تألق صالات العرض في العراق ثُم انطفاؤها
الصالة بوصفها مرآة لتحولات المجتمع
د.طاهر علوان*
لم تكن صالة العرض يوما مفصولة عن التحولات الاجتماعية التي سادت العراق طيلة القرن الماضي …بل كانت بحق مرآة لتلك التحولات وفضاء جسد واقع مجتمع يتنقل بين أطوار شتى .. سينما الصالة التي ترسخت عبر عقود خلت، أعطيت صورة لمجتمع ينمو باطراد ولا يخرج من دائرة التحضر والمدنية قبل أن تحدق بتلك الحياة المسالمة والمترفة الخطوب والحروب وتقلبات السياسة وتحولات الديموغرافيا …
ولأن “ثقافة الصالة ” هي ثقافة مدينية فقد عرفت بغداد تحديدا حياة الصالات كشكل حضاري واجتماعي فريد تفاعلت معها طبقات وشرائح المجتمع ورسخت من خلالها امتدادا حضاريا ومدينيا ظل ينمو باطراد متيحا الفرصة لتفاعل المجتمع مع مستجدات عالم الفيلم وتحولاته .
ولم تكن العائلة العراقية بعيدة عن حياة الصالات تلك فقد شهدت حقبتي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي بشكل خاص رسوخ ثقافة الصالات وتحول العائلة العراقية نحوها بشكل منتظم وذلك استنادا إلى نمو الطبقة الوسطى في العراق وما نتج عن حالة الرخاء والاستقرار من نزوع اجتماعي رسخ وجود تلك الطبقة وأضفى على وجودها قيمة مضافة تمثلت في حضورها المشهود للعديد من النشاطات الثقافية والفنية.
ولعله نزوع نحو التحضر والمدنية ونوع من الدينامية الاجتماعية التي وصلت إليها الطبقة الوسطى ورسختها كجزء من تقاليد عيشها غير مفصولة عن تلك الحياة اليومية .. إنه عالم مدجج بالصورة القادمة من الآخر حيث كانت الصالة مكانا لاكتشاف تلك الحياة المجهولة القادمة من وراء الحوار..
لقد كانت دهشة الاكتشاف هي أولى العوامل التي صنعت تلك العلاقة مع الصالات ودفعت بجمهور عريض من سكان المدن – بغداد خاصة – إلى أن يكون جزءا فعالا من المشهد وأن يكون حضور ذلك الجمهور علامة شاخصة للمدينة وخاصة في مركزها الممثل في أطول ( داون تاون ) أو مايسمى مركز المدينة حيث شارع الرشيد العريق في وسط بغداد وامتداده التقليدي شارع السعدون مرورا بساحة التحرير ..
لقد تعزز وجود الصالات في هذين الشارعين أكثر من أي شارع آخر رغم وجود صالات أخرى معدودة مثل صالة سينما بغداد في جانب الكرخ وسينما الفردوس وسينما روكسي وغيرها إلا أن وجود سينما الخيام وأطلس في شارع السعدون كان علامة فارقة تلته سينما النصر وبابل وسميراميس..
ففي هذا الشارع وصالاته الأنيقة كان الجمهور على موعد مع روائع السينما العالمية ، وهي في واقع الامر كانت معرفة مبكرة بتلك الروائع التي سبق ووصلت إلى جمهورها في شكل روايات مترجمة من مثل ذهب مع الريح وعناقيد الغضب وجسر على نهر كواي وغيرها .
هذا الولع المبكر بالصالة السينمائية أوجد صلة موضوعية قوامها تأسيس تقاليد ما للعرض والمشاهدة ، تقاليد أفضت إلى احترام نظام المشاهدة وإيجاد أوقات مخصصة للعائلة العراقية للمشاركة في هذا الطقس الإبداعي الخاص والحضاري الذي كشف تباعا عن ذائقة مميزة جعلت من السينما أداة تواصل واكتشاف لعوالم أخرى يجري التفاعل معها من خلالها مع الأماكن والشخصيات .
البدايات الاولى
لعله من الامور المدهشة ان يتزامن اول عرض سينمائي في العراق وفي بغداد تحديدا مع البواكير الاولى لولادة السينما في العالم , ففي دار الشفاء في جانب الكرخ من بغداد وبتاريخ السادس والعشرين من تموز يوليو 1909 ولد اول عرض سينمائي كان البداية الاولى المبكرة التي اسست لتلك العلاقة مع صالة العرض .
البداية المبكرة هذه التي ادهشت الجمهور البغدادي وخلقت جمهورا مازال يتفاعل مع تلك المجموعة من الافلام القصيرة والمشوشة بآلات عرض بدائية بسيطة الا انها عرفت ذلك الجمهور بفحوى الصور المتحركة وسط دهشة عظيمة.
كانت ساحة الميدان في وسط بغداد والمحاذية للسراي الحكومية مهدا لولادة اول دار عرض سينمائية في تاريخ العراق وهي نقطة التقاء القادمين الى العاصمة من المدن الاخرى ومن الضواحي اذ كانوا على موعد ليلة 26 تموز1909 في دار الشفاء بجانب الكرخ مع العرض الاول وبعد مرور عامين شهدت منطقة (العبه خانة) عرضاً آخر نظمه تاجر يهودي متخصص في استيراد المكائن اسمه “بلوكي” وعندها أقيمت أول دار سينما في بغداد أطلق عليها “سينما بلوكي وذلك في الخامس من ايلول سبتمبر 1911.
لقد كان وجود مكان مخصص للعرض السينمائي دافعا قويا لجمهور مازال يشعر بالدهشة ازاء هذه الظاهرة السحرية الجديدة وهي عملية العرض السينمائي ذاتها .
ومع ولادة المملكة العراقية في اعقاب الحرب العالمية الاولى في عشرينيات القرن الماضي انطلق انشاء دور العرض السينمائي في وسط العاصمة بغداد في ظاهرة ملفتة اذ انشئت ست دور عرض في خلال عشر سنوات كانت اولاها هي سينما سنترال في العام 1920 ثم تلتها دور السينما : الوطني ، رويال ، الزوراء ، الرشيد والحمراء .
ان هذا العدد من دور السينما هو اكبر عدد تم انشاؤه مقارنة بالعقود التالية وهي ظاهرة ملفتة للنظر بحق وكأن ذلك المجتمع الخارج من حقب الظلام ابان الحكم العثماني بدأ يدرج في مسار آخر مع انطلاق الحياة المدينية الجديدة واستقطاب بغداد العاصمة لقادمين من مدن اخرى وهم يكتشفون في السينما علامة جديدة ملفتة للنظر من علامات الحياة المدنية على بساطتها .
لقد تزامن ذلك مع رسوخ في مسيرة الصحافة العراقية التي كانت هي الاخرى ولدت مبكرا مقارنة مع العديد من البلدان العربية وغير العربية اذ كانت صحيفة ” الزوراء ” هي اول صحيفة عراقية اسست لتاريخ الصحافة في العراق وذلك في العام 1869 وبذلك تزامن رسوخ وانتشار الصحف لاحقا مع ظهور وانتشار الصالات السينمائية في وسط العاصمة بغداد .
![]() |