فيلم “كما قال الشاعر” تجربة شخصية

كما في كل إبداع فني فإن الفيلم الوثائقي محاولة إنسانية للتعبير عن الواقع الذي يحرك فينا المشاعر الإنسانية بمختلف تنوعاتها من الحب والألم والفرح والرفض والتوق نحو كل ماهو جميل وعادل في طموح النفس الإنسانية. ولكن محاولة التعبير هذه ما هي إلا صورة لما تحتوي روحنا من تراث من المشاعر المتراكمة التي تشكل شخصيتنا مضافاً إليها ثقافتنا ومعرفتنا بأنفسنا وبما يدور حولنا من حراك إنساني جميل وبشع في الوقت نفسه.
جئت إلى عالم السينما الوثائقية من علاقتي بالكتابة الشعرية والقصة القصيرة والعمل الصحافي وكانت حادثة هامة عشتها في لندن قبل أكثر من ثلاثين عاماً أثرت عليّ لجهة إنماء رغبتي في صناعة الأفلام الوثائقية.
قابلت في العالم 1981 في لندن المخرج الكوبي الكبير سنتياغو الفاريز بعد أن شاهدت مجموعة كبيرة من أفلامه الوثائقية ضمن برنامج خاص به في مسرح الفيلم الوطني في لندن. كان الفاريز مؤسس السينما الكوبية وهو الذي صنع أول فيلم في تاريخ الثورة الكوبية حين نزل الثوار ومن ضمنهم تشي غيفارا وفيديل كاسترو إلى شواطئ غرانما وبدأ انهيار نظام باتيستا وكان الفاريز يحمل كاميرا بدائية ويصور هذه اللحظة العظيمة في تاريخ الشعب الكوبي.
بعد أن أنهيت تسجيل مقابلتي مع السيد الفاريز قلت له أنني أرغب في الذهاب إلى كوبا لدراسة السينما. فاجأبني على الفور لماذا تريد أن تدرس السينما؟ فأجبته لأنني أريد أن أصنع أفلاماً!
فقال على الفور: أنت لست بحاجة إلى الدراسة لتصنع فيلماً. اتبع إحساسك ومعرفتك بالموضوع وخذ معك كاميرا أو كاميرا مان وسجل ثم اعمل المونتاج مستنداً إلى ثقافتك وحسك الجمالي. اذهب واصنع سينما!
وهكذا انطلاقاً من تجربتي وهذا اللقاء المؤثر في حياتي دخلت في عالم صناعة الفيلم الوثائقي. لقد أمدني الشعر وعلاقتي الوثيقة به بالرؤية البصرية لما ستكون عليها الصورة. كما أدركت أن حياتي كفلسطيني وتجربتي الفردية والجمعية مليئة بالموضوعات التي يمكن أن تكون أساساً لأفلام وثائقية كثيرة.
أعتقد بأن المخزون الثقافي والمعرفي وطبيعة شخصية المؤلف والمخرج هي ما يحدد الخيار الفني في الفيلم الوثائقي ونوع هذا الفيلم.
أما الالتزام بقوالب محددة ونوعية محددة فهذا التزام تفرضه النظرة الأكاديمية التي تتعامل مع السينما عموماً ومع الفيلم الوثائقي خاصة. وقد تجمع أحياناً الوصف مع الاستقصاء مع التجريبي مع الدوك دراما أو تتخلى عن كل ذلك وتصنع رؤيتك الخاصة.
ريما يكون اخيتار الدوك دراما ضرورياً أحياناً عندما تصنع فيلماً وثائقياً تعليمياً عن شخصية أو مكان أو مجتمع موغل في القدم ولا تمتلك عنه معلومات سوى ما قدمه المؤرخون كتابةً.
أما الصوت في الفيلم الوثائقي فهو ما يفرضه الموضوع وأنا أميل إلى عدم المبالغة في أي من المؤثرات الصوتية وأنحو صوب الأصوات الواقعية في المكان الذي أصوره أو أصور شخصياتي به.
الفيلم الوثائقي يصير فيلماً روائياً أثناء المونتاج، المونتاج هو الذي يصنع روحاً روائياً في الفيلم الوثائقي بحيث نركّب حياة الشخصيات والأماكن والأحداث موضوع الفيلم بطريقة روائية، نكسوها باللحم والدم ونعيد صياغة حياتها منذ طفولتها وأعني مدخل الفيلم مروراً بشبابها إلى أن ينتهي الفيلم ولا تنتهي الحياة.
لم يكن يوماً عادياً ذلك اليوم الذ كنت أجلس فيه أمام شاشة التلفزة أتابع الأخبار كعادتي حين أعلن عن وفاة محمود درويش في مستشفى هيوستن الأميركي.
كنت أعلم أن الشاعر ذهب إلى ذلك المستشفى لإجراء فحوصات دقيقة ولكني لم أعلم أنه كان سيجري عملية جراحية معقدة إلى ذلك الحد.
قبل هذا اليوم بأسابيع قليلة كنت في رام الله وأحببت أن أقابله لأقدم له نسخة من فيلمي “ظل الغياب” الذي لم يشاهده كما أعلمني في تونس قبل ذلك بشهور. وحين سألت عنه قيل لي أنه سافر البارحة إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإجراء فحوص دقيقة ولم أكترث كثيراً لأنه يجري مثل هذه الفحوصات بشكل دوري. وقلت أراه في زيارتي المقبلة إلى رام الله وبعد عودته من هيوستن.
لم تكن الفجيعة بموت الشاعر كما نحسها بموت أي شخص عادي، أحسست أن جزءاً مني قد مات ورحل إلى الأبد.
لطالما كنت أحس بنوع من الفرح الممزوج بالفخر والثقة العالية بالحياة أنني أعيش في عصر محمود درويش، أنني أقرأ شعر محمود درويش بعد خروج القصيدة في مجلة أو كتاب, طازجة، حيوية، مثل أنفاسي التي أحصيها وأعرفها معرفة تامة.
![]() |