الإبداع المضادّ وسياقات التحرُّر
جدلية الفيلم الوثائقي والسلطة: الإبداع المضادّ وسياقات التحرّر
د. وسيم القربي

يطرح موضوع “البنى السياسية وأثرها على صناعة الفيلم الوثائقي” مجموعة من التأملات التي تحيل إلى إشكاليات حاملة لالتباسات خاصة. البحث، في التوجيه الخفي للفيلم الوثائقي والقيود التي تكبله بضغوطات رقابية، يستجيب حتما لاحتياجات الزمن الثقافي في عالم متغيّر. يبدو الموضوع المقارب متشعّبا لكنّ إشكالياته لا تستقيم إلا بالبحث في زواياه التاريخية والسياسية والاجتماعية والجمالية من أجل محاولة رصد ذلك التموقع الذي جعل الفيلم الوثائقي في كثير من الأحيان بمثابة الصدام ونوعا من صراع القناعات حيث تحيل دلالاته الأيديولوجية في كثير من الأحيان إلى فضح السلطة عبر طرائق شتىّ. وبين توظيف الوثائقي كجنس خادم للإبداع وبين خطاب ثقافي حامل لمدلولات أيديولوجية في كثير من الأحيان، تلوح السلطة/الرقيب كحاجز يحاول حجز الوثائقي في سرادق تُبرز من خلالها حدود الحرية من أجل محاولة تفادي صور هذا الوسيط الإبداعي الذي أصبح يحتلّ بدوره سلطة مضادة من أجل كشف الحقيقة ونقل الواقع.
لطالما عانى الوثائقي من أجل تثبيت صورته كرافد داعم للإبداع، حيث انتهج العديد من المبدعين آليات فنية طوّرت خطابه وجعلت منه خصوصية تلعب دورا مزدوجا، غير أنّ الفيلم الوثائقي انخرط في كثير من الأحيان باعتباره “ناقلا للواقع” ومرصدا باحثا للكشف المباشر مما جعله مرتبطا ارتباطا وثيقا بالنظام السياسي. وعلى هذا الأساس، يمكن اعتبار الصور الوثائقية حقيقة محرجة ما جعلها في مواجهة مع الرقابة ومصطدمة في أغلب الأوقات بالقوانين المنظمة والتمويل والتوجيه الإنتاجي الخفي، لتلوح قطيعة أنتجت الفيلم الوثائقي كشكل من أشكال النضال وسط حلبة عالم متغيّر يخضع لصراع أيديولوجي مفتوح.
إنّ الفيلم الوثائقي هو نموذج من الثقافة المقموعة، غير أنّه استطاع أن يرسم لذاته موقعا متميّزا في السينما والتلفزيون وغيرها من الوسائط الاتصالية في ظلّ مواجهة مع السلطة المنظمة وطموح للوثيقة التائقة للحرية الفاعلة. فأين تبرز تمثلات السلطة؟ وعن أي رقابة نتحدث؟ هل الرقابة ضرورة؟ أم إنها بمثابة الحماية؟ وهل تحتاج الرقابة بدورها إلى رقابة؟ لماذا تلوح السلطة بمثابة العدوّ للفيلم الوثائقي؟ وهل يمكننا أن نطمح اليوم إلى إعادة الهيكلة المُنظّمة؟ أم إنّ الوثائقي لا يؤمن بزمن الوعود الزائفة؟
أسئلة من كمّ تُطرح وتجعل علائقية الفيلم الوثائقي والسلطة بمثابة الجدلية القائمة والإشكالية الراهنة.
1- علائقية الفيلم الوثائقي والسلطة:
تتأسّس خصوصية الفيلم الوثائقي من التباسات مفهومه وتطوّره طيلة حقبة من عصر الصورة، وعلى اعتبار أنّ أولى الصور السينمائية كانت وثائقية بامتياز قبل أن تشهد الصور الوثائقية تمرحلات أخرى خضعت للتطور التقني ومفاهيم اللغة السينمائية المحيّنة ومضامين الموضوعات المتناولة. وفي خضم تطورات الخطاب الثقافي لهذا الجنس الإبداعي الذي تموقع في صلب المشهد السمعي البصري، اعتمد غواة الوثيقة على الكاميرا كوسيلة للبحث عن الحقيقة في غياهب واقع مثّل مادّة الصورة عبر الاستئناس بالتخييل لتدعيمه. وبالتالي، كان وثائقي السينما والتلفزيون بمثابة محمل فاعل لطرح أسئلة حول الإنسانية محمّلا في مستحلبه بمواضيع سياسية تفوق الأجناس الإبداعية الأخرى وهو ما جعله عُرضة للسلطة والتسلّط.
أ- صورة السلطة:
اسم السلطة حسب “لسان العرب”(1) تبرز معالمه من فعل سلط، والسلاطة هي القهر، أما معجم “لاروس”(2) فيحيلنا إلى معنى القرار والتوجيه والإخضاع والقيادة. تتعدّد المفاهيم بغموض مفهومي يجعلنا نتبنّى خلال هذه الدراسة النظام السياسي كسلطة. وإذا كان مفهوم السلطة يميل بشدّة إلى السلبية فإنّ الأنظمة السياسية ارتبطت بالنقد والانتقاد في الغالب. وبالعودة إلى الصور الوثائقية، تجلّت صور السلطة في الفيلم الوثائقي بأشكال متعدّدة تمتاز بالتباعد والتلاقي. فكيف تمثّلت صور السلطة؟
يمكن أن نستخرج تمثلات السلطة في الفيلم الوثائقي عبر التوجهات التالية:
– الوثائقي كتوثيق لتاريخ السلطة: استنبتت العديد من الوثائقيات كنقل لصور الأساطيل الحربية خاصة من خلال التدخلات الاستعمارية للقوى العظمى، حيث كان الوثائقي بمثابة تسجيل لصور الحرب وبطولات الآخر. كما تُعتبر الأفلام الوثائقية التي تستعرض في التلفزيون خاصة بمثابة الكنز التاريخي، حيث تُعتبر الصور الموثقة لأزمة الثلاثينات أو للحرب العالمية بمثابة الإرث والتوثيق لتلك الفترة من تاريخ البشرية.
