صالات السينما: جديدة تفتتح وقديمة تغلق :
أزمة جمهور أم أزمة ثقافية ؟
عدنان مدانات
من الحقائق البديهية في مجال السينما كممارسة اجتماعية متعددة الأطراف أن المقياس النهائي الذي يحدد مدى النجاح الجماهيري لأي فيلم سينمائي أو عدمه هو شباك التذاكر الخاص بصالات العرض السينمائي . وصالات السينما في العالم العربي جزء أساس من أزمة السينما صناعة وثقافة .
منذ بدايات إنشائها ولسنوات عديدة لاحقة، ظلت صالات السينما ملتقى لكافة فئات المجتمع ممن أحبوا السينما أو جعلوا من مشاهدة الأفلام وسيلة لقضاء الوقت وللترفيه. كانت الصالات آنذاك جديدة وقليلة العدد، وكان معظمها مختلط الجمهور يقسم مقاعده إلى جزأين ، أحدهما ترتاده “العائلات ” أو القادرون على دفع ثمن أعلى للتذكرة، وثانيهما يرتاده جيل الشباب أو أصحاب الدخل المحدود لأن قيمة التذكرة أرخص. أما القسم الآخر من الصالات فكان من النوع الشعبي وجمهوره من الذكور الشباب.
مع مرور الزمن وازدياد عدد صالات السينما وانتشارها في أرجاء المدن، صار يجري تصنيف صالات العرض السينمائية التجارية في البلدان العربية وفق أسس متنوعة، فإما إنه يتم تقسيمها إلى درجات: أولى وثانية وثالثة، أو حسب توزعها المكاني، كأن تكون في منطقة سكنية شعبية فقيرة أو في منطقة تجارية يغلب عليها جمهور الطبقة الوسطى أو الجمهور الأيسر حالا، أن تكون في مركز المدينة أو في الضواحي، وقد تصنف الصالات إما على أساس أنها تصلح لكي ترتادها ” العائلات ” أو أنها تصلح لجمهور من جنس الذكور فقط. ومن البديهي أن يفترض هذا التقسيم من حيث المبدأ أن لكل نوع من هذه الصالات جمهورا ملائما، كما يستلزم هذا الأمر أن تكون الأفلام المعروضة فيها مناسبة لطرفي العلاقة: الصالات وجمهورها، كأن تركز صالات ” العائلات ” على عرض الأفلام التي تلائم العائلات، مثل تلك الأفلام التي توصف بأنها اجتماعية، في حين تعرض الصالات الشعبية أفلام مغامرات أو أفلاما كوميدية.
في تلك السنوات كانت صالات السينما هي الوسيلة الوحيدة المتاحة أمام الناس لمشاهدة الأفلام وبالتالي كانت الصالات، بمختلف أنواعها، تربح، أي كان لها جميعها جمهورها، مما كان يسمح للموزعين وأصحاب صالات السينما بتقديم وجبات متعددة، وإن بنسب عددية متراوحة في أحجامها، من مختلف أنواع الأفلام، خاصة التي تنتمي إلى السينما التجارية، تتناسب مع تنوع الأذواق و تنوع المستويات الاجتماعية والثقافية لمشاهدي الأفلام.
لم يستمر هذا الحال طويلا، فمنذ بداية الربع الأخير من القرن العشرين تقريبا حل عهد جديد تغيرت فيه الأحوال وصار لدى الناس وسائط جديدة لمشاهدة الأفلام، مثل التلفزيون وأشرطة الفيديو والأقراص المدمجة التي يمكن مشاهدتها في المنزل بدون عناء، فتراجع إقبال الناس على ارتياد صالات السينما، ونشأت بالتالي أزمة إنتاجية عكست نفسها عبر التناقص المتواصل في عدد الأفلام المصرية المنتجة سنويا. وفي نفس الوقت تردت أحوال صالات السينما التي باتت تستخدم أجهزة عرض مستهلكة ويجلس مشاهدوها في مقاعد تحتاج إلى تجديد أو صيانة، وتغير جمهور الصالات وصار بمعظمه جمهورا شعبيا وتبدلت تقاليد المشاهدة نحو الأسوأ، ولم تعد الأجواء داخل صالات السينما مناسبة للعائلات، أي أن صالات السينما فقدت رونقها الاجتماعي.
