مستقبل الفيلم الوثائقي في عصر الانترنت

أمير العمري

من المؤكد أن الفيلم الوثائقي لم يعد على ما كان عليه قبل ظهور الوسائط الحديثة، أي الانترنت والكومبيوتر وكاميرا الهاتف المحمول وغيره. فالوسائط الجديدة تؤثر بالضرورة في شكل الفيلم وبنيانه، بل وفي موضوعه أيضا.
ويعتمد مستقبل الفيلم الوثائقي على ما سيحدث من قفزة نوعية في تلك الوسائل وجعلها أكثر دقة وفعالية ونقاء بما يوازي نقاء الصورة السينمائية، ولاشك أن هذا التقدم سينعكس على حضور الفيلم الوثائقي سواء من خلال الشاشة الكبيرة أو عبر شاشات أجهزة الكومبيوتر التي بات من الممكن الآن توصيلها بشاشات كبيرة داخل المنازل وفي الجامعات والمدارس ومراكز الشباب وجمعيات هواة السينما والتجمعات الثقافية عموما، كما أن شاشات السينما الكبيرة نفسها أصبحت خاضعة في الكثير من دول العام للتقنية الرقمية.

كان ظهور الفيلم الوثائقي مرتبطا بالرغبة العميقة لدى السينمائيين في نقل الواقع. وليس من الغريب مثلا أن تكون “الأفلام” الأولى التي صورها الأخوان لوميير، معنية أساسا، بنقل ما يحدث في الحياة اليومية (خروج العمال من المصنع، وصول القطار الى المحطة) ثم تطورت تلك الصورة المجردة واتخذت سياقا لرؤية الواقع، أي لتجسيده والتعمق فيه بصورة أكثر تأثيرا باستخدام المونتاج والموسيقى والتلاعب بالضوء والصوت والصورة أحيانا، وإن ظل الاهتمام الأول لصانع الفيلم الوثائقي هو الواقع: مادة الحياة، مشاكل المجتمع، تسجيل وتوثيق كل ما يحدث حولنا: حركة الحياة في المدينة، الحروب، الصراعات السياسية، مشاكل الفقر والتخلف وتلوث البيئة، اكتشاف مناطق جديدة في العالم.. إلخ
المؤكد أن الفيلم الوثائقي ظل طويلا، يعاني من طغيان الفيلم القصصي أو الروائي (الخيالي)، فحتى كلمة “فيلم” أصبحت مرتبطة في أذهان الجمهور بالفيلم الخيالي فقط، أو ارتبطت كلمة “فيلم” بصنف معين من الأفلام كأن تقول مثلا هذا “فيلم فني” أو “فيلم تجاري للتسلية” أو”فيلم تسجيلي” أو”فيلم تحريك”.. إلخ
 

لسنوات طويلة لم يتطور الفيلم الوثائقي كثيرا، فقد ظل تعريفه الأساسي يدور حول ما منحه له جون جريرسون من معنى، بينما كان الفيلم الخيالي القصصي التمثيلي، يتطور بسرعة مدهشة رغبة في الوصول الى أقصى درجات الاقناع حتى لو كان يروي أكثر القصص إغراقا في الخيال، وتصويرا للمبالغات الخرافية. فقد كان الهدف دائما هو “التأثير” ولا يتحقق التأثير سوى باقناع المشاهد بأن ما يشاهده يحدث فعلا أو على الأقل، بأنه “قابل للحدوث”. وكانت تلك هي جاذبية ما يسمى بـ “الإيهام بالواقع”.

استنفذ الفيلم الوثائقي طويلا فكرة التعبير عن مشاكل في الواقع، وتطور خلال العشرين عاما الأخيرة ليوازي الفيلم الخيالي في اهتمامه بالمزج بين الشخصي والموضوعي، وبين الواقعي والخيالي، وأصبح يستخدم الأشكال المتعددة كأن يمزج مثلا بين التحريك وكتابة البيانات على الشاشة، ويدخل الاحصاءات ويجعل مخرج الفيلم يظهر مباشرة في الفيلم، يتحدث ويحاور بل ويخاطب أيضا المتفرج، كما تتم الاستعانة بالممثلين لإعادة تجسيد الكثير من الأحداث ومزجها بالوثائق المصورة.
لكن كل ما شهده الفيلم الوثائقي من تطور في أشكال وطرق التعبير السينمائي يمكن وضعه في كفة، وما حدث أخيرا ويحدث حاليا وسيحدث مستقبلا للفيلم الوثائقي بسبب ظهور “الوسائط الجديدة”، يجب وضعه في كفة أخرى.