– الوثائقي في خدمة السلطة: استندت الأنظمة السياسية إلى الأفلام الوثائقية وعلى التلفزيون بصفة عامة للرفع من المعنويات الشعبية أو للحطّ منها وذلك كصيغة استثمار للصورة قصد شنّ حرب نفسية، وقد تمّ اعتماد هذه الوثائقيات خاصة من طرف النظام النازي من أجل الترهيب ونقل وقائع للحرب الموحشة.
– الوثائقي كتعرية للسلطة: لعلّ ما يميّز الفيلم الوثائقي هو ذلك المعنى الواقعي، وهو ما جعله يعتمد على خصوصيات جمالية وخطاب فكري يمتاز بالكشف والاكتشاف، فالآلة السينمائية وبالاستناد على الذاتية والموضوعية كشفت من خلال المواضيع المنتهجة موضوعات تهتمّ بالإيديولوجي والاقتصادي والاجتماعي من خلال التركيز على موضوعات أفرزت ضرورة جانبا نقديا فاضحا، مما جعل الفيلم الوثائقي بمثابة الجنس المحرج على اعتبار أنّه ينقل الواقع بحذافره مدجّجا في الآن ذاته برسائل مشفّرة وأخرى مباشرة في صميم التوجّهات السياسية للسلطة.
– الوثائقي في مواجهة السلطة: شكّل الفيلم الوثائقي عبر فترات حاسمة من القرن العشرين جدارا معارضا بصيغة مباشرة لتوجّهات السلطة، وهو ما يبرز خاصة من خلال الوثائقيات التي اهتمّت خاصّة بنقل وقائع الاحتجاجات العمّالية خاصّة في فترة الستينيات والسبعينيات حيث كانت المطالب الاجتماعية محورا بارزا لأفلام وثائقية وثّقت للوقائع ودعّمت ذلك الحراك. كلّ هذا جعل الصورة الوثائقية بمثابة المعارض الأبرز وهو ما أفرز مفهوم الوثائقي الملتزم والصورة النضالية خدمة للمجتمع. ترتسم الغاية من الفيلم الوثائقي من موقع “الإدماج الإيديولوجي لأهله عبر قداسات الفعل السينمائي التي تعمل على توجيه وعي الأفراد للإعتقاد في قيمة الإيديولوجيا المهيمنة، وقيمة الجهة الفارضة لها. على النقيض تكون الغاية من الفيلم الوثائقي من الموقع النقيض، فعلا لمواجهة الهيمنة ونقضها، واقتراح ما يسمح بتجاوز مرتكزاتها معرفيا وجماليا” (3).
إنّ الفيلم الوثائقي هو محمل بديهي لصورة السلطة باعتباره يشمل حتما مواضيع تنعكس خيالاتها كظلال للنظام السياسي باعتبار أنّ اليومي وتمثلات الفرد داخل مجتمع متحرّك يجعل من الفيلم الوثائقي بحثا عن جمالية منشودة بالإضافة إلى انصهاره في صلب وظائف متعدّدة منها الفنّية والاجتماعية والإيديولوجية. كلّ هذا جعل من صورة السلطة هوسا ومن الوثائقي صيغة لخلخلة الهروب وصيغة من صيغ المواجهة وسط مجال سينمائي وزمن سياسي معيّن.
تعدّدت مواضيع الفيلم الوثائقي وتوجّهاته، لكنّ ما يهمّنا في هذه الدراسة هو انتهاجنا للبحث في طيّات الوثائقي النضالي الذي يعبّر بطريقة أو بأخرى عن وجهة نظر سياسية، فالوثائقي الذي ارتبط بالبحث في الواقع تأثر بفترات شهدت مخاضا سياسيا من ذلك تأثّره بالثورة الروسية سنة 1917 التي أثمرت النشأة النظرية الفعلية للفيلم الوثائقي الاجتماعي والسياسي، كما أثّرت فترات تاريخية في الواجهة السياسية في إنعاش الوثائقي ومن ذلك أزمة 1929.
لئن خيّم النظام السياسي على قريحة المضمون في الفيلم الوثائقي، فإنّ السلطة خدمت دون قصد ذلك الحراك الفكري وهو ما جعلها خادما خفيّا لنظريات الفيلم الوثائقي لتتجسّد السلطة بالمفهوم الإيجابي.
ب- سلطة الصورة: المقاومة وأشكال النضال
يتموقع الفيلم الوثائقي كمحمل تجريبي استفاد من التطوّر التكنولوجي ممّا فعّل مضمونه وأسّس لمناهجه المفهومية انطلاقا من محاولات أب السينما الوثائقية “روبار فالاهرتي” الذي اعتمد الفيلم الوثائقي كمحمل للكشف والترحال من خلال فيلم “نانوك رجل الشمال” وهو ما أثار إشكالية الواقع والتمثيل، مرورا بـ “دزيقا فيرتوف” الذي صوّر مشاهد من الحرب وتنقّل في قطارات أوروبا، وصولا إلى صور “جون روش”. وبين الاكتشاف والترحال انزاح الفيلم الوثائقي في خانة الاجتماعي والسياسي حيث حملت الأفلام الطلائعية وأفلام 1968 الحركات العمالية ومشاهد الإضرابات في المصانع احتجاجا على تردّي الأوضاع الاجتماعية وهو ما أنعش الإنتاج الوثائقي. لقد ترجمت العديد من الأفلام الوثائقية بصيغة مباشرة نسقا إيديولوجيا بامتياز وهو ما جعل الصراع بين الصورة والسلطة قائما.
