الفيلم الوثائقي..بين جماليات الوسائط وهاجس الترويج

كريم بابا 

ساهمت التطورات التقنية والتكنولوجية الحديثة في ظهور أجهزة وآلات إنتاج جديدة، نُظِر إليها في الدول المُصَنَّعَة، في بداية الأمر، بنفس الانفعال الذي عبر عنه العمال والنقابيون في منتصف القرن العشرين، عندما شردت شركات ومعامل التصنيع يدا عاملة بالملايين وعوضتها بآلات و”روبوهات”، وبنوع من الريبة والتوجس في الدول المتخلفة اقتصاديا واجتماعيا، وطرف ثالث اعتبرها تكريسا للحتمية التاريخية التي تفرض التطور في آليات الإنتاج، فكانت إشارة لمرحلة أخرى من مراحل التخلص من الإنتاج البطيء وغير المواكب لسرعة الطلب الاقتصادي، وأن الواقع يفرض، في الفنون مثلا، التقارب بين الإبداع بأدواته التقليدية ومستجدات العصر الرقمية.
وبالنظر لتاريخ الممارسة الإبداعية المعاصرة في المجال الدرامي، فقد اجتهد المبدعون، وإن بوتيرة متفاوتة ما بين المسرح والسينما، إلى الاستفادة أكثر من غيرهم من هذه الطفرة التكنولوجية غير المسبوقة، بحكم طبيعتها التصويرية التي تعتمد على العرض البصري، لتهيمن فنون الفيديو، والأفلام التجريبية، وأشكال الفن المختلفة التي تتوسل بالتكنولوجيا الحديثة، بصفتها وسيطاً في الإنتاج الدرامي المعاصر، أو عنصرا جماليا.
 “غير أن ما جرى في عصرنا هذا بعد اختراع السينما أن الصورة أخذت بعدا جديدا، فهي صورة حية تتكلم وتتحرك، وهذا تحول كبير في ثقافة الصورة يجعلها تختلف حتى عن الكلمة المكتوبة، حيث في حال الكتابة تظل الكلمات على الصفحات خرساء ولا حراك لها، وإن كانت الكتابة رسوما أو صورا لكلمات مدونة عن المنطوق، إلا أن قابلية النطق فيها هي للقارئ الذي يقرر مصير الكلمات نطقا ودلالة، وهذا يجعل الكتابة صورا جامدة لا تتحرك إلا بفعل المتلقي، ومن هنا تفترق الصور السينمائية بأنها حيوان ناطق ومتحرك فعلا ولا تختلف عن الإنسان الحيوان الناطق، وهذا أعطاها فعلا تأثيريا إضافيا”.

ومع مرور الوقت بدأ التآلف بين الإنسان والتقنية يكبر شيئا فشيئا وينمحي ذلك “العداء”، و”تداخلت عوالم الإعلان مع عوالم الدراما والغناء، فأصبحت هناك إعلانات داخل المسلسلات، ومسلسلات تكتب وتمثل بهدف الإعلان عن بعض السلع بشكل مباشر، أو غير مباشر، وأصبحت المسلسلات الدرامية أشبه بعروض الأزياء أو “الكاتالوجات” التي تحتوي على سلع معروضة بأشكال جذابة، براقة ولامعة”.
وكان من الطبيعي أن تنتقل هذه الحركية الإلكترونية إلى مختلف الفنون البصرية المرتبطة بالشاشة الصغرى والكبرى، حيث مست تطورات الصناعة الدرامية الحديثة مجال السينما الوثائقية بعدما بدأت مع الروائية، وذلك كنتيجة للمؤهلات الفنية والجمالية التي وفرتها التقنية، مع العلم أن الفيلم الوثائقي لا يستحضر مجموعة من العناصر التي نجدها أساسية في الفعل الدرامي للفيلم الروائي. فكانت وجهته في البداية الشاشة الصغيرة، نظرا “للتطورات المتلاحقة في مجال الإنتاج والبث التلفزيوني العابر للحدود إلى خلق قنوات مختلفة لتقديم المادة الوثائقية، بدءا من عرضها في نشرات الأخبار المصورة مرورا بالبرامج الإخبارية والتحقيقات التلفزيونية وانتهاء بالأفلام الوثائقية المصنوعة لغايات العرض التلفزيوني، لكن هذا الأمر الذي يعتبر تكريسا لأهمية وشرعية الصيغة الوثائقية لعرض صور الواقع وله مدلول ايجابي، أنتج في نفس الوقت نقيضه، إذ أدى إلى نتائج سلبية انعكست على الصورة الواقعية، الصورة الوثيقة، من ناحية قدرتها على التأثير في مشاهديها، فقد تراجعت هذه القدرة كثيرا خاصة في المجال العاطفي النفسي”.
ونجد تمثلات هذا التآلف والتقارب الجديد أيضا في ما يسمى بفنون الوسائط الجديدة، والتي أخذت تسميات متعددة مرتبطة بالترجمة بالأساس كـ”فن الديجتال”، و”فن الكمبيوتر”، و”فن الملتيميديا”، وغيرها من التسميات، التي تبقى في الغالب نتاج تبادل عناصر ومتغيرات جديدة، تعمل في الغالب على تصوير أشكال فنية هجينة توظف التكنولوجيا الحديثة، وتعتمد على جماليات بصرية تحمل مضامين ثقافية وسياسية مغايرة.
 
