دوكودراما و خبرة الممثل في الأفلام التسجيلية

مصطلح” دوكودراما”، أو” الدراما الوثائقية” كما في ترجمته إلى اللغة العربية، مصطلح مستجد على الأدبيات السينمائية سواء عالميا أو عربيا، فقد ظهر عالميا إلى الوجود فقط في أواخر النصف الثاني من القرن العشرين وسرعان ما شاع استخدامه بعد ذلك في الأدبيات السينمائية العربية. وعلى العكس من استخدامه في اللغات الأجنبية بحيث يشمل بعض اتجاهات الأفلام الروائية الواقعية و الأفلام التسجيلية معا، يستخدم هذا المصطلح في الأدبيات السينمائية العربية ليصف أسلوبا بدأ ينتشر في العالم العربي في إخراج الأفلام التسجيلية( أو الوثائقية حسب البعض)، يستفيد من بعض العناصر التعبيرية الروائية بهذا الشكل أم ذاك ويهدف إلى تقديم مادته الفيلمية ضمن صيغة فنية و حتى شعرية. غير أن هذا المصطلح، كما يستعمل في الأدبيات السينمائية، يشوبه بعض الغموض خاصة مع شيوع استعماله للتعبير عن صيغ مختلفة و متنوعة لإنتاج الأفلام التسجيلية إنما يجمع ما بينها الرغبة في الخروج من الأطر الضيقة للريبورتاج والمادة الإعلامية الجافة. وفي حين نعثر على محاولات في اللغة الإنكليزية لإيجاد تعريفات دقيقة لهذا المصطلح نعجز عن إيجاد محاولات شبيهة باللغة العربية لتعريف هذا المصطلح باستثناء الترجمة الحرفية لهذا المصطلح( الدراما الوثائقية)، المأخوذ عن الإنكليزية أصلا، علما بأن محاولات تعريف هذا المصطلح باللغة الإنكليزية متشابهة في بعض عناصرها و مختلفة في البعض الآخر، وهذا ما يشير بالدرجة الأولى إلى عدم وضوح المفهوم الذي يدل عليه المصطلح حتى في الوسط الذي ظهر فيه.