بالإضافة إلى دفع الحركات الاجتماعية، تأسست خصوصية الفيلم الوثائقي النضالي في إبراز المعالم الأساسية لحقوق الإنسان، ولئن اعتبرت السلطة أساس المجتمع ومصدر تنظيمه فإنّ الفيلم الوثائقي أفرز تكثيف إنتاجه سلطة في حدّ ذاتها وهو ما دفع بتغيير وظيفته من نقل صور الحرب إلى الانخراط في حرب الصور وارتسم بدوره في موقع إيديولوجي مستقلّ نسبيا لتحقيق وظيفة اجتماعية وفنية طوّرت بصيغة أو بأخرى علاقة السياسة بالتوثيق.
اتخذ موقع الفيلم الوثائقي الملتزم خلفيات اشتغال نضالية تهتمّ بقضايا لأشكال أخرى من الفيلم الوثائقي العلمي أو السياحي أو غيرها من الأشكال “المحايدة” الأخرى… وهو ما ثبّته بصيغة السلطة على السلطة، حيث نجح في إثارة القضايا وربحها، وهو ما رجّح صانعيه نحو البعد الذاتي ومن أبرز المواضيع التي تناولها الفيلم الوثائقي الملتزم يمكن أن نذكر:
– وقائع القهر السياسي:
ارتبط مفهوم الوثائقي الملتزم بصور الوقائع الحقوقية والاعتقالات السياسية، وهو ما جعله يتبنّى بصدد ذلك موقفا إبداعيا جعل العديد من الأفلام الوثائقية تدخل في خانة المنع، كما اكتست بعض الأفلام التي اهتمّت بالفلسطينية طابعا توثيقيا كسبيل لمقاومة السلطة الإسرائيلية كمواكبة نوعية لسلطة الصورة ومحاولة التأثير على الرأي العام في التلفزيون والمهرجانات السينمائية قصد تنوير الرأي العام بحقوقهم المشروعة ونقل الواقع البائس واعتداءات العدوّ.
– الحركات الاجتماعية:
مثّل نقل صور الحركات العمالية محورا رئيسيا لأفلام الستينيات والسبعينيات خاصة توازيا مع انتعاش الفكر اليساري الذي ارتبطت به السينما في العالم، ويمكن أن نذكر مجموعة من الأفلام الوثائقية التي كان لها الدور الفاعل في خلق هذا الحراك الاجتماعي مثل أفلام ميشال برولت وماريو روسبولي وجون روش…
كما نقلت الأفلام الوثائقية الملتزمة وقائع من الحياة التي قتلتها السلطة وهو ما جعل هذا الجنس يؤسس لاشتغالات إبداعية تجلّت في جانبها المأساوي.
– المرأة والطفولة:
انحاز مضمون الفيلم الوثائقي في مناسبات متعددة لموضوعات الجسد الأنثوي، حيث اشتغلت الأفلام الوثائقية على الجسد المقموع من خلال رصد رؤى واشتغالات مكثفة حول واقع المرأة لا سيّما في مجتمعات العالم الثالث. لقد تمّ صياغة موضوع المرأة والطفولة المهمّشة كموضوع مركزي لعدّة أفلام وثائقية ارتكزت على أساليب فنية متنوعة لتبني واقعا وموقفا من الإشكاليات كأساس لرؤية العالم.
– ذاكرة المغلوبين: صور من الماضي، ذاكرة جمعية وأخرى شعبية… هي صور انطبعت في العديد من الوثائقيات، حيث يلوح الفيلم الوثائقي بمثابة عودة في الزمن لزيارة بطولات وملاحم لذاكرة المغلوبين، حيث يمثّل الأرشيف الوثائقي وشهادات الماضي بمثابة إعادة إحياء قد يكون بصيغة تمجيد أو إهداء أو رفع مظلمة، ويمكن في هذا الإطار أن نسلّط الضوء على وثائقيات اهتمّت بثوريين قُمعوا سابقا ويمكن أن نذكر الأفلام التي صُوّرت حول الثوري الراحل “شي جيفارا” أو الزعيم “نيلسون مانديلا”.
– نقد الواقع الاقتصادي:
شكّل الواقع الاقتصادي محورا بارزا في مواضيع عدّة أفلام وثائقية ونجحت في تمريرها للجمهور التلفزيوني عدة قنوات كسبيل لنقد الواقع والسلطة وانخرط مبدعوها في نسق الإبداع الهادف للضغط وتبنّتها المعارضة السياسية لإسقاط خصومها، كما اهتمّت العديد من الأفلام الوثائقية بتناول منزلقات العولمة، وقد تموقع فيلم “جزيرة الأزهار” للمخرج البرازيلي “جورج فورتادو” على سبيل المثال في صلب نقد التفاوت الطبقي وتناوله من جانب إبداعي في نقد السلطة وانحيازه لإنسانية الإنسان حيث أبرز الفيلم بصورة موحشة أولوية الخنازير في اختيار ما بقي صالحا من الأكل في أكوام القمامة قبل أن يتمّ السماح للمتشرّدين بالدخول لجمع فتات يقتاتون منه.