الوسائل الجديدة

ولكن فلنتوقف أولا أمام هذه “الوسائط الجديدة” أو وسائل الاتصال الجديدة حسب التعبير الشائع في الغرب أي  New Mediaونتساءل: ما هو بالضبط المقصود بتلك الوسائل. هذا السؤال يناقشه ليف مانوفيتش في كتابه “لغة الوسائط الجديدة” The Language of New Media (2001) ويجيب عنه على النحو التالي:
“ربما يمكن أن نبدأ الاجابة عن هذا السؤال بتحديد الوسائط التي تتم مناقشتها كثيرا في الصحافة العامة أي الانترنت والمواقع الالكترونية والوسائط المتعددة للاتصال عبر الكومبيوتر وألعاب الكومبيوتر ومشغل الاسطونات المدمجة DC Rom واسطوانات الفيديو الرقمية DVD للأفلام، والواقع الافتراضي virtual reality”.
يضيف مانوفيتش إلى “الميديا الجديدة” أيضا كل ما ينتج على جهاز الكومبيوتر من أشكال فنية، مثل الصور التي يتم تخزينها على الأسطوانات وتبادلها، وكذلك النصوص والكتب الالكترونية، ويمكننا بالطبع إضافة مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك ويوتيوب التي انتشرت حاليا بصورة هائلة في العالم. أي أنه يرى صلة أساسية بين الوسائل الجديدة للتواصل أو الاتصال New Media  وبين استخدام جهاز الكومبيوتر للعرض والتخزين والتبادل أي التوزيع.
 ولكنه ينطلق من هذا لكي يخلص إلى أننا نعيش “ثورة تكنولوجية” في وسائل الإعلام والاتصال ربما تكون شبيهة بما حدث مع ظهور الطباعة في القن الرابع عشر، وفن التصوير في القرن التاسع عشر، وإن كانت “ثورة الكومبيوتر” تتجاوز هاتين الثورتين. فبينما انعكست الطباعة على مرحلة واحدة فقط من التواصل الثقافي أي عملية توزيع المطبوع، وأثر التصوير الفوتوغرافي على جانب واحد أيضا يتعلق بالصورة الثابتة، تؤثر “ثورة الكومبيوتر الثقافية” في الكثير من جوانب عملية الاتصال الثقافي: الاقتباس والتبادل والتخزين والتوزيع، كما تؤثر في كل أنواع “الميديا”: النصوص والصور الثابتة والصور المتحركة والتسجيلات والمواد الصوتية.
 ولكننا مازلنا في بداية هذه الثورة التي ستشهد المزيد من التطورات الكبرى التي لاشك أنها ستنعكس على الكثير من وسائل التعبير، وأولها الفيلم الوثائقي الصغير الذي لا يتطلب ميزانيات ضخمة ولا ممثلين ولا مهندسي ديكور واضاءة وستديوهات، بل فقط كاميرا (أصبحت بأحجام صغيرة للغاية ورخيصة بدرجة مذهلة وتتمتع بصورة متقدمة جدا في مواصفاتها عما كان سائدا مثلا في الستينيات أي قياسا الى كاميرا الـ 8 مم الصغيرة التي كان يستخدمها الهواة في صنع أفلامهم) وجهاز كومبيوتر لعمل المونتاج.

تحرير الوثائقي
هل يمكن الفصل بين تطور أشكال التعبير من خلال “الوثائقي” وبين التطور الذي نشهده اليوم فيما يتعلق بوسائل الاتصال الجديدة التي أصبحت جميعها تشترك في سمة واحدة أساسية هي “الرقمنة”؟ أي بصيغة أخرى، هل يمكن اعتبار ما يحدث من تطور في طرق تجسيد الأفكار والتعبير عنها – سينمائيا- منفصلة عن تلك الوسائل الجديدة في جوهرها الأصيل ودقائقها المميزة؟
من وجهة نظر كاتب هذه الدراسة، من المستحيل عمليا الفصل بين الوسيلة والشكل، أو بين اللغة والمحيط الذي تنبع منه، وبين الإمكانية الجديدة التي أصبحت تتيح الاستفادة مما لم يكن يخطر على البال من قبل، وبين محتويات الصورة في الوثائقي، بل وفي طرق إنتاجه وتوزيعه أيضا.