الدراما والتقنية … ومساحات اللقاء

وإذا بحثنا في هذه العلاقة الجديدة بين الفن والتكنولوجيا، أي فيما يتعلق بتفاصيل ذلك على مستوى كل فن من الفنون، نجد أن القاسم المشترك بينها (الفنون) أنها أضحت تستقطب جمهورا واسعا، وأصبح تنوع البرامج المقدمة كبيرا جدا، “ففي حالة الدراما هناك الكوميديا والتراجيديا، والرعب، والتشويق، والخيال العلمي، والقصص العاطفية الرومانسية، وغيرها، ولم تعد القضية هي الاختيار؛ بل أصبح الاختيار هو المشكلة بسبب هذه الوفرة غير المسبوقة في القنوات والبرامج”.
وبالنظر إلى توظيف واستعمال التكنولوجيا في الفنون الجديدة، والذي يشمل كل الممارسات التي استخدمت الإلكترونيات، كجهاز “الروبورت” الآلي في الفن، فإن هذه الفئة، مثلا، تقحم التكنولوجيا بشكل مكثف ودون اعتبار للجانب النقدي، وبغض النظر عن دورها كوسيلة وأداة جمالية في العمل الفني أم تتعدى ذلك، بل “إن منتجي الدراما التلفزيونية أصبح في مقدورهم تحقيق السرعة والتوفير في النفقات لاستخدامهم التصوير التلفزيوني استخداما فنيا أتاح لهم البعد عن الطرق التقليدية في إنتاج الأفلام السينمائية، ومن ذلك مثلا –أنه بدلا من آلة التصوير السينمائي المنفردة، تيسر إحلال مجموعة من آلات التصوير التلفزيونية الموزعة على مسافات وزوايا مختلفة والتي تتلقى توجيهاتها من موقع مركزي للمراقبة بحيث يستطيع المخرج أن يرى مجال الرؤية الخاص بكل آلة تصوير على مجموعة واحدة من شاشات المراقبة المناظرة لآلات التصوير، وهذا النظام يجعل المخرج قادرا على القيام بكلتا مهمتي الإخراج والمونتاج في عملية واحدة”.  مما يجعلنا أمام شبه قناعة أصبحت ملازمة للعمل الإبداعي المعاصر، وهي أن العمل الفني يجمع حقولا ومجالات مختلفة، نظرا لطبيعة الممارسة الإبداعية الحديثة، التي يصعب عليها أن تتحقق بدون أدوات إنتاج جديدة، مخالفة للوسائل التقليدية التي لم تكن قادرة من قبل على ولوج عوالم فنية بحثة كفنون الأداء، من رقص، وألعاب سحرية … “ففنانو العرض يصيغون برامج مبتكرة للتدريب المشترك، وواضعو الألحان يعملون مع مصممي الألعاب النارية لتقديم هذه الألعاب في سماء الليل المظلمة، ويعمل مصممو الشبكة التفاعلية مع مستشاري المدينة لتقديم الميراث الافتراضي لمجتمعهم”.