حصل هذا كله في وقت تزايد فيه عدد السكان بشكل كبير واتسعت المدن وامتدت في كافة الاتجاهات، في حين أن عدد صالات السينما بقي على حاله، أو أن الزيادة في عدد الصالات كانت ضئيلة بحيث لم يعد حجمها يتناسب مع حجم الكثافة السكانية الجديد، وليس ذلك فقط بل إن عدد هذه الصالات لم يعد كافيا لاستيعاب حجم الإنتاج المحلي، على قلته، كما في مصر، مثلا، حيث صارت بعض الأفلام المحلية تنتظر عاما أو عامين داخل علبها قبل أن تحصل على فرصتها للعرض ولزمن محدود لا تتجاوزه إلا القلة النادرة من الأفلام المحلية التي تحقق نجاحا جماهيريا مفاجئا.
في الوقت الذي بدأت فيه عودة الروح إلى عجلة الإنتاج ، نشطت على مستوى الدولة ككل حركة استثمار واسعة شملت من بين توجهاتها حقل بناء المجمعات التجارية الضخمة و حركة بناء صالات سينما حديثة ومجمعات لصالات سينمائية ، تستفيد في برمجة عروضها من التسهيلات الرقابية غير المسبوقة للأفلام ” الأجنبية ” التي تغلب عليها الأفلام الأميركية، مما شجع الموزعين على استيراد الأفلام المنتجة حديثا، خاصة التي لا تزال أضواء الدعاية الجاذبة مسلطة عليها. وهكذا أصبحت صالات السينما الجديدة والعصرية تستقطب أعدادا متزايدة من الجيل الجديد من جمهور السينما الشاب الذي لا تفرغ جيوبه أثمان التذاكر المرتفعة نسبيا بالمقارنة مع أثمان تذاكر الصالات الشعبية، وهو الجيل ذاته الذي تعتمد عليه و تتوجه نحوه وتؤثر فيه عشرات المحطات الفضائية التلفزيونية، العربية والعالمية، المتخصصة حصرا في بث الأغاني الشبابية المصورة بطريقة ” الفيديو كليب “.
من الظواهر الملحوظة حاليا في معظم الدول العربية تزايد أعداد صالات السينما الجديدة بخاصة في العواصم. وتبدو عملية بناء صالات جديدة وكأنها الحل السحري لأزمة الإقبال الجماهيري على حضور الأفلام، حيث إنه من المعروف أن عدد صالات السينما غير كاف ولا يستوعب النمو المتزايد في أعداد السكان ، كما أن أماكن تواجدها يقتصر على مراكز المدن دون الأطراف في وقت اتسعت فيه مساحة المدن ولم يعد التنقل بين أرجائها سهلا . كما أن صالات السينما القديمة تحولت إلى صالات من الدرجة الثانية أو الثالثة سواء من حيث المعدات والتجهيزات أو من حيث مستوى ونوعية الأفلام التي تعرضها فنتج عن ذلك انحسار ما يسمى بجمهور السينما العائلي وانحصر الجمهور في نوعيات محددة تضم الشبان الباحثين عن تسلية رخيصة إضافة إلى العمال الوافدين الذين لا يجدون مجالات أخرى لقضاء الوقت.
وتتضح هذه الظاهرة بشكل خاص في مصر ذات الصناعة السينمائية الأكثر عراقة وتعداد السكان الأكبر . ففي القاهرة مثلا، كانت قلة عدد صالات السينما بالعلاقة مع عدد السكان ومع سعة المدينة من جهة، ومع الحجم الكبير للإنتاج السينمائي المحلي إضافة إلى الحجم الكبير للأفلام المستوردة، تتسبب في عدم إعطاء الفرص للعديد من الأفلام الوطنية لكي تجد مكانا لها في صالات السينما، ناهيك عن الزمن الكافي لاستمرارية العرض بما يسمح للفيلم بتحقيق إيرادات وأرباح.
![]() |