لقد حررت الوسائل الجديدة للاتصال “صانع الفيلم الوثائقي” الذي يرغب في عمل فيلم وثائقي يعكس اهتمامه بموضوع ما، من كل قيود “الصنعة” من ناحية، وقيود “الإنتاج” من ناحية أخرى. ولكن كيف؟ لقد أصبحت الصنعة- كما أشرنا سابقا- تقتضي مجرد وجود كاميرا قد تكون هي نفسها كاميرا جهاز التليفون المحمول، وجهاز كومبيوتر مجهز ببرنامج لعمل المونتاج وتركيب الصوت. وسيقوم صانع الفيلم نفسه بالبحث في مادته، وهو الذي سيكتب موضوع الفيلم ويضع خطته على الورق (شكل من أشكال السيناريو) كما أنه هو الذي سيقوم بتركيب وتوليف مناظر الفيلم معا، وسيتحكم في ايقاعه وفي دمج صوره بما يراه مناسبا، سواء الموسيقى أو أصوات خارجية يكون قد سجلها بمعزل عن التصوير.
في الوقت نفسه، لن يخضع الفيلم (الذي سيكون بالضرورة محدود الميزانية وربما بميزانية “صفر”) لجهة إنتاجية تفرض مواصفات معينة أو تضع قيودا ما، كما أن التوزيع عبر رفع الفيلم على المواقع التي باتت متخصصة على شبكة الانترنت والتي يقبل على مشاهدتها الملايين من الشباب في العالم يوميا، ستخلصه نهائيا من سطوة ما يعرف بـ “سوق التوزيع”، فقد أصبحت الصلة بين الصانع وجمهوره مباشرة بشكل ربما يفرض أيضا مسؤولية ما محددة على صانع العمل، تتمثل أساسا في ضرورة توخي الصدق فيما يعرضه، وعدم استخدام الصورة للغش أو للترويج لأفكار قد تدفع المشاهدين الى الاقتناع باتخاذ مواقف معادية اجتماعيا، لفئة ما أو لفرد ما، وتحول بين الناس اي جمهور المشاهدين – المستخدمين (بلغة الكومبيوتر) وبين تكوين آرائهم الخاصة فيما يشاهدونه.

ولعل من أهم ما ستسفر عنه وسائل الاتصال الجديدة فيما يتعلق بالوثائقي، تضاؤل أو انحسار الرقابة على المنتج الوثائقي نفسه، فهذه الوسائل ستحرر صانع الفيلم من قيوده بقدر ما تعمق الصلة بينه ومن جمهوره الذي سيصبح بإمكانه أيضا التفاعل المباشر مع ما يشاهده عبر الانترنت وجهاز الكومبيوتر. ولن يقتصر الأمر فقط على ما يمكن للجمهور أن يدلي به من تعليقات على ما يشاهده، وربما أيضا مطالبة صانع الفيلم باجراء بعض التعديلات عليه، بل والتداخل معه عبر صنع وطرح صور بديلة ووثائق أخر قد تدعم أو تناقض رؤية الصانع الأصلي. هنا لا يصبح الجمهور مجرد طرف سلبي يتلقى ويعلق، بل يصبح دوره إيجابيا، منتجا، صانعا هو بدوره، يمكنه أن يرد على الصورة بالصورة، وعلى الفكرة بفكرة أخرى قد تطور أو تدفع الى المراجعة، وتكون هناك “لجنة تحكيم” من جميع المشاهدين عبر العالم، هي لجنة مقيمة دائمة تستمر في المشاهدة واصدار الأحكام لمدة 24 ساعة يوميا.
مساهمة الوسائل الجديدة في صنع الوثائقي لاشك أنها ستدفع السينمائيين الشباب من الراغبين في التعبير عما يؤرقهم ويشغلهم إلى البحث في مواضيع لم يكن من السهل على صناع الوثائقي من الأجيال الأقدم، الاقتراب منها، ولن تجعل مساحة العرض أمامهم منحصرة في قاعة السينما بشاشتها التقليدية بل يصبح أمر التوزيع والعرض على نطاق واسع، متاحا بصورة لم يكن من الممكن تخيلها قبل عقدين من الزمان فقط.