مع السينما كانت البداية
ارتبط الفن السابع منذ بدايته بعنصر التقنية، إذ شكلت العدسة و”الكابل” وعاكس الضوء   Projecteur، وإن بمستويات التناظرية الجنينية، البدايات الأولى لثورة الدراما على الآنية. كما أن النظر إلى هذا التحول، وفق مستوى التقنية خلال نهاية القرن 19 ميلادي، يجعلنا نجزم أن السينما في تلك اللحظة التاريخية كانت ثورة إلكترونية كبرى في تاريخ البشرية، وتتويجا لما حققته الصناعة والإنتاج المادي لدى الغرب.
وتختلف التصورات النظرية حول العلاقة التاريخية بين السينما والتكنولوجيا، فهناك من ذهب إلى أن التقنية كانت السبب الأساسي في ظهور الفن السابع، ولولاه لما استطاع هذا الشكل الإبداعي من تحقيق ثورته على مستوى صناعة الصورة، بل إن “التاريخ المبكر للسينما هو، بدقة أكبر، قصة تطورات مرتبطة بثلاث مشكلات علمية وتقنية كان يتعين حلها حتى قبل أن يتخيل أحد اختراع آلة العرض السينمائي”. 
وبالعودة إلى التشكل الأولي لهذا الارتباط بين التشخيص والتوثيق السينمائي لم تكن على هيئتها المعاصرة، بل مرت من مراحل متتالية ومتكاملة، حيث “كانت البداية هي التمكن من مبادئ عرض صور الظلال، والثانية هي الحصول على حركة مستمرة من العرض السريع للصور والرسومات، والثالثة كانت هي التصوير نفسه. ونحن نحتاج للنظر في هذه المشكلات الثلاث وأيضا في بعض الوسائل التقنية التي أدت في النهاية إلى حلها”.  فكانت هذه الصيرورة انعكاسا لما سبقنا الحديث عنه بخصوص التطور الصناعي وظهور وسائل إنتاج جديدة، بمعنى أن “قصة هذه الوسائل والحلول لا يمكن فصلها عن البشر الذين توصلوا إليها كما أن منجزات هؤلاء الأشخاص مرتبطة تماما بالإطار الاجتماعي والثقافي الذي حققوا نجاحاتهم فيه”.

 وهناك تصور آخر لظهور السينما ينبني على فلسفة التطور عامة، أي تلك النتائج التي يفرزها الصراع البشري حول امتلاك سلطة القوة والمعرفة، إذ “يمكن فهم تطور السينما، كما كان الحال مع الصحيفة، في إطار النموذج التطوري ونموذج الصراع معا. وقد حدثت عملية التراكم الحضاري التي أفرزت تكنولوجيا السينما، بشكل رئيسي في صورة تراكم تدريجي للمنجزات العلمية في العديد من المجالات التي تبدو بعيدة كل البعد عن هذا المجال. وقد تجمعت هذه التكنولوجيا معا في نهاية الأمر في صورة وسائل قادرة على خلق وهم الحركة المستمرة من خلال سلسلة من الضلال التي يتم عرضها على شاشة”.  كما تضيف وجهة النظر نفسها أن السينما جاءت أيضا نتيجة التحولات الاجتماعية في الغرب، إذ تطورت “صناعة السينما منذ بداياتها الأولى في الحانات الوضيعة والعروض اللاأخلاقية، لتصبح نظاما اقتصاديا ضخما ومحترما ومعقدا، لإنتاج وتوزيع وعرض الأفلام السينمائية كوسيلة من وسائل الترفيه والتسلية العامة”.  مما دفع الكتاب الدراميين إلى “أن يفكروا في التتابعية كقصة متماسكة ومكشوفة، تُمَكِّنُ المشاهدين من متابعة أقواس حبكة أطول وعدد أكبر من خيوط القصة المتداخلة. ومقارنة بكاتب التلفزيون اليوم، يمكن للكاتب السيبيردرامي اكتشاف سياقات الأحداث لفترات زمنية أطول ويستطيع خلق متوازيات درامية أكثر ثراء، مدركا أن المشاهدين يميلون إلى متابعة أحداث تافهة، وحتى سنوات مفصلية”.
 
