الوثائقي والنظم السياسية: بين التوثيق والدعاية

الفيلم الوثائقي والنظم السياسية: بين أولوية التوثيق ومأزق الدعاية

كريم بابا

صادف إعدادي لهذه الدراسة وقوع حدث هام مع نهاية سنة 2014، يحمل دلالة واضحة على التداخل الدائم بين الإبداع عموما والتصورات الفكرية والإيديولوجية والسياسية للحكم في العالم عامة، وفي الولايات المتحدة الأمريكية بشكل بارز، من خلال شركاتها السينمائية المعروفة، أبرزها واجهتها في الصناعة السينمائية “هوليوود”.
وفيما يلي نص الخبر نورده لاحتوائه على عناصر مهمة في سياق حديثنا عن علاقة النظم السياسية بالسينما عموما، والوثائقي بشكل خاص:
(توعّد الرئيس الأميركي باراك أوباما الجمعة بأن تَـرُدَّ بلادُه على هجوم إلكتروني مدمر على شركة “سوني بيكتشرز” والذي اتُّهمت حكومة كوريا الشمالية بالقيام به، في حين نفت “بيونغ يانغ” أي مسؤولية عن هذا الهجوم.
وأضاف أوباما – في مؤتمر صحفي – أن الهجوم سبب أضرارا كثيرة لـ”سوني”، غير أنه اعتبر أن الشركة ارتكبت خطأ بإلغاء ببثّ الفيلم الكوميدي “المقابلة” (The interview)  الذي يتناول عملية اغتيال خيالية للزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون.
وأضاف الرئيس الأميركي “سنرد بطريقة مناسبة، وسنرد في المكان والوقت وبالأسلوب الذي نختاره“. وأشار إلى أن كوريا الشمالية تصرفت – في ما يبدو- بمفردها في هذا الهجوم، وقال إن بلاده تباشر مشاورات مع كل من اليابان والصين وكوريا الجنوبية وروسيا لطلب مساعدتها في لجم كوريا الشمالية). 

 
إن المتأمل في الخبر يقف على ملاحظات أساسية، لا بأس من الاستهلال بها، وهي كما يلي:
– “الهجوم” الإلكتروني المدمر، إن تبث منفذه، على شركة «Sony picture» كان بسبب بث هذه الأخيرة لفيلم.
– إلغاء شركة «Sony picture» بث الفيلم الأمريكي “المقابلة” «The interview» كان خوفا من آثار مالية أكبر في حال عرضه.
–  موضوع الفيلم هو قصة خيالية تصور محاولة اغتيال رئيس كوريا الشمالية.
–  سبَّبَ الهجوم الإلكتروني على الشركة أضرار اقتصادية ومالية، وأخرى سياسية على الولايات المتحدة الأمريكية في إطار صراعها القديم مع كوريا الشيوعية.
–  التهديد المتبادل بين دولتين ذواتي أولويات عسكرية واضحة.

إن هذا المثال المذكور، يجعلنا لا نتردد في الجزم منذ البداية بارتباط السينما منذ ظهورها بالمؤسسة الرسمية، خاصة الجنس الوثائقي، وذلك لعدة أسباب، أهمها انتشار الأنظمة الشمولية والعسكرية التي من طبيعتها الحرص والتثبت، والتي تولي أهمية كبرى للوثيقة باعتبارها عربون مصداقيتها مادامت بعيدة عن العيون والآذان، وبسبب انحصار كل مصادر الخبر والمعلومة في يد السلطات الرسمية، وضيق وسائل ترويجها ونشرها، باستثناء البقع الضيقة التي كانت تنشأ في مجالات وحدود مدنية ضيقة بالحواضر الكبرى، في مرحلة الورق ودعامتيه الوحيدتين حينها: الصحف والمنشورات. وما يؤكد هذا الأمر هو أنه عندما “أنشئ مكتب الاستعلامات الحربية في شهر يونيو العام 1942، أصدرت الحكومة الأمريكية دليلا موجها إلى هوليوود يضم أنواع الموضوعات التي يمكن أن تخدم المجهود القومي، وإذ صنفت صناعة الأفلام على أنها “صناعة حربية رئيسية”.
صحيح أن الفن السابع انطلق مع الأخويين لوميير، إلا أن ذلك يبقى لبنة أولى وبداية جنينية لم تحقق حينها الانتشار الواسع الذي يجعل من جهاز الكاميرا يصل لأكبر عدد ممكن من العاملين في حقل فني جديد، بسبب ضعف وتيرة الإنتاج التي يمكنها صناعة وتوزيع أدوات الصناعة السينمائية، مع التأكيد على أن ما قام به الأخوان تبقى تجربة شخصية ونتيجة عمل فردي وعائلي، شكل، بدون شك، رأس مال حقيقيا لكل الإنجازات والأدوات التقنية في المجال السمعي- البصري في مراحل تالية، أو التي تسمى بمرحلة “الكابل” و”التناظرية” «Analogique» فيما بعد، وصولا إلى الطفرة الرقمية الحالية.

