عن السينما والتسجيلي والوثائقي

فطر الإنسان على حب البقاء، ومن هذه الفطرة صنع الحضارة من خلال مقاومة عوامل الفناء، فعرف الماء ليشرب وينظف جسده، والصيد ثم الزراعة ليأكل، والملبس والمأوى ليحمي نفسه، والطب والدواء ليشفى من الأمراض، والقانون لينظم العلاقة بين الفرد والجماعة التي يعيش معها. وفطر الإنسان أيضاً على الرغبة في الإحساس بالجمال، ليس لمقاومة عوامل الفناء، وإنما ليعيش حياة أجمل من الناحية الروحية. وتبدو هذه الفطرة في حب الأصوات الإيقاعية وتحريك أطرافه أو جسده أثناء سماعها، ومحاكاة ما يراه في الواقع، والتفكير في معناه ومحاولة الإجابة على أسئلة الوجود والعدم. وما يدل على ذلك بوضوح رسوم الإنسان الأول على جدران الكهوف التي عاش فيها حيث رسم خطوطاً لأناس يتحركون وكأنهم يرقصون، وبذلك تكون الفنون الثلاثة الأولى التي عرفها الإنسان وهو يحاكي الطبيعة هي ما عرف بعد ذلك بالموسيقى والرقص والرسم.
أما فطرة التفكير وإعمال العقل فتجلت مع اللغة المنطوقة ثم المكتوبة في فنون الأدب، وهي الشعر والقصة والمسرحية. ومع الحضارات القديمة وصل التفكير إلى الفلسفة، وكان الفن السابع هو النحت، والثامن العمارة، وكلاهما ينشئ كتلة في الفراغ، وإن اختلفت الأغراض.
وفي إطار الثورة الصناعية التي نتجت عن التطور العلمي الكبير في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية في القرن التاسع عشر الميلادي، شهد النصف الأول من ذلك القرن اختراع الفن التاسع، وهو الفوتوغرافيا، أو فن الصور الثابتة، وشهد النصف الثاني منه اختراع الفن العاشر، أو فن الصور المتحركة.
كانت الصور الفوتوغرافية تعبيراً عن فطرة محاكاة الواقع، وكانت الصور المتحركة ذروة التعبير عن هذه الفطرة. فالأولى يمكن أن تصور الواقع كما هو تماماً، والثانية تضيف الإيهام بالحركة في الأفلام الصامتة، وتضيف النطق في الأفلام الناطقة، واكتملت محاكاة الواقع مع اختراع الأفلام الملونة، فالواقع بالألوان، وليس بالأبيض والأسود.

فكرة السينما
يبدأ المؤرخ الأمريكي ديمس تايلور كتابه “تاريخ مصور للسينما” الصادر في نيويورك عام 1943 بصورة لرسم من رسوم الكهوف في كهف “التاميرا” في إسبانيا لثور تتكرر فيه أقدام الثور الأربعة، ويعتبره عن حق أول تعبير عن فكرة السينما. ويمكن أيضاً أن نعتبر الرسوم التي تتكرر على نحو متوال على جدران المعابد المصرية القديمة (الفرعونية) تعبيراً عن فكرة السينما. ولو لم تكن الفوتوغرافيا أو الصور الثابتة عام 1839 لما كانت السينما أو الصور المتحركة عام 1891، ��هي تحريك لصور ثابتة بسرعة توهم بالحركة. وكان عالم البصريات الحسن ابن الهيثم الذي ولد في البصرة عام 965 ميلادية وتوفي في القاهرة عام 1038 ميلادية قد اكتشف في كتابه “المناظر” أن الصورة تبقى في العين بعد مشاهدتها لمدة جزء من الثانية.
فوتوغرافيا كلمة لاتينية تتكون من شقين، الأول فوتو، أي ضوء، والثاني جراف، أي رسم، ومعناها الرسم بالضوء. وكما كانت الفوتوغرافيا نتاج أبحاث واختراعات العديد من العلماء، كذلك كانت السينما. ولكن الفضل الأساسي في تحريك الصور يرجع إلى العالم الأمريكي توماس إديسون (1847-1931)، والذي يصفه المؤرخ الأمريكي نيل بالدوين في أحدث الكتب التي صدرت عنه عام 2010 بأنه الرجل الذي “اخترع القرن العشرين”، حيث قام بتطوير واختراع أهم الأدوات التي غيرت حياة الإنسان من المصباح الكهربائي إلى التسجيلات الصوتية (الفونوغراف) والصور المتحركة.