الوثائقي والترويج الوسائطي
ومثلما حصل مع الفيلم الروائي، بحث الفيلم الوثائقي عن خروجه من “حصار” النخبوية التي رافقت ظهوره لعقود عديدة، بل إن هناك من يعتبره “أصل”  السينما، على اعتبار أن أول عمل سينمائي كان توثيقيا أكثر منه روائيا. وزاد هذا الطموح أكثر مع ظهور الدعائم والوسائط الجديدة، وانتشار الآلات الذكية، الرفيق الجديد للإنسان في الألفية الثالثة، فتزايدت “فرص الأفلام الوثائقية في الوصول إلى جماهير المشاهدين في أرجاء العالم بالتزامن مع حجم انتشار البث الفضائي على شاشات التلفزيون عبر الأقمار الصناعية العابرة إشارتها حدود الدول والقارات، والتي قال عنها المفكرون إنها حولت العالم إلى قرية صغيرة”.
وساهم الظهور المكثف للقنوات التلفزيونية أيضا في انتشار الفيلم الوثائقي، نظرا لتنوع الصيغ الفنية لتقديمه، ما بين برامج وسلسلات وأفلام، واستثمارا للتطور الرقمي  الذي وظفت إمكانياته الفضائيات المتخصصة في إنتاج وبث الأفلام الوثائقية، ونذكر هنا تجربة قناة الجزيرة الوثائقية، من حيث رؤيتها الجمالية وخلفيتها التحريرية لصناعة وترويج الفيلم الوثائقي، والتراكم الكمي والنوعي الذي خلفته منذ تأسيسها سنة 2009، والتي دشنت في بداية شهر سبتمبر 2014 بمدينة طنجة شمال المغرب حملة الترويج للقناة في الدول العربية، من أجل الاقتراب أكثر من الفئات الاجتماعية المختلفة، وللمستويات الفكرية المتنوعة، ومحاولة التغلب على هاجس منتجي الأفلام الوثائقية، وهو ضعف المتابعة الجماهيرية. ثم تأتي تجربة قناة “ناشيونال جيوغرافيك”، وإن جاءت بصورة مخالفة للجزيرة، ولدور هذا النوع من الإبداع السينمائي في صناعة الرأي العام وكسب ود الجماهير. وهو تنوع مهم على مستوى قيمة