ويصعب حصر أهداف السينما في مجالات محددة ومعدودة، إذ تتجاوز غرض الترفيه والتثقيف وتقديم فرجات بصرية، لتمتدّ إلى غايات أخرى سوسيولوجية ونفسية صرفة، إضافة إلى استثمارها في الإعلان، والتوجيه العام، والدعاية، وغيرها من الأهداف التي لا يمكن حصرها في المجالات الثلاثة: الاجتماعية، والدينية، والسياسية، إذ تلعب السينما دوراً حاسما في ترتيب أولويات الحياة الاجتماعية بلغةٍ قوامها فهمٌ مشترك، وبأدواتٍ أكثر نفاذا وفاعلية في تشكيل فكر ووجدان الجماهير، لذلك فالسينما كانت، ولا زالت، وسيلة فاعلة في نشر القيم الإنسانية والتأثير في السلوك الاجتماعي بما يخدم “الأجندة” السياسية للأنظمة الحاكمة.
ويدفعنا الحديث عن علاقة السينما بالنظم السياسية إلى استحضار عنصر مهم في هذا الموضوع وهو المرجعية الفكرية لصانع الفيلم الوثائقي مثلا، ومدى مطابقة المادة السينمائية الوثائقية للواقع، لأن في “الفيلم التسجيلي، الذي تبدو صوره للمتفرج كعلامات أيقونية حاضرة مباشرة من الواقع، فإن المؤلف موجود، حتى لو اختفى في لغز الصورة،  لكنه يبقى حاضراً بالفعل”.  وهو وجود ذهني وفلسفي مشروع لمالك المنتوج الإبداعي في أي جنس أو حقل أدبي أو فني، على اعتبار أن المنتج/الإنسان لا يمكن أن يتجرد من ثقافته وفكره الذين تشربهما في محيطه الاجتماعي، لكن، تبقى هناك ضوابط وأعراف أخلاقية وقيمية سامية تشترك فيها البشرية عامة، وأخرى خاصة بالإنتاج السينمائي، تجعل الفيلم “ينضبط” للشروط الجمالية المعروفة بين صناع هذا النوع من الإبداع، وألا يتجاوز حدود الفعل الإبداعي الذي يروم الرفع من ذوق الإنسان والرقي بمعنى وجوده الإنساني.

ويزداد الأمر التباسا لدى مشاهد الفيلم الوثائقي ويدفعه إلى التساؤل عن قوة الذاكرة الإنسانية، عند مقارنة الأرشيف البصري الذي يشاهده عبر مختلف الوسائط والدعامات التقنية، بالحاضر والواقع الذي يرتبط لديه بمفهوم “الحقيقة” المقدسة، وهو أمر يغيب في السينما الروائية، بحكم اعتمادها على الخيال في بينتها السردية. ومن هنا فإن السينما الوثائقية ترافق التحول المجتمعي باعتباره رجع صدى الصدمات السياسية من جهة أولى، وقدرته الكبيرة على التوثيق من جهة ثانية، دون نسيان اللغة السينمائية البصرية، التي تعتمد بشكل أساسي على الصورة، التي “جمعت كل خصال الوثيقة الدامغة واحتلت الصدارة وعُدت “النص- الوثيقة” الأكثر دقة وأمانة في نظام النصوص، باعتراف الخبراء الجنائيين والمؤرخين، إلا أن مجيء اختراع السينما التقني، كصور فوتوغرافية متحركة، جعلنا نعتقد بوجود البعد الثالث بحيث وصلت الدقة في نقل الواقع الى أعلي درجة من الكمال، لدرجة يُخيّل فيها للمشاهدين ويدفعهم الى الاعتقاد، بأن ما يشاهدونه على الشاشة هو حقيقي تماماً”.