يرى الباحث التركي إرسان أوتشيك Ersan Ocak في دراسة بعنوان “الأشكال الجديدة لصنع الفيلم الوثائقي خلال الوسائل الجديدة للاتصال” أنه مع ظهور الوسائل الجديدة للاتصال ظهرت أشكال جديدة للفيلم الوثائقي هذه الأشكال الجديدة هي وثائقي الويب webdocumentary والوثائقي التفاعلي interactive documentary والتصوير الذي يعتمد على قاعدة المعلومات database- filmmaking، والميديا المتحولة transmedia، والوثائقي المتعرج أي الذي لا يسير في خط واحد nonlinear. وكل هذه الأشكال الوثائقية أصبحت ممكنة حاليا، ليس فقط من خلال القدرة على استخدام الكومبيوتر ووسائل الاتصال عبر الانترنت عن طريق استخدام البرامج softwares  والتطبيقات applications، بل أيضا من خلال الاستخدام المتصاعد للانترنت كوسيط رئيسي في حياتنا اليومية. اليوم أصبح هناك الكثير والكثير من الشباب يشاهدون اشكالا جديدة من الأفلام الوثائقية عبر شبكة الانترنت، خاصة أولئك الذين ولدوا في عصر وسائل الاتصال الجديدة- (الذي يمكن أن نطلق عليه “عصر الرقمنة” Digital Age)- وه��ه الأشكال الجديدة للوثائقي بملامحها المميزة، لا تدفع صناع الأفلام الوثائقية من الشباب فقط إلى التفكير وتخيل وابتكار أشكال جديدة في أفلامهم الوثائقية، بل وأيضا تمكنهم من صنع هذه الأفلام في أشكال مختلفة.

يرى أوتشك أن مخرجي الأفلام الوثائقية الجدد هم النسخة المعاصرة من رواة القصص والحكايات الذين عرفهم العالم في الماضي الذين كانوا يدونون القصص الشفوية التي كانوا يسمعونها من رواة مجهولين. ومنذ بداية القرن العشرين أصبح مخرجو الأفلام الوثائقية يستخدمون الأجهزة السمعية البصرية لكتابة تلك القصص في لغة سمعية بصرية. وكما تضاءلت القصص المنقولة شفويا في عصرنا، وأصبح تدوين القصص يتم بصورة أكثر تقدما واحترافية، كذلك أصبحت الأفلام الوثائقية تعتمد على وسائل الاتصال الحديثة مثل الانترنت. وأصبح مخرجو الفيلم الوثائقي هم الرواة الجدد.
وبالعودة إلى تصور مانوفيتش في كتابه “لغة وسائل الاتصال الجديدة” نجد أنه يقرن الميديا الجديدة والوثائقي الحديث الذي يعتمد على تلك الوسائل الحديثة في التواصل والاتصال بتاريخ السينما حينما يقول:

“بعد مائة عام من ظهور السينما، أصبحت الوسائل السينمائية لرؤية العام، لتكثيف الزمن، لرواية قصة، للربط بين التجارب المختلفة، هي الوسائل الأساسية أمام مستخدمي أجهزة الكومبيوتر للتفاعل والتواصل معا وتبادل المعلومات الثقافية. وبهذا المعنى، حقق الكومبيوتر ما بشرت به السينما كلغة بصرية عالمية Espernto وهو هدف كان يشغل الكثير من السينمائيين والنقاد في العشرينيات الماضية، من جريفيث إلى فيرتوف. حقا اليوم أصبح هناك الملايين من مستخدمي الكومبيوتر يتواصلون مع بعضهم البعض عبر نفس صفحة الكومبيوتر (الويب)، ومقارنة مع السينما حيث يمكن لمعظم “المستخدمين” “فهم” اللغة السينمائية لكن يعجزون عن “التحدث” بها (أي صنع أفلامهم) تتوفر حاليا أمام مستخدمي الكومبيوتر لغة واحدة في “التخاطب”.  فهم يستطيعون إرسال الرسائل بالبريد الالكتروني، وترتيب الملفات واستخدام برامج كثيرة، بل والدخول إلى نوادي الدردشة وتبادل المعلومات بصورة فورية.. وهكذا”.