التراكم الذي وفرته القناتان للجمهور العربي، ووضعت أمامه أسلوبين مختلفين في التوثيق السينمائي. فحصل وفق هاتين التجربتين التلفزيونيتين على الأقل، تحول “جديد في أحوال الأفلام الوثائقية التي بدأ ولاؤها ينتقل تدريجيا من السينما إلى التلفزيون، الذي صار بمثابة تربة خصبة لإنتاج الأفلام الوثائقية، فخفَّت الجهود التي كانت تبذل في تطوير وسائل التعبير الفتية التي كان يتولاها المخرجون الكبار في المرحلة السابقة، وصار الاهتمام ينصب أكثر فأكثر على المواضيع المثيرة والقضايا الراهنة الساخنة والصارخة، واقتربت الأفلام، التي صارت تمول إنتاجاتها أو تدفع ثمن نسخها وحقوق عرضها المحطات التلفزيونية، من أن تصبح تحقيقات تلفزيونية، أي أن الفن أخلى سبيله، أو بعض سبيله، للإعلام، وهذا ما سمح لمخرج جريء وخبير في تناول القضايا الراهنة والمواضيع المثيرة والساخنة مثل الأمريكي “مايكل مور” بالحصول على جوائز سينمائية دولية هامة، وعلى نجاح جماهيري عالمي لأفلامه التي حققت نجاحا تجاريا غير مسبوق”.
هكذا إذن، نرى أن ما يمكن تسميته بفنون الميديا، خَطَّت لجسر الوصل بين مجالي الفن والتكنولوجيا، ومرت معها شبكة الإنترنت لتأخذ لنفسها موقعا أساسيا في صناعة معالم جديدة في الفن الحديث والمعاصر، وغيره من مظاهر اللقاء الإبداعي بين التكنولوجيا والتقنية في الإنتاج الفني، كألعاب الكمبيوتر مثلا، وغيرها من فضاءات الإبداع التي يلتقي فيه الإبداع بالأنظمة المعلوماتية المساهمة بدورها في تأسيس مجالات بصرية جديدة للترفيه والتثقيف. لكن رغم هذه الإنجازات الهائلة على مستوى أدوات صناعة المادة البصرية، فإن الأفلام الوثائقية لازالت عاجزة عن “توفير الانتشار الجماهيري لها في صالات العرض العامة التي بقيت، إلا فيما ندر، حكرا على الأفلام الروائية، فالسينما الوثائقية لم تستطع منافسة السينما الروائية في هذا المجال”.
وعلى الرغم من وجود نقطتي الضوء المذكورتين آنفا (الجزيرة الوثائقية و”ناشيونال جيوغرافيك”)، فالأولى تعتبر المضمون والمحتوى أولوية الأولويات، بينما الثانية تركز على الجانب التقني والفني في عرض البرامج الوثائقية وجلب رؤوس الأموال والمستشهرين، فإننا لا نستطيع أن نجزم بقدرة الفيلم الوثائقي في الوطن العربي على تجاوز مرحلة “التعثر” النسبي في كسب رضى الجمهور، وسبب ذلك هو “أن مواجهة تحديات مجتمع الإعلام لا تنجز فقط بامتلاك التجهيزات وإحداث البنى الأساسية والإشادة بسياسات نشر المعلوماتية والثقافة الافتراضية، بقدر ما هي مرتبطة بالقدرة على صناعة المحتوى والمضامين … وهو هدف يبدو بعيد المنال في الوقت الراهن في ضوء الموقع المتأخر الذي تحتله البلاد العربية في مجال الصناعات الثقافية في العالم”.  بالإضافة إلى السبب العام المرتبط بضعف الإنتاج الدرامي العربي عموما، وانحصاره في إطار التجارب الفردية التي لا تصل لمنطق المؤسسة، عكس ما تمثله “هوليوود”، أو منافستها في سوق التوزيع  بالدول العربية، ونقصد بذلك السينما الهندية. هذا إلى جانب “محدودية الإنتاج التلفزيوني والسينمائي العربي وعدم قدرته على توفير مئات الآلاف من ساعات البث في القنوات الفضائية العربية. فما هو متوافر من إنتاج محلي لا يفي بالحاجة وقد لا يلبي أكثر من ربع الاحتياجات”.
إن الحديث عن دور الوسائط الجديدة في إخراج الفيلم الوثائقي من نخبويته وانحصاره في فضاءات محدودة، لا يمكن أن ينسينا الإشارة إلى استفادته، بشكل متأخر، من شبكات التواصل الاجتماعي، التي تعتمد بدورها على التكنولوجيا الجديدة، من خلال “انتشار الفيلم الوثائقي، وصوله إلى “شرائح جديدة من الجمهور، في القرى والمناطق التي لا تعرف أصلا دور العرض السينمائي، وقد أتاح هذا كسر احتكار قنوات التلفزيون وتحكمها في عرض الفيلم الوثائقي والتحكم فيه حسب ما يتراءى للقائمين على هذه القنوات، سواء أكانت من القنوات الحكومية أو الخاصة”.  كما أن الأمر لم يتوقف عند مجرد التعريف بالفيلم الوثائقي والمساعدة على انتشاره، بل يسرت شبكات التواصل الاجتماعي للنقاد والمهتمين بالدراما عموما والأعمال الوثائقية خاصة إمكانية التحليل والنقد، من خلال “التوقف أمام لقطات ومشاهد محددة ومناقشتها أحيانا بما يثري عملية التلقي نفسها، ولا شك أنه يوفر زادا نظريا مفيدا لصناع الأفلام أنفسهم يمكنهم الاستفادة منه”. 
وأخيرا، فإن هذا التقارب بين الفرجة البصرية والتكنولوجيا هو أيضاً علامة من العلامات المهمة على نسبية المفاهيم والقضايا النقدية المتوارثة بين النقاد، حول أصل الفنون ومدى قدرتها على الحفاظ على “نقائها” وأصالتها. فمن خلال متابعتنا للأعمال والبرامج التلفزيونية، وتقاربها المستمر مع الوسائط الحديثة، وقفنا على أهمية جهاز الحاسوب في مختلف مراحل الإنتاج الدرامي، والشيء نفسه بالنسبة للفن السابع. فعندما “جَعَلَت كاميرا السينما إطارَ المشهد شديد الضيق، فإن فأرة الكمبيوتر تجعل كاميرا المخرج ضيقة للغاية. فالمتفاعل/المشاهد يريد أن يتابع الممثلين خارج الإطار، أن ينظر إلى الأشياء من زوايا مواتية متعددة”.  ليقود العنصر التقني والوسائطي الفنانَ والمبدعَ المعاصر نحو آفاق جديدة للخلق والإبداع، ستمكنه مع مرور الزمن وتراكم التجارب الإبداعية من اكتشاف التغيير في العلاقة بين التكنولوجيا والإبداع الفني؛ أهو تقارب ظرفي وعابر أم ضرورة حتمية؟