الوثائقي في زمن الحرب
تعددت مواضيع الأفلام الوثائقية وتقاربت أشكال تناولها وصيغ مقاربتها حد التماهي، خاصة مع البدايات الأولى للسينما، عندما كان الفيلم الوثائقي، في مرحلة ما قبل الثورة الرقمية، في ملكية السلطة السياسية بشكل كبير. وكانت الأفلام التي اشتغلت على الموضوعات التاريخية  تعرف ردود فعل نقدية كبيرة، حول مصداقية مراجعها، خاصة في فترات الاضطراب وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، وقد “استخدَم جميع الأطراف المتحاربة التاريخ بوصفه أداة لحمل الدعاية السينمائية، ولكن لم يفعل أحد ذلك بقدر ما فعله الروس. ولقد كان أول فيلم روائي كبير في أثناء الحرب هو فيلم »الدفاع عن تساريتس «العام 1942 الذي دار حول فترة الحرب الأهلية”. 

  ولا يمكن للذاكرة السينمائية العالمية أن تنسى آلاف الساعات من الصور للحربين الكونيتين، التي سجلتهما الجيوش الغربية في صراعاتها الدموية، إذ “تمكّن المصورون السينمائيون السو?ييت العاملون للجرائد السينمائية من إنتاج مواد وموضوعات خلال أسبوع من بدء الغزو. وقبل أن يمضي وقت طويل كان هناك نحو 250 فردا منهم يقومون بالتصوير في الجبهات المختلفة، وفيما بين العام 1941 و1945 صُنِعت من المواد التي صوروها أكثر من 500 جريدة سينمائية إضافة إلى 120 فيلما تسجيليا”.  وما تلاهما من صراعات سياسية بين دول وجماعات قومية أرَّخت لمراحل دموية من القرن العشرين نتيجة الاستقطاب والتجاذب الرأسمالي – الاشتراكي، إلى أن أصبحت الأفلام التسجيلية مقترنة بالمواضيع النمطية والمكررة، بالمعنى الإيجابي،  مما جعل القنوات التلفزيونية، في المغرب مثلا، تبرمج الأفلام الوثائقية التي تصور الحروب الدامية بين المعسكرين التقليديين خارج أوقات ذروة المشاهدة، تاركة المجال للسينما الروائية «Fiction» وباقي الأشكال الدرامية الأخرى التي تُعرض تحت طلب الجمهور ووفق محددات قبلية مرتبطة بالخط التحريري لكل لقناة.

وفطن واضعو النظريات السياسية ومدبرو التدافع الفكري والسياسي، وجماعات الفعل الحزبي والمنظمات المدنية، بقيمة الصورة وأهميتها في إبلاغ الرسائل والمواقف السياسية للأعضاء والمنخرطين والرأي العام عموما، لاقتناع الأنظمة السياسية، بالدرجة الأولى، بقيمة الوثيقة البصرية والمنتوج السينمائي/الوثائقي في تحسين صورة الفاعل السياسي والمؤسسات المنوط بها تدبير الشأن العام، وكذا بالدور الذي يمكن أن تلعبه تلك الهيئات في توجيه سلوك الناس، وتعطيل قيمهم الاجتماعية المناقضة لمشاريعهم السياسية، من خلال تغيير السلوك السياسي (مشاركة – مقاطعة) من جهة، وقبل ذلك الموقف الإيديولوجي والفكري بما يتوافق مع برامج النظم الحاكمة من جهة ثانية. “فلم تعد الدعاية تقتصر على جمل أدبية أو كلمات منمّقة، بل تستفيد الدعاية السياسية والتجارية والأدبية حتى، من الصورة السينمائية التي تخضع بدورها إلى التطور الزمني في تقنياتها؛ من الأفيش السينمائي وصور مقدمات الأفلام، مروراً بالريبورتاج الوثائقي، إلى نظام الصورة ثلاثية الأبعاد”.