لقد حقّق الفيلم الوثائقي قفزة مهمّة ونجح في تصليب تجربته عبر محاولات مبدعين غربيين بالأساس من أجل بسط نفوذ هذا الجنس الإبداعي في صلب المشهد السمعي البصري، ونجح في أن يصبح أداة هادفة للإبداع وللتجربة الإنسانية. تشكلت خصوصية هذا الجنس كنشاط تواصلي نضالي بالأساس عبر واجهاته المتعددة، كما استطاع أن يكون خادما في أغلب الأحيان لرصد القضايا الإنسانية عبر مراكمة مدونة مهمّة انتعشت موازاة مع الأحداث العالمية المهمة ووفقا لتطوّر تكنولوجي جنوني أرسى بالأفلام الوثائقية في خانة مهمّة من التعبيرات الإبداعية. لقد شكّلت الصورة في حدّ ذاتها مقاومة عبر أشكال نضالية مختلفة لعلّ من أبرزها الالتزام والجرأة ومحاولة السعي إلى الحقيقة وتجاوز الإيهام.
إنّ البحث الوثائقي في موضوعات حسّاسة تهدف إلى خدمة الإنسانية اتّخذ تارة طور المواجهة المباشرة عبر ردّة فعل المبدع الوثائقية وتارة منحى القطيعة وتارة أخرى نقد السلطة والمجتمع، كما سعى في أحيان أخرى غلى تفجير قنابل ذهنية لزعزعة الراي العام وفضح الممارسات إلا أنّ ذلك أدّى في أحيان كثيرة إلى معاقبة المبدعين لا سيّما في الديكتاتوريات المعروفة بقمعها أو من خلال تعطيل إنتاج الأفلام عبر ضغط ساهم في تقوقع المبدعين أو التخفيض في حدّة الفيلم الوثائقي. لكنّ العديد من المبدعين انتهجوا منهج الترميز باعتبارها بدائل لبناء رسالة الفيلم، وهو ما ساهم في انتعاش الطرائق الجمالية والخطاب الفكري المندلع لفكّ شفرات المنع، ليتأرجح الفيلم الوثائقي بين ترّهات السلبية وقوّة تأثيراته ويرزح بين الثورية والأمل.
ج- الرقابة والإبداع المضادّ:
الرقابة؟ أين؟ كيف؟ لماذا؟ هل تنحصر الرقابة على الإبداع عامة في دول العالم الثالث؟
ارتبط مفهوم الرقابة بالسلطة، حيث تعتبر الرقابة بمثابة المنع وتقييد الإبداع حسب ضوابط قانونية وقد تتجاوزه في كثير من الأحيان وهو ما يحيلنا إلى مفهوم الديمقراطية والحرّية ويطرح تساؤلات تتعلق بذلك.
الفيلم الوثائقي حسب “قاي قوثيي” هو بمثابة “سينما المفاوضة”(4)، حيث التجأ “أنطونيوني” إلى الاستعانة بشركة خاصة من أجل التصوير في الصين بمشاهد محدودة جدا في حين احتوى فيلمه في مجمله على حوارات تركّز كلها على هذا البلد الذي لا يسمح بالتصوير السرّي على أرضه بسبب قوانينه الصارمة، حيث يضيف “قوثيي”ٍ: “لم يكن من السهل أن يتحرّك في شارع تسينمن، لماذا هذه الصعوبة؟ لأنه كان يتصرّف مثل السارق”. لقد مثلت الصين طيلة حقبة من الزمن نظاما قاسيا باعتبار أنّ الأمور تنتسب إلى كلّ ما هو حضاري وثقافي ومعنوي وسياسي وبالتالي تصبح الكاميرا هناك بمثابة الجاسوس.
ولا يمكن حصر الرقابة في الدول الديكتاتورية فحسب باعتبار أنّ السينما الفرنسية على سبيل المثال شهدت بين سنتي 2006 و2007 إنتاج حوالي 1087 فيلما تمّ الترخيص لـ 87% في حين تمّ توجيه إنذار لأكثر من 5% على اعتبار أنها تخالف توجه سياستها الثقافية. (5)
عربيّا، لا يمكننا الحديث على واقع للفيلم الوثائقي على اعتبار النشأة الجنينية لمشهد سمعي بصري بصدد النموّ، لكن غياب السياسات الثقافية على اعتبار أنّ الثقافة في هذه الدول عادة ما ترتبط ارتباطا وثيقا بالإرادة السياسية. وفي ظلّ غياب أو فشل أغلب السياسات العربية في إنشاء مشروع وطني يُعنى باللحاق بركب الدول المتقدمة على المستوى السمعي البصري وتخصيص توجّه خاص للفيلم الوثائقي باستثناء بعض القنوات التي تخصّصت في الفيلم الوثائقي وخصّته بعناية بصدد إنتاج ثمارها، فإنّ أغلب التجارب الأخرى جعلت الفيلم الوثائقي ارتباطا بالإنتاجات القليلة الذي ينتجها المبدع المحلي، أو اعتمادا على وثائقيات أغلبها في شكل روبورتاجات ضعيفة من حيث التفكير والتجديد.
