربقة الفنون المجاورة كالمسرح والرسم، مارا بمرحلة التحرر من الأم الفوتوغرافيا نفسها، وانتهى بمرحلة ثالثة لخصت المراحل كلها في واستخدمتها وفق منهج جمالي وفلسفي خاص.
يرى الانسان بعينين، بينما ترى الكاميرا بعين واحدة يسميها بارت «عيناً ثالثة» أصبحت (رؤية خالصة لعين لا انسانية. عين تكون في داخل الاشياء) وسعت من مساحة وحدود التعبير عن الواقع وأستمرت مقدرتها على إعادة إنتاجه بنحو مكتمل ومتنوع. وتخلصت طريقة التصوير التقنية المتقنة من الخيال الذاتي وأنتجت نسخة واقعية دقيقة ليس لها مثيل، جعلت العالم يرى ويتعرف إلى نفسه كما في مرآة. وحسب سوزان سونتاغ فإن التصوير يعني الاستيلاء على الموضوع المصّور وصوره الفوتوغرافية التي لم تعد صورا عن أخبار حول العالم، بل إنها قطع من العالم نفسه، منمنمات من العالم، تكتسب قيمة، تُشترى وتُنقل ويُعاد إنتاجها. وبوسع كل امرئ أن يصنعها أو يقتنيها، يصغرها أو يكبرها، يقصها أو يروتشّها، يتلاعب بها أو حتى يزوّرها.
الصوت هو موجات ذبذبة تنتقل عبر الاثير او عبر الماء او عبر أي مادة صلبة الى الاذن ويتم خلق الصوت وتسجيله وإعادة انتاجه بشكل متكامل في انتاج الفيلم وعرضه. ويتميز شريط الصوت بأنه اكثر تركيبا من شريط الصورة ويتألف من مكونات ثلاثة هي الحوار والمؤثرات الصوتية والموسيقى. ويمكن وصف الصوت انطلاقا من أثر صوتي أكان نغمة أو جرسا ومن الايقاع أيضا ومن التطابق بين الصوت ومصدره ومن الفضاء أي من مكان مصدر ومسافته ووجهته ومن الزمن أي من استعمال الصوت بشكل آني متزامن أو بشكل غير آني لا متزامن. ويبقى الاختلاف المهم هو التعادل بين الصوت السردي او الموسيقي الذي ينتج من داخل فضاء حكاية الفيلم. مثلا اغنية تسمع في مشهد خاص من راديو. ومن الصوت غير السردي او من صوت ياتي من الخلفية وليس من داخل فضاء حكاية الفيلم.
وقد سبق لأديسون، الذي ينسب إليه اختراع فن السينما إضافة إلى اختراع الحاكي “الفونوغراف” إضافة إلى محاولة استخدام الصوت إلى الفيلم، عن طريق تشغيل الحاكي، بشكل مواز مع آلة العرض، لكنه لم يحقق النجاح المطلوب. وانتقلت السينما الصامتة في نهاية العشرينيات، بوسائل تقنية جديدة، إلى السينما الناطقة، وخلقت عالماً أكثر واقعية. غير أن هذا الانتقال وضع أمام صناع الأفلام خيارات وإمكانات تعبير مجهولة، خصوصاً وأن السينما الصامتة كانت قد قطعت شوطاً كبيراً في ابتكار وسائل تعبير سردية بديلة عن الأصوات.
الصوت والصورة في تاريخ السينما
إذا ما عدنا الى مرحلة سابقة من تاريخ الفيلم قبل 1930 حيث كان الفيلم صامتا فإننا نعرف اليوم ان الفيلم لم يكن في الواقع صامتا على الاطلاق انما نكتشف كيف تميزت العروض الفيلمية بتنوع هائل عبر مصاحبة مواد ومصادر نغميه من الصالة بوساطة صوت الراوي الذي يشرح الفيلم أو بمصاحبة صانع المؤثرات أو بموسيقا الارغن أو بعزف اوركسترا سيمفونية. ولم يكن الفيلم كوحدة نصية مستقرا في تلك المرحلة ولان الصوت المصاحب كان يمنح الصورة معنى اخر دائما وكان كل عرض قبل توحيد دخول الصوت قياسيا بمثابة واقعة ادائية. وكان العرض نفسه يتم بطريقة غالبا ما تكون مختلفة. وبينما كان المتفرج نفسه يصبح جزءا من المكان الادائي المتغير الذي يجري فيه عرض الفيلم كل مرة، كان الصوت يضيف معاني لعرض الفيلم تولد كلها من الصالة وليس من الفيلم الذي يعرض على الشاشة.
في العام 1926 ابتكرت طريقة تقنية لطبع الصوت على شريط السيللولويد، بدأت عندئذ مرحلة نوعية جديدة تماما، أصبح فيها حضور الصوت نفسه على شريط مستقل، مواز لشريط الصورة، يتطلب، عن طريق المونتاج، اكتشاف طرق تعبير سردية لا تحصى. وأصبح التعبير في الفيلم الناطق، كوسيط ثنائي: (فوتوغرافي- فونوغرافي)، كفن آلة التصوير وآلة الميكرفون؛ وسيطا ثنائيا مختلفا يقوم على:
• إعادة بناء صور متحركة فوتوغرافـية.