ومن تجارب الأنظمة الشرقية مع الفيلم الوثائقي، نجد أن التاريخ يسجل أيضا علاقة يطبعها الاستثمار الايجابي للفيلم الوثائقي من طرف النظام السياسي الإيراني مع بداية القرن العشرين. وحسب الباحثة فاطمة الصمادي، فإن “أول فيلم وثائقي إيراني إلى العام 1900 عندما أمر الشاه القاجاري مظفر الدين شاه المصور إبراهيم خان بشراء آلة تصوير سينمائي وتصوير مهرجان للورود كان يقام في باريس أثناء زيارته لها”. 
ويعد “بابا خان معتضدي أول مخرج إيراني يقدم فيلما وثائقيا وقد أكمل دراسته في فرنسا وعاد إلى إيران حاملا معه كاميرا “غامونت”، وجاءت أفلامه التي قدمها عام 1920 شبيهة بالأفلام الخبرية ركزت على الوقائع السياسية التي شهدتها ايران في تلك الفترة، إضافة إلى أفلام للعائلة المالكة وحفل تنصيب رضا شاه بهلوي عام 1920 وجلسات مجلس الشورى”.

“غوبلز” وتجميل النازية
عندما يذكر موضوع النازية وأسلحتها المتعددة يطفو على السطح “سلاح” أنتجه وزير الدعاية في عهد الظاهرة “أدولف هتلر”، “جوزيف غوبلز” صاحب المقولة الشهيرة “اكذب حتى يصدقك الناس”، وهو سلاح لخص مدرسة فريدة في صناعة الرأي العام جعلت من الخطابة ودغدغة عواطف الجماهير ومحاربة الهزيمة النفسية للمواطن/الجندي، وبث روح الحماس والثقة العمياء في المشروع السياسي والعسكري لحامله.
وتعكس الأفلام الوثائقية التي أنجزت حول الحروب الطويلة بين ألمانيا النازية ودول التحالف من جهة، والإتحاد السوفياتي من جهة ثانية، والتسجيلية التي صورت حركة الحزب النازي وسياساته الداخلية، الأولوية التي أولاها “غوبلز” للوثائق البصرية، رغم حداثة السينما حينها. فلم يكن “أدولف  هتلر ووزير دعايته جوزيف غوبلز من عشاق مشاهدة الأفلام فقط، إنما كانا يدركان تماما مدى أهمية  الفيلم  في تعبئة الجماهير وتأثيره عليهم. وكانت القيادة النازية العليا تراقب شخصيا الأفلام. كما كان “هتلر” يشاهد “الجريدة السينمائية” ويفرض التغييرات المناسبة قبل عرضها في الصالات، بينما كان “غوبلز” يتدخل بنفسه، حتى في اختيار ممثلي الأفلام ويغير من سيناريوهاتها. وكان إعجابه بأغنية الفيلم الثوري “المدرعة بوتيمكين”، بغض النظر عن محتواه الثوري، دافعا ليضعه كنموذج يُحتذى لما يجب أن تكون عليه جمالية الأفلام الفاشية”.

وبنفس الاهتمام والحرص الذين أولاهما “هتلر” النازية ورفيق دربه “غوبلز” للسينما عامة والوثائقي بشكل خاص، فألمانيا المعاصرة استثمرت الفن نفسه للترويج والتعريف بسياساتها الليبرالية والديمقراطية، فلم تكتفِ السينما المعاصرة في ألمانيا باستعراض قدراتها وتفوقها في مجالات متعددة، بل إنها “كابدت من أجل تحصين الذاكرة الفردية والجماعية من مخاطر  تقويض أشواق  الكرامة، أو الرجوع  بشعب نحو مأساة  شمولية الحكم وتوابعه الكارثية على الدولة والمجتمع”.  وتجلّت هذه المكابدة حاليا في منع أي عمل سينمائي، سواء كان وثائقيا أم روائيا، يشكك في المحرقة اليهودية “الهولوكست” مثلا، وهو خط أحمر تتفق عليه كل دول الاتحاد الأوروبي. فهل يتعارض هذا التحديد مع ما تتضمنّه بنود الاتفاقيات الدولية حول حقوق الإنسان أم لا؟