وفي هذا الإطار، نسلّط الضوء على التجربة التونسية على اعتبارها إحدى أولى الدول العربية التي شهدت استنبات الفنّ السينمائي بزيارة الأخوين لوميير مدينة تونس وتصوير أزقتها وأبوابها وأسواقها حيث اعتمد الفضاء التونسي كديكور لتجارب الآخر. كما تمّ تصوير الأساطيل الحربية الفرنسية في ميناء مدينة صفاقس خلال الغزو الإستعماري. فعليّا، بقي الإنتاج الوثائقي بصيغة محتشمة أو بصيغة تسييحية وفولكلورية إلى حين انبثاق الجامعة التونسية لنوادي السينما والجامعة التونسية للسينمائيين الهواة، حيث شكّل التوجه اليساري لمنخرطيها بمثابة النقلة الهامة في صلب التجربة التونسية على اعتبار أنها لم تتخلّص من طابع الهواية ولم تنكره بقدر ما خدمت الفكر المعارض سينمائيا.
ولئن عانت هذه الهياكل من القمع والضغط، فإنّها استطاعت أن تتحوّز على مكانة مُجلّة في مشهد السينما التونسية جاءت بصيغة معارضة لما يمارسه التلفزيون التونسي وإدارة السينما في صلب وزارة الثقافة من تهميش ولاوعي. حاول بعض المخرجين التونسيين عبر أفلا��هم الروائية طرح أفكار إيديولوجية على غرار بعض المخرجين أمثال رضا الباهي والنوري بوزيد والمنصف ذويب ومحمود بن محمود، غير أنّ الضغوطات التي مورست من طرف النظام خوّلت لهم الاعتماد على الرمز دون الدخول بشكل مباشر في عمق المعالجة السياسية، وهو ما دفع بالمخرج رضا الباهي على سبيل المثال إلى الالتجاء إلى المغرب لتصوير فيلمه “شمس الضباع” المنتقد لسياسة الدولة السياحية في فترة السبعينيات، كما تمّ منع عرض فيلمه القصير “عتبات ممنوعة” منذ سنة 1972 إلى حدود سنة 1992.
عمليّا، اقترنت السياسة الثقافية بتونس كأنموذج، حيث يمكن أن نصنّف الفيلم الوثائقي كهويّة للغائب من مدخلين أساسين ارتباطا بالتحول السياسي التاريخي وهو ما يبرز الارتباط الوثيق بين الإنتاج السينمائي والنظام السياسي:
– التضليل الإيديولوجي:
يبرز التضليل من خلال اعتماد السياسة الثقافية السينمائية وفق تعريف حميد تباتو “أنّ الإنتاج الفني المقصود هنا يبنى على أساس قوالب جاهزة تسطّح رؤية بعض المواضيع في اصلها، وتخرّب إيحاءاتها الإيجابية”(6)، وهو ما جعل المبدع مرتبطا برهانات مغدورة في ظاهرها حرية تعبير وفي باطنها خدمة للنظام من خلال الارتكاز عليها كنماذج لتبرير الحرية المزعومة. ترتكز البنى الثقافية على منهج سياسي يقرب للنظام البوليسي باعتبار أنّ سلطة الإشراف تشمل على هيكل في ظاهره دعم للسينما لكنّ مهمّته الأساسية كانت بالأساس توزيع أموال الدعم (التي من دونها لا يمكن إنجاز فيلم في تونس) على أساس الولاءات أو على أساس رقابة صارمة لا تمسّ النظام السياسي بقدر ما تنتهز صور الفيلم المنجز للتبرير. ولم تكتف الرقابة من تعطيل الإنتاج السينمائي مع تبخيس للفيلم الوثائقي على اعتبار خطورته بل إنّ المراقبة شملت بنى لا علاقة لها بالثقافة بتاتا لترسم الثقافة تحت وطأة المراقبة البوليسية. وبقي دعم الفيلم الوثائقي مناسبتيا باستثناء تخصيص دورة دعم كاملة لهذا الجنس في سبتمبر 2010 وتتعلق أساسا بالتراث غير أنّ نتائجها لم تعلن إلى اليوم.
لم يكن من الممكن على المبدع الذي يرتزق أساسا من إنتاجاته أن يواجه مباشرة توجهات السلطة الثقافية أو الشرطة الثقافية باعتبار اعتماد سياسات ديكتاتورية متعددة الدرجات تبدأ من الحرمان من أموال الدعم العامة مرورا إلى الحرمان من بطاقة الاحتراف (التي تشهد للمخرج أنّه مخرج) وصولا إلى عدم منح رخصة تصوير.
على مستوى الإنتاج الوثائقي التلفزيوني، لم يكن من الممكن لـ “مبدع”/ موظّف تابع للتلفزيون الرسمي الوحيد أن ينتج فيلما يستجيب لانتظارات إبداعية مواكبة لما شهدته مكانة الفيلم الوثائقي من تطوّر، كما يتطلب تصوير التلفزيونات الأجنبية على الأراضي التونسية المرور عبر وكالة الاتصال الخارجي التي لعبت دورا فاعلا في التغطية على النظام السياسي بتعلّة التخريب الأجنبي، حيث وصلت الأمور ذات يوم إلى حدّ عزل وزير داخلية سابق بسبب سماحه للقناة الفرنسية الثانية بتصوير فيلم وثائقي في أحد السجون التونسية وكشف كذبة حقوق الإنسان.
– الوعي التاريخي:
يمكن اعتبار أنّ الوعي التاريخي بالهمّ الوثائقي قد انطلق استنادا إلى شرط الحرية، وقد شهد المشهد السمعي البصري إبّان الثورة التونسية إنفجارا إبداعيا من خلال إنتاج وثائقيات تلفزيونية وسينمائية كثيفة اعتمادا على الحدث التاريخي من ناحية وتحرير الإنتاج بشكل جعل الوثائقي هو الآلية الأكثر نجاعة لنقل صور مختلفة من واقع تونس الجديدة. الثورة ليست شرط الحرية بل إنّ الأهمّ هو الوعي بثورة عقول تحرّر الثقافة عامة وتمكّن الواقع من نقل تعبيري فاعل يبتعد عن آليات التضليل ويضع الصورة في إطار الكشف من أجل الإصلاح عبر منهجية قبول النقد والتعرّض لسهام انتقاد تهدف إلى الترميم.