الهوامش:
– عبد العالي الغذامي: “الثقافة التلفزيونية، سقوط النخبة وبروز الشعبي”، المركز الثقافي العربي، ط2، 2005، بيروت، لبنان. ص 27- 28.
 – شاكر عبد الحميد: “عصر الصورة، السلبيات والايجابيات”، سلسلة عالم المعرفة، عدد 31، يناير 2005، الكويت، ص380.
 – “الفيلم الوثائقي مقاربات جدلية”، مجلة الجزيرة الوثائقية، مؤلف جماعي، تنسيق: حسن مرزوقي، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 2011، ص 152.
 – نفسه، ص 370.
 – سامية أحمد علي: “أسس الدراما الإذاعية راديو وتلفزيون”، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 2009، ص202.
 – جون هارتلي: “الصناعات الإبداعية، كيف تنتج الثقافة في عالم التكنولوجيا والعوملة، ج1″، ترجمة: بدر السيد سليمان الرفاعي، سلسلة “عالم المعرفة”، عدد 338، أبريل 2007، الكويت. ص 231.
 – ملفين ل.ديفليز وساندرا بول-روكيتش: “نظريات وسائل الإعلام”، ترجمة: كمال عبد الرؤوف، الدار الدولية للاستثمارات الثقافية،  ط 4، 2002، القاهرة، ص 107.
  – نفسه، ص 107.
 – نفسه، ص 107.
 – جون هارتلي: “الصناعات الإبداعية، كيف تنتج الثقافة في عالم التكنولوجيا والعوملة، ج1″، ص231. (سبق ذكره).
 – ملفين ل.ديفليز وساندرا بول-روكيتش: “نظريات وسائل الإعلام، ص 105. (سبق ذكره).
 – نفسه، ص 249-250.
 – يمكن العودة في هذا الموضوع لكتاب “الوثائقي أصل السينما” للمخرج المغربي بوشعيب المسعودي.
 – “الفيلم الوثائقي مقاربات جدلية”، مجلة الجزيرة الوثائقية، ص 151. (سبق ذكره).
 – ملفين ل.ديفليز وساندرا بول-روكيتش: “نظريات وسائل الإعلام”، ص 152. (سبق ذكره).
 – “الفيلم الوثائقي مقاربات جدلية”، مجلة الجزيرة الوثائقية ، ص 151. (سبق ذكره).
 – د.المنجي الزيدي: “ثقافة الشباب في مجتمع الإعلام”، مجلة عالم الفكر، عدد 35 (يوليوز-شتنبر 2006)، الكويت.ص 223.
 – د.المنجي الزيدي: “ثقافة الشباب في مجتمع الإعلام”، ص 223. (سبق ذكره).
 – أمير العمري: “الفيلم الوثائقي والجمهور”، مجلة الجزيرة الوثائقية (النسخة الإلكترونية)، عدد 5 (يناير-مارس 2010).
 – أمير العمري: “الفيلم الوثائقي والجمهور”، (سبق ذكره).
 – ملفين ل.ديفليز وساندرا بول-روكيتش: “نظريات وسائل الإعلام، ص 205. (سبق ذكره).


إعلان