المصطلح وإشكالية التعريف

تأكيدا لحالة عدم الوضوح هذه نورد هنا، بداية، ترجمة بعض نماذج تعريف هذا المصطلح كما ورد في الموسوعات والقواميس باللغة الإنكليزية والتي ننقلها عن مصادر متنوعة في شبكة الانترنت:
يذكر أحد القواميس ما يلي:” دوكودراما عبارة عن فيلم أو برنامج تلفزيوني يعتمد على وقائع حقيقية مقدمة ضمن قالب درامي، ولا يجوز الخلط بينها و بين الوثائقي الخيالي(Fiction Docu-، علما بأن البعض يترجم هذه الكلمة الإنكليزية، أي فيكشن، إلى اللغة العربية بكلمة الروائي ، إذ يشيع في الأدبيات السينمائية العربية استعمال تعبير الفيلم الروائي بدلا من الفيلم الخيالي)”.
و يحدد قاموس آخر أن “دوكودراما هي نوع أسلوب تسجيلي لبرنامج إذاعي أو تلفزيوني أو عرض مسرحي أو فيلم سينمائي يشير إلى إعادة تمثيل درامية لوقائع تاريخية راهنة”.
و نجد في موسوعة سينمائية على الانترنت التعريف التالي:”تسعى العناصر الجوهرية للقصة في الدوكودراما إلى التعبير عن وقائع تاريخية وتسمح بهذا القدر أو ذاك من الإحاطة الدرامية بالتفاصيل المحيطة بها وحيث توجد فجوات في الوثيقة التاريخية. و لكونه تعبير جديد فإن مصطلح الدوكودراما غالبا ما يجري الخلط بينه وبين مصطلح الوثائقي الخيالي, مع ذلك واختلافا عن الوثائقي الخيالي – وهو وثائقي جرى تصويره في الزمن الحقيقي الراهن و يتضمن بعض العناصر الخيالية، فإن إنتاج الدراما الوثائقية( دوكودراما) يجري في وقت لاحق للأحداث التي يجسدها”.
و تعرّف موسوعة ثانية دوكودراما بأنها” عبارة عن فيلم أو برنامج تلفزيوني يجمع ما بين حقلي الوثائقي والدرامي. ويطلق البعض على الدوكودراما تسمية الدراما غير الخيالية التي تلقي الضوء على أحداث حقيقية وأشخاص حقيقيين و تقدمهم بطريقة درامية”.
و يجتهد التعريف التالي فيورد بعض التفصيل:” عديدة هي المواصفات التي تحدد مفهوم الدوكودراما، إحداها التوجه لمقاربة الوقائع كما هي بدون اللجوء إلى التعليق”. و يضيف:” أفلام الدوكودراما أيضا تستخدم تقنيات تساعد على إضفاء حياة على الأحداث التي تجري معالجتها، فمثلا، بدلا من القول أن سين من الناس تحدث مع جيم من الناس فإن الدوكودراما ستقدم على إعادة تجسيد هذه المحادثة”.
تجمع التعريفات الأولى المذكورة أعلاه على ربط الدوكودراما بإعادة تجسيد وقائع تاريخية أو بتعبير أدق وقائع حدثت قبل عملية تصوير الفيلم، إما قبل زمن طويل، أو حدثت قبل وقت قصير من بدء التصوير، و كان من الضروري إعادة خلقها وتجسيدها ضمن بنية الفيلم. ومن الأمثلة الشهيرة على عملية إعادة الخلق والتجسيد هذه ما فعله المخرج التسجيلي الهولندي يوريس إيفنس في فيلمه”بوريفاج”، ففي فيلم ايفنس “بوريناج”، حيث تروى قصة إضراب عمال المناجم في “بلجيكيا”، خطط المخرج أن يعيد للحياة مظاهرة عمالية كانت قد وقعت في الماضي فبحث عن قدامى العمال الذين اشتركوا في تلك المظاهرة، وأشركهم في الفيلم وجعلهم يعايشون من جديد أمام عدسة الكاميرا ذات الأحداث التي شاركوا فيها سابقا. ومن الأمور الطريفة في تجربة فيلم “بوريفاج” من هذه الناحية، أن المظاهرة التي أعاد المخرج خلقها تحولت إلى مظاهرة حقيقية لأنه في نفس الوقت كان يجري إضراب العمال، مما جعل العمال يتملكهم الحماس و ينسون أنهم يعيدون تجسيد حدث ماض أمام آلة التصوير و بطلب من المخرج.
يحضرني هنا مثال على إعادة تجسيد وقائع تاريخية في أفلام عربية إذ يقدم الفيلم التسجيلي” العذراء، الأقباط و أنا”(عام2012) للمخرج نمير عبد المسيح نموذجا عربيا لإعادة تجسيد حادثة تاريخية، فإن المخرج أعاد تمثيل حادثة ظهور العذراء في إحدى كنائس مصر مستخدما ممثلين انتقاهم من فلاحي إحدى القرى الذين بسبب صلة قرابتهم به وافقوا على التمثيل معه، غير أن خصوصية هذه التجربة في الفيلم تتمثل في أنها لم تستعد تفاصيل واقعة تاريخية حقيقية بل كانت تقليدا لحادثة غير مؤكدة، إنما يؤمن بحقيقتها الكثيرون، وذلك من خلال  لعبة مكشوفة يجري التحضير لها أمام أعين المشاهدين ومتابعة خطوات إنجازها بدءا من عملية اختيار الممثلين مرورا بتدريبهم على التمثيل وصولا إلى التصوير ومن ثم عرض ردود فعلهم وهم يتفرجون على المشهد بعد إنجازه.