الوعي التاريخي هو وعي بالديمقراطية لكنه بالأساس تأسيس لاشتغال وتعبير عن قلق الوجود وفق آليات فنية تهدف لخدمة الفنّ والمجتمع، لكن ذلك يبقى مرتبطا بسياقات تحرّر.
2- سياقات التحرّر في عالم متغيّر:
أ- الإرث والتجديد:
قد تكون ثقافتنا الوثائقية وريثة البؤس والسلبية، لكن الأساسي اليوم هو إيلاء الصورة الوثائقية ما تستحق باعتبار أنّنا كل ما سعينا للتوثيق كلما حافظنا على الذاكرة لأجيالنا القادمة. لا يمكن أن ننكر أننا ورثنا مدونة وثائقية ضعيفة مقارنة بالعالم الغربي، ومعلوم أنّ الفيلم الوثائقي نقل وكشف ومن البديهي أن يرتبط الواقع على جانب نقدي يجعل منه تواصلا بين الذات والآخر.
علائقية الوثائقي بالسلطة أو العكس، هي الإشكالية المفتاح التي تسمح بتجاوز تداعيات الإنهيار وتفادي سلّم السقوط في متاهات العداوة. لماذا نعتبر الحقيقة مجازفة؟ لماذا نرسم الوثائقي عدوّا؟ لماذا نعتبر السلطة سلطة؟ أليس من الممكن خلق توافق بين هذا وذاك؟ هل من الممكن بناء ثقة نقدية هنا وهناك؟ أم أنّ ذلك من ضرب المستحيل؟
ليس من الضروري الإدلاء بأجوبة جازمة، بل إنّ نظر الواقع العربي إلى الواقع الغربي أصبح اليوم ضرورة من أجل التقدّم وتجاوز عقلية الهروب إلى الأمام. وإذ نعتبر الحلقة النقاشية تتطلب خطوة إلى الخلف من أجل إعادة قراءة التاريخ ومحاولة التفرّد استئناسا بإنتاجات القرن العشرين في العالم الغربي عوض الاقتباس ومحاولة إلباسها قالبا ذاتيا.
الإرث الوثائقي هو إنتاج قليل في ظلّ ما يتطلبه الزمن الراهن باعتبار أنّ زمن التوجيه من المفروض أن يكون مضى لينبثق فجر المواجهة.
الانتصار والهزيمة هي عقلية منتجة للعداوة، ولعلّه من الضروري الانصراف نحو التجديد الفاعل من أجل خدمة الذات في ظلّ تحديات زمن العولمة حيث أصبحت الصورة بمثابة سلاح ذو حدّين: سلاح يبخّس وآخر يضخّم ويصنع التاريخ.
الإبداع والإبداع المضادّ هما مصطلحان ينطبقان بصيغتين مختلفتين على الفيلم الوثائقي والسلطة، فبالنسبة للفيلم الوثائقي يمكن اعتباره إبداعا ومساحة تواصلية وإبداعا مضادّا للسلطة وللإنتاجات السلبية، أمّا بالنسبة للسلطة فإنّ إبداعها ارتسم في قمع الفيلم الوثائقي وهو ما يمكن اعتباره إبداعا مضادّا للإبداع نفسه. قد تتشابك المصطلحات، غير أنّ العالم المتغيّر وزئبقية الهوية تجعل أنّ التجديد أصبح ضرورة ملحّة من أجل تجاوز مفهوم الوعي بالهزيمة وتحويله إلى انتصار من أجل تحقيق الفاعلية الإبداعية.
ولعلّ منطلقات محو سوابق الماضي هو نقد الإنتاج الوثائقي في حدّ ذاته ونقد السلطة وتأسيس بيداغوجيا للنقد الجديد عبر رسم مرتكزات للحساسية الجديدة والخروج ببدائل تخدم رهانات الواقع.
شئنا أم أبينا فإنّ الرقابة حملت في جغرافيتها إيجابيات جعلت من المنع والتوق جمالية إحساس خاصة وساهمت في الدفع بمبدعي الغرب خاصة إلى إنتاج أعمال راسخة، كما خدمت الرقابة السينما الإيرانية لتأسيس منهج وخصوصية فكرية بالإضافة إلى وثائقيات أمريكا اللاتينية التي تعتبر مرجعا إلى حدود اليوم وخاصة في بلدان مثل الشيلي والأرجنتين… ليبرز سؤال ما هي قيمة وثائقيات تكشف الحقيقة عارية وبسهولة تامة؟ قد تكون هذه الوثائقيات مبهرة في بادئ الأمر على غرار وثائقيات الثورة التونسية، لكن هل أنّ غياب الرقابة يمسح تلك المسحة الجمالية وينقص من وزن الموضوع؟
إنّ الرقابة في هذا العالم المتغيّر هي ارتباط بالديمقراطية، ومن بين الديمقراطيات الناشئة يمكن أن نذكر بلدان الربيع العربي التي تصطدم فيها الحريات بواقع جديد.