إديسون والأخوين لوميير
اخترع إديسون كاميرا “كينتوجراف” عام 1889 مستخدماً اختراع جورج إيستمان (1854-1932) للفيلم الخام (السيلولويد) مقاس 35 مللي أو “كوداك 1” في نفس العام، وهو الخام الذي تصور عليه الأفلام حتى اليوم. واستخدم إديسون اختراع وليم ديكسون (1860-1935) الذي كان يعمل في شركته لجهاز “كينتوفونوجراف” الذي حقق التزامن بين الصوت والصورة في نفس عام 1889، واخترع إديسون آلة العرض “كينتوسكوب”، وأنتج أول أفلامه عام 1891، والذي أخرجه وليم ديكسون بمفهوم الإخراج الذي تبلور بعد ذلك.
وفي عام 1895 في مصانع شركة لوميير في ليون بفرنسا اخترع الأخوان الفرنسيان أوجست لوميير (1862-1954) ولويس لوميير (1864-1948) جهاز “سينماتوجراف”، فالسينما كلمة فرنسية، ومن المصادفات التاريخية المدهشة أن كلمة لوميير الفرنسية تعني الضوء. والاختلاف بين اختراع إديسون في نيويورك عام 1891 واختراع الأخوين لوميير في ليون عام 1895 أن “كينتوفونوجراف إديسون” كان نظاماً مكوناً من ثلاثة أجهزة هي كاميرا “الكينتوجراف” للتصوير، وآلة “كينتوسكوب” للعرض، وجهاز لطبع الأفلام. أما “سينماتوجراف لوميير” فكانت جهازاً واحداً خفيف الوزن يصور ويطبع ويعرض. والأهم من ذلك أن نظام إديسون كان يعرض لفرد واحد يرى الفيلم من ثقب صغير، أما نظام لوميير فكان يعرض الأفلام على شاشة كبيرة لجمهور. وقد تم العرض الأول لأفلام “سينماتوجراف لوميير” يوم 28 ديسمبر 1895 في مقهى “لاجراند كافيه” في باريس، وكان الفيلم الأول “الخروج من مصانع لوميير في ليون”، وأصبح تاريخ مولد السينما، وإن كان إديسون هو أول من حرك الصور.
وكما اخترع العالم الأمريكي وليم ديسكون التزامن بين الصوت والصورة اخترع أيضاً عام 1893 أول ستديو للتصوير الداخلي ، والذي عرف باسم “بلاك ماريا” حيث تم تصوير الأفلام الروائية الأولى من إنتاج إديسون عام 1894، والمؤكد أن إديسون كان المنتج الوحيد في العالم ذلك العام. وكان من بين مخرجي الشركة جون كولينز الذي توفي في وباء الأنفلونزا في نيويورك عام 1919، وآلان كورسلاند الذي أخرج أول فيلم روائي طويل ناطق “عازف الجيتار” عام 1927.
وفي عام 1894 اخترع شارلز فرانسيس جينكينز (1867-1934) الذي ساهم في اختراع التلفزيون فيما بعد مع توماس أرمات (1866-1948) جهاز “بانتاسكوب” والذي عرف باسم “جينكينز-أرمات” نسبة إليهما، وهو جهاز لعرض الصور الثابتة على نحو متوال. وقام إديسون بشراء هذا الجهاز عام 1895، وطوره، وصنع منه جهاز “فيتاسكوب” عام 1896 لعرض الأفلام على شاشة لجمهور. وفي يوم 23 أبريل عام 1896 في قاعة “كوستر وبايل للموسيقى” في نيويورك أقيم أول عرض سينمائي لجمهور بتذاكر في الولايات المتحدة الأمريكية، وتضمن 12 فيلماً من إنتاج إديسون.

كامل الدراسة


إعلان