• إعادة بناء أصوت جديد فونوغرافية.
وإذا ما كنا نتبنى عموما تعريفا للسينما بأنها حكاية تروى بالصور المتحركة فقط، فإننا نتناسى تركيبها من نظامين فنيين سرديين: نظام صوري ونظام صوتي يشكلان في حصيلتهما نظاما ثنائيا سيميائيا مركبا يتيح عددا متنوعا من تآلفات وتركيبات بصرية وصوتية توجد أولا توجد ضرورة في عالم الواقع. ونحن حينما نبحث في الصوت على حدة، فعلينا أن ننطلق من قدرته، أولاً، كعنصر درامي في عملية التزامن بين ما يُسمع وبين ما يُرى، آخذين بالحسبان طبيعة الفرق بين الإدراك البصري “المكاني” من خلال العين، وبين الإدراك السمعي “الزماني” من خلال الأذن. من هنا يجب ألا يغيب عن بالنا انه ليكون بمقدور عنصرين او اكثر ان يأتلفا معا لا بد اولا ان يوجد كل منهما منفصل عن الاخر. فالصوت يعوض عن سطحية ثنائية الصورة ويمدها بالبعد الثالث أي العمق: عربة مندفعة بسرعة فائقة نحو الجمهور يصاحبها من خارج الصورة وقع حوافر حصان قوية هنا يتجاوز احساس المشاهد سطح الشاشة ويكتسب بعدا ثالثا.
يسمع مصدر الصوت من داخل الصورة/ المشهد مباشرة كما يمكن أنْ يسمع مصدره من خارج الصورة/ المشهد. ان مسار/ شريط الصوت هو اكثر تعقيدا وتركيبا من مسار/ شريط الصورة لأنه يتألف من ثلاث اجزاء مكونة: حوار (لغة) ومؤثرات (تسمى احيانا ضوضاء) وموسيقا.
وقد بينت الأفلام الناطقة أن بعض إنجازات الفيلم الصامت زائدة على اللزوم، خصوصاً بعد أن أصبح الممثلون والمعلقون يعبرون بالكلام عن أفكارهم ومشاعرهم. وأصبحت أيضا مكوّنات الصوت تُغني عن إمكانات طرق وأشكال المونتاج. على هذا أصبح أمام السينمائي مهمة صعبة جديدة: أن يقوم، ليس فقط باختيار الصور، إنما أيضاً باختيار الأصوات.
في أوائل عام 1928 أصدر إيزينشتين وبودوفكين والكسندروف تقريرهم عن الفيلم الناطق كبيان أعلنوا فيه أن الصوت يجب أن يعامل كعنصر متساوٍ في المعادلة السينمائية وأن يستعمل بشكل مستقل عن الصورة: التوليف العمودي. وأنه لابد من إيجاد علاقة متكافئة فيما بينهما. إلا أن منظري السينما لم يقدموا خلال عقود طويلة سوى اهتمام يعوزه الحماس لعنصر الشريط الصوتي. بحيث اصبحت العلاقة بين الصوت والصورة خلال عقود طويلة علاقة كان الصوت يعاني فيها من طغيان الصورة وهيمنتها عليه. وعرف المرء بسرعة أن إضافة مكوّنات الصوت يقود إلى إغناء إمكانات المونتاج. وقد ساد في السينما الكلاسيكية سؤال : “أين” الصوت؟ وكانت الصور تجيب “هنا” وتعطي توجيها لما يُشاهد في الصورة او يُسمع وبأي اسلوب يُفهم. وينشأ عبر العلاقة بين الصوت والصورة توتر، يخدم الصوت الصورة اما لأنه يحاكيها او لأنه يقلد حدثها البصري.
انطلق الباحث البولوني رولاند كاساريان من مقولة المساواة بين الصورة والصوت في الفيلم، ومن الأهمية الجمالية لعناصر الصوت المعبرة. ويبين الباحث أن مادة الفيلم المميزة هي بالنتيجة ذبذبات صوتية وضوئية لوسيط مادي، وهي التي تحدد آلية التشكيل السمع/ بصري للمكان وللحركة. كما أكد على أن إمكان إعادة بناء الطبيعة الفيزيائية للضوء، إضافة إلى إمكان إعادة بناء الصوت أثناء تسجيله، يكتسبان الأهمية ذاتها. لأن استقبال الصوت، عند تسجيله أثناء التصوير، كإعادة عرض فونوغرافيه للواقع من المصدر المباشر، مثله مثل الصورة، يختلف في هذه المرحلة، عن الصوت، الذي يتم تسجيله وإضافته في مرحلة المونتاج إلى الصورة.
![]() |