إنّ الإبداع المضادّ الذي نطمح إليه اليوم هو بالأساس تأسيس لجماليات جديدة وتصوير لحساسية محدّثة قد تتماشى مع رقابة منظّمة بقصد الحماية وتطبيق القانون المحيّن دون أن تحدّ أو تعرقل إنتاج هذا الإبداع. قد تتجسّم هذه الرقابة بشكل معنوي يعوّض المقصّ التعسفي ويفوّض الرقابة لذائقة الجمهور الذي يمكن له أن يزيح الحصانة عن المبدع وأن يؤسس لمنهج شعبوي ديمقراطي يشكّل محكمة للذوق العام باعتبار أنّ “الجمهور يشكّل رقابة معنوية تظهر سلطتها في أماكن العرض(…) وهو الذي يمكن أن يحكم بحيادية تصل إلى المقاطعة أو الاستحسان” (7)، وبالتالي يمكن أن يكتشف إن كان الفيلم الوثائقي وثيقة حرّة بعيدا عن التوجيه الخفيّ لأموال الدعم المحلية أو الأجنبية أو لإملاءات قمعية.
إنّ تجديد الالتزام وإعادة بناء علاقة جديدة بين الوثائقي والسلطة أصبح مطلبا لمقاومة الإيديولوجيا الخفية في عالم متغيّر، غير أنّ السؤال الذي يبقى مطروحا هو سؤال الممكن.
ب- رهانات الالتزام واستراتيجيات إعادة الهيكلة:
لقد ارتبط تطوّر المشهد السمعي البصري في الدول المتقدّمة بتوجهات خدمت إبداعيته بشكل بعيد عن التنظير والوعود الزائفة، فتطوّر الفيلم الوثائقي جاء من حيث الشكل والمضمون مواكبة للتحولات الديمقراطية وتأسيس عدّة اتجاهات مؤسسة لهذا الجنس. التزم الفيلم الوثائقي فانتعشت الكتابة وانتعشت الصور وهو ما جعل الزخم الإبداعي يغطّي بعض الإشكالات وهو ما ساهم في خلق حركية إبداعية تفصل بين الوثائقي والنظام السياسي على مستوى الشكل وترسم حرية مطلقة على مستوى المضمون.
إنّ رهانات الالتزام بقضايانا في بلداننا العربية أصبح اليوم بمثابة الضرورة التاريخية من أجل القطع مع الإيديولوجيا المهيمنة ومصالحة بين الوثائقي والجهات الرسمية وتفعيل حرية الوثيقة بعيدا عن التمجيد والدعايات الرسمية للأطروحات السياسية والأساسي هو نسيان منطق الهيمنة أو السوقية أو التبرير وبالتالي محاولة إرساء سياسة ثقافية واجتماعية تتناسب مع شرط الوعي بالنسبة للنظام والمبدع معا.
على هذا الأساس فإنّ السجال بين الوثائقي والسلطة يطرح مجموعة من النقاط التي تتطلب إعادة قراءة وهيكلة من أجل الخروج من الانتكاس الذي تشهده أفلامنا الوثائقية ويمكن أن نذكر النقاط التالية:
– التكوين:
إلى حدود اليوم، لم يتمّ تخصيص معاهد متخصّصة في الفيلم الوثائقي في أرضنا، على اعتبار أنّ سوق الذوق الجماهيري أصبحت تطلب هذا الجنس بمختلف أنواعه (السينمائي، التلفزيوني، وثائقي الواب…). لقد أصبح من الضروري الخروج من التبعية الثقافية ومن الغزو الأجنبي على أراضينا لا تبقى نظرته نظرة الغريب أو نظرة الإنبهار المعكوس، فقضايانا وهمّنا الجمالي أصبح من الضروري أن يؤسس لنظرة الذات بكفاءات محلية تكسر طوق التبعية وتقوم بمحاولة تكوين جيل في المجال الوثائقي لا يرتبط باللغة السينمائية فحسب بل بطرق معالجة المواضيع واقتناصها. كما أصبح من الضروري أن تنتج تلفزيوناتنا أفلاما هادفة تبتعد عن العشوائية وترتبط بدورها بمراجع محلية حيث يعدّ كتاب الجزيرة الوثائقي بمثابة المرجع الوحيد الذي حافظ على انتظام إصداره بالإضافة إلى إجراء دورات تدريبية مع الخبراء في المجال من أجل تحيين وتطوير المعارف.
– البنية التحتية:
لا تشمل بلداننا على بنية تحتية تناسب التطور الحاصل مقارنة بالدول الأخرى حيث تراجع عدد قاعات السينما في دولة مثل تونس من حوالي 150 في الستينيات إلى أقلّ من 10 قاعات فاعلة اليوم غير مواكبة للتقنيات الحديثة التي تتطلبها العروض.
أما على مستوى التلفزيون فإنّ البنية التحتية في العالم العربي بقيت في أغلبها تطمح إلى التجاري بعيدا عن الالتزام بالبحث والتجديد.
– الهياكل الإدارية والقوانين المنظمة:
إذا كان من الضروري الاقتداء بالتنظيمات التشريعات من أجل تنظيم القطاع السمعي البصري، فإنّه من الضروري اليوم أن يتمّ تحيين هذه القوانين التي تجاوزت في بعض البلدان صلوحيتها أو تجاوزت صلوحيّاتها، وهو ما يجعل هذه الهياكل بمثابة الرقيب التابع لجهاز السلطة، في حين أنه من المفروض أن تكون بمثابة الجهاز الثقافي المستقلّ والذي لا يطمح إلى القطع بقدر ما يخدم تنظيم القطاع، وهو ما ينطبق على الهيئات العليا للسمعي البصري على سبيل المثال.
كلّ هذا يتطلب وعيا من المسؤول وذلك بتحيين الهياكل وإعادة قراءة للواقع الثقافي وتفعيل الحوار وعقد لقاءات تشاورية مع المبدع.