يحتاج الرأي العام الحديث، الذي تحيط به كل وسائل الاتصال والتواصل بنقرة زر “إلى فرص أعظم للحصول على الوسائل التي يستطيع بواسطتها أن يتعلم اتخاذ قراره، بدلا من أن يُـتَّخَذ هذا القرار له. ولا بد أن نتخلص من خرافة “القادرين على الوسوسة في العقول من مخابئهم” حتى نستطيع أن نتبين مقدار تأثيرهم في مدركاتنا ومفاهيمنا. ولا بد أن نركز على الرسالة، لا على الوسيط الذي ينقلها، ولكي نفعل هذا فإننا بحاجة إلى تعليم أكثر وأفضل عن كيفية عمل الوسيط وماذا تعنيه الرسالة”.
وللإنصاف، فالتاريخ الدموي للنازية، والرسائل الدعائية التي مرت عبر السينما الوثائقية، لا يمكنها أن تحجب شمس الحقيقة الساطعة لألمانيا الحديثة، إحدى القوى الاقتصادية الكبرى في العقود الاخيرة، وأن “السينما الألمانية، وثائقية أو روائية، تعد ذات باع طويل مع تخليد ملاحم مقاومة الديكتاتورية، أو كشف عورات الاستبداد وأنظمته الشمولية التي عانى منها الألمان على الحقبتين النازية أو الشيوعية، وهو ما يعني أن للسينما دورا طلائعيا في تثبيت ذاكرة الشعوب واستبقاء جذوة توقها المتجدد نحو الحرية”.

هوليوود في قلب الرأسمالية
وما يؤكد هذه الملاحظات هو طبيعة الدور الذي يلعبه الفيلم، في الدول الرائدة سينمائيا، في تشكيل المواقف السياسية الوطنية وخلق الإجماع الوطني حول قضايا ذات أولوية اجتماعية وسياسية خاصة بكل بلد على حدة، الذي يستثمر عطاء مبدعيه السينمائيين لنشر ثقافة سياسية معينة تتماشى وطبيعة النظام السياسي الحاكم. وفي هذا السياق نستحضر أولى وكبرى التجارب السينمائية العالمية، ونقصد هنا رمزية “هوليوود” التي تختصر حياة السينما الأمريكية، إذ تشكل صناعتها “مجالاً رحباً لعمل وكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية، وتعمل هوليوود للترويج للسياسة الخارجية الأمريكية من خلال أفلام تقدم الدعاية المباشرة لأجهزة التجسس الأمريكية، في دور لم يعد خافياً على المشاهدين لفرض سيطرة الوكالة على صناعة الترفيه في العالم. وظهر التعاون بين المؤسستين العسكرية والسينمائية منذ عام 1996عندما أعلنت وكالة الاستخبارات أنها أنشأت مكتبا للتنسيق بين الوكالة وعالم الترفيه، وتقديم خبرة المستشارين من عملاء الوكالة لصناع السينما”.

وساهمت الحرب الباردة أيضا في تكثيف عمليات الدعاية السياسية عن طريق الأفلام الوثائقية، إذ تشير المعطيات التاريخية أنه “في يوليو العام 1917 كُلِّف سلاح الإشارة بالجيش الأمريكي بأن يُكَوِّن وحدة لإنتاج الأفلام الرسمية، وعلى رغم أنها ربما تكون قد حققت شهرة أكبر في الحرب العالمية الثانية حينما تم تجنيد أفضل أبناء المهنة في هوليوود للخدمة فيها، فإن المصورين قليلي الخبرة التابع للجيش في العام 1917و1918 استطاعوا أن ينتجوا شرائط عدة من الأفلام التي تصور العمليات القتالية، أدمجت في العديد من الأفلام المجمعة والمصنفة التي أنتجتها لجنة الإعلام العامة، مثل: “إجابة أمريكا” 1918 و”مقاتلاتنا الملونة « في 1918 أيضا. وكانت الأفلام الرسمية أقل صراحة في صبغتها الدعائية من المنتجات التجارية التي أصدرتها صناعة السينما. وقد كانت موجهة لتلبية احتياجات عسكرية محددة (تجنيد الشباب ورفع المعنويات) وللإعلام والتعليم، ولكي تكون »سجلات «تاريخية”.