وثائقي الويب
سنتوقف قليلا هنا ببعض التفصيل أمام ما يعرف باسم “وثائقي الويب” أوWeb Documentary وتعريفه ببساطة أنه “الفيلم الذي يصنع خصيصا لكي يعرض من خلال شبكة الانترنت” سواء عبر ما يسمى بـ “المدونات” الشخصية”، أو عبر المواقع المختلفة، المتخصصة في التعريف بمناطق معينة في التاريخ والحاضر مثلا، أو المواقع العامة التي تخدم أغراضا متعددة. ووثائقي الويب يطلق عليه أيضا “الوثائقي التفاعلي” Interactive Documentary وإن كان “التفاعل” أصبح جزءً رئيسيا من أي فيلم من أفلام الويب.
خلال السنوات الأخيرة حدث تقدم كبير في مستوى هذا النوع من الوثائقي، الذي لاشك أنه سيحقق تقدما كبيرا في المستقبل القريب، بما يشبه تلك “الحالة” التجريبية التي صبغت العمل السينمائي في أوائل القرن العشرين بعد أن أصبحت السينما “أداة”- فنية- تعليمية- سياسية- وتثقيفية، فرضت نفسها على العالم وأصبحت جزءا من ثقافة المجتمعات التي كانت تكتفي قبل ذلك بـ “النصوص” و”الصور الثابتة”.

يستخدم صانع وثائقي الويب الإمكانيات التي يتيحها الانترنت مثل الوسائط المتعددة multimedia لكي يدخل في ثناياه الصور الفوتوغرافية والنصوص والخرائط والبيانات والأصوات المسجلة وصور الفيديو والتحريك والجرافيك وما يسمى بـ “الانفوجرافيك” أي الرسوم التي تصنع بواسطة برامج الكومبيوتر وتوضع عليها بيانات أو معلومات محددة، وهي الآن شائعة الاستخدام من قبل مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك. 

لقطة من فيلم الويب دوك “رحلة إلى نهاية الفحم”

الآن، لم يعد الفيلم الوثائقي كيانا مصمتا مصورا يخضع لرؤية أحادية مسبقة هي رؤية صانعه (مصوره/ مخرجه) ويسير في اتجاه واحد نحو نهاية محددة يتعين على المشاهد أن ينتظرها قبل أن يبدي رأيا في الفيلم أو يطرح أي تساؤلات حوله، غالبا مع ناقد يتولى تقديم الفيلم في أحد نوادي السينما المتخصصة، أو داخل قاعة الدرس في المدرسة أو الجامعة، أو حتى من خلال حلقات البحث الدراسية التي تقام لدراسة أنواع وتجارب محددة من الفيلم الوثائقي. لقد أصبح الوثائقي عملا “متعرجا” unlinear فيه الكثير من الانحناءات والوقفات التي تسمح للمتفرج/ المشاهد/ المستخدم/ الباحث، بالتوقف عند مفصل معين من مفاصل الفيلم هذه، لكي ينفذ إليها ويتعمق فيها ويطلع على ما تتيحه له من معلومات وصور جديدة، قبل أن يعود لمتابعة المشاهدة أي إلى السياق الاصلي. وهي عملية أكثر تركيبا ومتعة، من مجرد المشاهدة المصمتة – كما يمكن ان نطلق عليها. 
من الممكن الآن، ولو على نطاق محدود وفي صورة تجريبية، أن يتوقف المشاهد- المستخدم عند تلك الوقفات التي تقطع السياق الأحادي، والتي يختار بنفسه أيها يتعمق فيها أو يتوقف أمامها قبل مواصلة المشاهدة،  لكي يضيف ويعدل أو يدلي بدلوه فيما يشاهده ويتقدم بالاقتراحات. ومستقبلا نتوقع أن تصبح هذه “الممارسة” جزءا أساسيا من “وثائقي الويب”.