– التمويل:
قد يكون من المبالغة أن نصنّف التمويل في خانة التوجيه الخفيّ إلا أنّ ذلك ينطبق علينا بشدّة على اعتبار أنّ التمويل الأجنبي لا يخدم ضرورة صورة البلد، بل يحاول في أغلب الأحيان خدمة أهداف خفية تكون إيديولوجية بالأساس، بالإضافة إلى جعل صورتنا فولكلورية عبر نظرة أخرى من الخارج، ويمكن أن نذكر في هذا الإطار أنّ 80% تقريبا من الأفلام التونسية هي أفلام مدعومة من الدول الأوروبية بصيغة الإنتاج المشترك.
يبقى السؤال مطروحا في هذا الإطار هل يمكن إنشاء صندوق موحّد للتمويل؟
– الحرية:
يمكن اعتبار الحرية بمثابة الشرط الإبداعي من أجل الغوص في نقل صور الواقع دون استعمال مساحيق مبرّئة، وهو ما سيحقق إضافة ونقلة مهمّة في الخطاب الفكري في مجالنا على اعتبار أنّ الإبداع يولد من حرية الأفكار.
– التأسيس الفاعل للرؤية الجمالية:
الإنشغال الكثيف بالقضايا الراهنة وبالوضع الإنساني عامة عبر تأسيس رؤية جمالية خاصة تعيد للهامش مكانته في الصورة على الأقل، وهو ما يتطلب نظرة فكرية ثاقبة عبر مكونات جمالية محيّنة تكون بمثابة إبدالات إبداعية تسمو إلى النضج.
– صدق الموقف الفنّي:
إنّ قلق الهوية وبؤس الصورة الوثائقية لا يتطلب رهانا من طرف النظام فحسب، بل إنّ المسؤولية ترتبط أيضا بالمبدع في حدّ ذاته وهو المطالب بخلخلة الزيف ومحاولة فرض أبعاد متقدّمة وصادقة. بالإضافة إلى ذلك فإنّ التخصيب من تجارب الجيل المؤسس يفرز حتمية الإنصات والتأويل وتحقيق امتداد جديد وهو ما سيسمح بإنتاج الوثائقي الجديد.
تتأسس خصوصية الفيلم الوثائقي من كونه جنسا إبداعيا متفرّدا يرتبط بمنظور السلطة عبر حتمية البحث في الواقع وكشف الحقيقة من أجل تحقيق فاعليته الإبداعية. استطاع الغرب أن يستفيد من توازي الثورة الصناعية والفكرية من أجل تصليب تجربة مهمّة دعّمتها السياقات التاريخية والثقافية، حيث استطاع الفيلم الوثائقي هناك أن يخطّ معاني عديدة ويبلغ ذروته بفضل تمرّس السياسة الثقافية وإيلاء الفنّ بصفة عامة مكانة عالية في صلب التصورات السياسية.
أما على المستوى العربي، فإنّ ما يعرقل نموّ الوثائقي يرجع أساسا إلى جنينية نشأة الصورة وعدم انفتاحه على معاني سامية بسبب الإكراهات والعوائق التي رسّختها العقليات المتكلّسة والعلاقات الإنتهازية. إنّ ما يميّز التجارب الفنية في الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال، هو بروز دورها من خلال ارتكازها على ربط الفيلم الوثائقي بالوظيفة الإنسانية والسياسية، ولعل تلك التجارب الرائدة تجعلنا اليوم في حلبة صراع عبر الصورة وهو ما يفرض إعادة القراءة من أجل تجديد مفهوم الالتزام وتحقيق الاتزان عبر سياقات تحرّرية يتحمّل مسؤوليتها المبدع والسلطة باعتبار أنّ الشريط الوثائقي ينتمي إلى حقل الفنّ مما يعني أنه “لا يبرز كعلاقة محايدة ومستقلة، ومعزولة عن الواقع، بل يتحقق باعتبار وظيفته الاجتماعية ضمن حقل الصراع السياسي. أي أنّ الفنّ في وجوده الاجتماعي، كالفكر ليس جوهرا مستقلا، بل علاقة تناقض في صراع إيديولوجي”(8).
ولعلّ ما نتخلّص إليه هو أنّ الشريط الوثائقي هو إبداع نتاج علاقة إنتاج تحكمها وظيفة اجتماعية ضمن سياق سياسي وتحيل إلى بعد إنساني وهو ما يجعلنا اليوم أمام حتمية تحمّل المسؤولية التاريخية.
—————————————————————————
الهوامش:
* أستاذ جامعي بالمدرسة العليا للسمعي البصري والسينما بقمرت/ تونس
wassimkorbi@yahoo.fr
(1) محمد بن مكرم بن منظور الافريقي المصري جمال الدين أبو الفضل، لسان العرب، دار صادر، بيروت، 2003
(2) www.larousse.fr
(3) حميد تباتو وآخرون، الجمالي والإيديولوجي في السينما المغاربية، كتاب جماعي، منشورات نادي إيموزار، الإصدار السادس، المغرب، 2012، ص13
(4) Guy Gauthier, Géographie sentimentale du documentaire, L’Harmattan, Paris, 2010, P118
(5) Revue de l’association des bibliothécaires, Numéro 41/42, France, Décembre 2008, P60
(6) حميد تباتو، رهانات السينما المغربية: الفاعلية الإبداعية وتاصيل المتخيل، نات للطباعة، المغرب، 2006، ص115
(7) Youssef Ait Hammou, Cinéma et oralité, papeterie El Watnya, Maroc, 2011, p123
(8) حميد تباتو، رهانات السينما المغربية، مذكور، ص107