 
وبالمقابل، فقد استفاد الإنتاج السينمائي، أيضا، من الوثائق السياسية المختلفة، من خلال إعادة نشرها عبر الشاشة الكبرى أو عن طريق التلفزيون، فاستثمرها المنتجون في المرحلة الأولى لتجويد أعمالهم ومنحها قدرا كبيرا من المصداقية، وإدراكا منهم بالارتباط الوجداني للإنسان بالأشياء التي تتوقف نبضاتها، فيحصل “حنين” بسبب فقدانها، ومن ثم يعمل على استرجاعها ومنحها الحياة من جديد، على اعتبار أن السينما الوثائقية أداة من أدوات التوثيق والمعرفة في الآن نفسه، ووسيلة من الوسائل التعليمية الفعَّالة التي تهدف إلى ترويج المعلومة، وبالتالي تشكيل عادات المجتمع، وتقاليده، ومبادئه، وقيمه، ناهيك عن استخدامها وسيلة للتوجيه والإرشاد والتنوير الثقافي، وإثارة الرغبة في تحسين المستوى الاجتماعي والنمو المادي لدى المتلقي، وتحفيز القدرات الكامنة لدى المواطن.

ونستحضر في سياق الحديث عن استفادة المنتجين من “الذاكرة” الوثائقية تجربة المخرج الأمريكي الشهير “مايكل مور”، الذي استطاع بأعماله الوثائقية الضخمة منافسة الأعمال السينمائية الروائية في مسابقات الأوسكار، إحدى أعرق وأكبر التظاهرات والمسابقات السينمائية في العالم، عندما اختار الاشتغال على قضايا سياسية واقتصادية حساسة في الولايات المتحدة الأمريكية، ومناهضته للرأسمالية المتوحشة. ويؤكد هذا ما صرح به في حواره مع الإعلامية الأمريكية “ناؤمي كلاين”? حول موضوع فيلمه “الرأسمالية  قصة  حب”: “مجدت مفهوم أماكن العمل المدارة ديمقراطياً لأنها تمثل توجهاً وطنياً يلزمنا القيام به. ولذلك إذا كنت تؤمنين بالديمقراطية، فالديمقراطية ينبغي ألا تعني نشر صناديق الاقتراع وإجراء انتخابات كل سنتين أو أربع سنوات. ينبغي أن تكون الديمقراطية عملاً يومياً وجزءاً لا يتجزأ من حياتك اليومية”.

 
الهوامش:
 – الجزيرة نت، 20 دجنبر/كانون أول 2014.
 – فيليب تايلور: “قصف العقول، الدعاية للحرب منذ العالم القديم حتى العصر النووي”، ترجمة سامي خضبة، مجلة “عالم المعرفة”، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عدد 256، الكويت. ص 341.
 – قيس الزبيدي: “الإيديولوجيا والفيلم، مقدمة نظرية”، مجلة الجزيرة الوثائقية، عدد 01 أبريل 2010.
 – نفسه.
 – فيليب تايلور: “قصف ا��عقول، الدعاية للحرب منذ العالم القديم حتى العصر النووي”، مرجع سابق، ص 350.
 – نفسه، ص 349.
 – علي البزّاز: ” تأثير الريبورتاج الوثائقي والأفيش السينمائي على فن الدعاية”، 22 أبريل 2012.
 – فاطمة الصمادي: ” السينما الوثائقية الإيرانية بدأت سياسة وانتهت بها”، الجزيرة الوثائقية، 10  يناير 2010.
 – نفسه
 – قيس الزبيدي: “الإيديولوجيا والفيلم، مقدمة نظرية”، موقع الجزيرة الوثائقية، 01 أبريل 2010.
 – مرسل الكسيبي: “السينما الألمانية تطارد الشمولية”، موقع الجزيرة الوثائقية، الأربعاء 24 يونيو 2009.
  – فيليب تايلور: “قصف العقول، الدعاية للحرب منذ العالم القديم حتى العصر النووي”، مرجع سابق، ص 387.
 – باسل النيرب: “دور هوليوود في خدمة الاستخبارات الأمريكية”، جريدة “القدس العربي”، عدد 22 يناير 2014.
 – فيليب تايلور: “قصف العقول، الدعاية للحرب منذ العالم القديم حتى العصر النووي”، مرجع سابق، ص 280.
? – صحافية وكاتبة مقالات معروفة، ألفت كتباً عدة تصدرت قائمة صحيفة “نيويورك تايمز” لأفضل الكتب مبيعاً، ومن أبرز كتبها: “نهج الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث”، بتاريخ (سبتمبر/أيلول 2007).
 – ترجمة: محمد ابراهيم فقيري.
http://www.safsaf.org/11-2009/hiwarat/makeal-mour.htm


إعلان