من الأفلام الشهيرة التي أتاحت فرصة التواصل الحي مع المادة الصورة، الفيلم الفرنسي “رحلة إلى نهاية الفحم” Journey to the End of Coal (2008) وهو فيلم تفاعلي interactive  من أفلام الطريق يأخذ المتفرج إلى داخل مناجم الفحم في الصين، حيث يعمل الكثير من المهاجرين غير الشرعيين، يعرضون حياتهم للخطر حيث يعملون في ظل ظروف غير إنسانية مما أدى الى وقوع الكثير من الكوارث اهتمت بها أجهزة الإعلام خلال السنوات القليلة الماضية. يستخدم مخرجا هذا الفيلم، وهما صمويل بولوندوف وأبيل سيجريتان، 300 صورة فوتوغرافية و3 ساعات من لقطات الفيديو، و10 ساعات من التسجيلات الصوتية التي تم تسجيها في الصين، لكن الأهم، أن الفيلم يتيح الفرصة للمشاهدين لأن يطرحوا الأسئلة على عمال المناجم، كما أن بامكانهم أيضا الحصول على مزيد من المعلومات على هيئة نصوص مكتوبة.

هناك مثال آخر يعد دليلا على الفيلم الحديث الذي يتجاوز مجرد “وثائقي الويب” ويعتبر “مشروعا مفتوحا” كما يسمى أي open project يستخدم الوسائط التفاعلية مع المتفرج والأشكال المختلفة لتقديم صورة تفصيلية لموضوعه، هو فيلم “وادي السجون” Prison Valley (2010) الذي صور في بلدة فيرموت بولاية كولورادو الأمريكية التي تعتمد اقتصاديا على 13 سجنا هناك. صاحب هذا الفيلم أو بالأحرى، “المشروع المفتوح”، هو الصحفي الفرنسي ديفيد دوفريسن Defrense والمصور الصحفي فيليب برول، وهما يستخدمان أشكالا متعددة مثل الوثائقي التليفزيوني ووثائقي الويب (بتكوينه وتركيبه الذي شرحناه) وصفحات كتاب، وبعض تطبيقات الآي فون (المحمول من انتاج شركة أبل)، وصورا من معرض في باريس. ويٌطلب من مشاهدي “وثائقي الويب” قبل أن يتمكنوا من مشاهدته، ضرورة التسجيل عبر موقع فيسبوك أو تويتر، أو يُطلب منهم إنشاء حساب على الموقع الالكتروني الخاص بالفيلم نفسه. ويسير الفيلم كما لو كان رحلة في الطريق تأخذك معها، ولكن من وقت الى آخر، يكون مطلوبا منك أن تنحرف عن المسار العادي للرحلة وتتوقف لكي تتعمق وتطلع على مزيد من المعلومات حول السجون الأمريكية وتحصل على بعض الأخبار والتقارير المتعلقة بالموضوع.

لم يتم حتى الآن تصميم أو عمل “وثائقي تفاعلي” interavtive documentary  مفتوح تماما، غير أن هناك بعض التجارب التي تسمح للمشاهدين برفع أفلامهم التي صوروها والإضافة الى القصة أي ادخال محتوى جديد من زاوية أخرى إليها. ويستخدم في هذه التجربة مثلا، فيلم “الرجل والكاميرا السينمائية” الذي أخرجه الروسي دزيجا فيرتوف عام 1929، وهو أحد اشهر الأفلام الوثائقية في تاريخ السينما، ويٌطلب من المستخدمين المشاركين في هذه التجربة من بلدان مختلفة حول العالم، المشاركة في تعديل أو تفسير الفيلم عن طريق إدخال ما يصورونه من شرائط فيديو على موقع الفيلم، وبهذه الطريقة تتم يوميا إعادة بناء الفيلم.
هذا النوع من التجارب وهي في بداياتها، لاشك أنها ستصبح بعد أن تنضج أكثر ومع مزيد من التقدم في تكنولوجيا الرقمنة والتفاعيلات، هي الشكل السائد في الوثائقي. لكن في الوقت الحالي، علينا أن نتوقف عند هذا الحد وننتظر حتى نرى!

مصادر الدراسة:

• Manocich, Lev (2001) – The Language of New Media, Cambridge, Massachusetts, USA, London, England, The MIT Press.

• Ersan Ocak: New Forms of Documentary-Filmmaking within New Media

• Inge de Leeuw, The 6 Most Innovative Interactive Web Documentaries

• Faye Ginsburg, Rethinking Documentary in the Digital Age.

• TESI DI LAUREA, Web Documentar, Documenting Reality in the Post- Media Age.

.


إعلان