يتضح من مجمل التعريفات الواردة أعلاه، وبخاصة التعريف الأخير، أن مصطلح “دوكودراما” يرتبط ارتباطا وثيقا بوجود العنصر البشري في دور رئيسي في الفيلم، من ناحية، وبإعادة تجسيد بعض اللحظات أو الوقائع الحياتية التي حدثت في وقت سابق وثمة حاجة لإحيائها، من ناحية ثانية. وهاتان الحالتان تنطلقان من مفهوم الدراما بشكل عام حيث أن الدراما، باعتبارها نتيجة صراع ما( مثلا، صراع الإنسان مع القدر كما في التراجيديات الإغريقية)، لا تتحقق إلا من خلال العنصر البشري وضمن شكل يجري خلاله تجسيد الوقائع من خلال الممثلين و تقديمها إلى جمهور من الناس بواسطة عرض مسرحي أو تلفزيوني أو سينمائي، أو حتى إذاعي، هذا في حين أن مصطلح” الوثائقي الخيالي”( وهو مصطلح غير مستعمل في الأدبيات السينمائية العربية)، يرتبط بالتصوير الراهن للحدث إنما مع دمجه مع عناصر روائية سردية وإصباغ رؤية فنية وأسلوبية على الفيلم بمجمله. والجدير بالذكر هنا أن استعمال مصطلح دوكودراما في الأدبيات السينمائية العربية يشمل النوعين في بوتقة واحدة، أي يشمل الدرامي الوثائقي مع الوثائقي الخيالي ويستعمل تحديدا في تعريف الفيلم التسجيلي دون الفيلم الروائي وذلك على العكس مما هو مستخدم في الأدبيات الغربية.
يتضح أيضا من هذه التعريفات لمصطلح” دوكودراما” أنها لا تقصره على الفيلم التسجيلي كنوع متميز، بل كما نجد في تعريفاته باللغة الإنكليزية، فهو يشمل حتى الأفلام الروائية الواقعية التي تستفيد من المنهج التسجيلي فتعيد خلق و تجسيد وقائع حدثت في الماضي بالطريقة التي حدثت فيها، ومن الأمثلة المبكرة في تاريخ السينما على إعادة خلق و تجسيد واقعة تاريخية ما فعله المخرج الفرنسي جورج ميليه في العام في العام 1899 عندما أعاد في فيلمه” قضية دريفوس” الذي أخرجه عن محاكمة الضابط اليهودي دريفوس خلق و تجسيد واقعة محاكمته التي حصلت فعليا قبل عدة سنوات من تاريخ إنتاج الفيلم بل و حتى من تاريخ اختراع السينماتوغراف، أي الصور المتحركة، أو ما فعله المخرج الأمريكي دافيد وورك غريفت في العام1915 وذلك في فيلمه الملحمي الشهير” مولد أمة” حين أعاد تجسيد حادثة اغتيال الرئيس الأمريكي لينكولن وهو داخل المسرح. وسنجد في تاريخ السينما اللاحق مئات بل ربما آلاف النماذج على استخدام طريقة إعادة تجسيد الوقائع التاريخية، بل ثمة أفلام تقوم بمجملها و كليا على إعادة خلق و تجسيد واقعة معينة مع محاولة التقيد قدر الإمكان بتجسيد الواقعة كما حدثت فعلا. ومن أشهر الأمثلة في السينما العالمية على ذلك الفيلم الأمريكي” محاكمة في نورينبرغ”(عام 1961) الذي أخرجه ستانلي كرامر و استعاد فيه وقائع محاكمة الضباط النازيين في مدينة نورينبرغ بتهمة جرائم الحرب بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث استفاد الفيلم من محاضر جلسات المحاكمة، ومن أمثلة ذلك في السينما العربية الفيلم الروائي السوري” كفر قاسم”(1974)، للمخرج اللبناني برهان علوية و الذي يستعيد وقائع المجزرة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية بحق مواطني قرية كفر قاسم في العام1956 كما وردت في الرواية الموثقة بنفس العنوان للكاتب عاصم الجندي، وشمل التوثيق أيضا وقائع جلسة المحاكمة للجندي الإسرائيلي المشرف على القوات التي ارتكبت المجزرة والتي انتهت بالحكم عليه فقط بغرامة مالية رمزية بلغت شيكلا واحدا، على ما أذكر من الفيلم، وكذلك الفيلم الروائي المصري الطويل” ناصر56″( عام1995)، إخراج محمد فاضل الذي أعاد تجسيد الوقائع الموثقة التي رافقت عملية تأميم قناة السويس في العام1956 خطوة فخطوة، وأشير هنا إلى أنه للتأكيد على الطابع الوثائقي للفيلم لجأ المخرج إلى تصويره بالأبيض و الأسود. من الأمثلة الحديثة في السينما العربية الفيلم الجزائري” زابانا”(2012) للمخرج سعيد ولد خليفة عن قصة المناضل الجزائري أحمد زابانا والتي أعد السيناريو لها الكاتب عز الدين مهيوبي وزير الثقافة الجزائري السابق وحشد فيه ما أمكنه من المعلومات الموثقة حول الواقعة، وهو أول شهيد جزائري يُعدم بالمقصلة والذي أعدم في العام 1956 وكان في الثلاثين من عمره، بعد أن وافقت الحكومة الفرنسية على استخدام أداة القتل هذه في إعدام الثوار الجزائريين، وكان فرانسوا ميتران، حينئذٍ وزيراً للعدل، وأدى استشهاده إلى إشعال شرارة  الثورة الجزائرية بعد أشهر قليلة من تلك الواقعة.

كامل الدراسة


إعلان