في “الطوفان” الذي حذّر منه أميرالاي

في “الطّوفان” الذي حذّر منه أميرالاي: قراءة في فيلم “طوفان في بلاد البعث”

أحمد القاسمي

لقطة من فيلم”طوفان في بلاد البعث”

من المصادرات التي يتقاسمها الباحثون في الجماليات أنّ ما يمنح الأثر مشروعيّة الانتماء إلى الخطاب الفنّيّ مدى قدرته على الخلق والابتكار، بحيث يجسّد صورة لمنشئه مبدعًا طلائعيًّا مأخوذًا بما سيأتي مسكونًا بما سيتحقّق متجهًا أبدا إلى المستقبل. وعليه غدت قدرة الأثر على اختراق طبقات الزمن الكثيفة – بعيدا عن التهريج الشّكلاني المجانيّ – معيارا مهمّا لتحديد هذا الانتماء.
لقد فرضت هذه المصادرات اليوم نفسها بعمق، والفيلم الوثائقي يخوض معركته المظفرة في انتزاع الاعتراف بانتسابه إلى دائرة الفنون وإلى التعامل معه باعتباره أكثر من وثيقة تعمل على تسجيل الوقائع. وجعلتنا نطرح السؤال حول قدرة هذا النّمط السينمائي على أن يكون طلائعيّا.. لا يكتفي بالإخبار وإنما يتعدّاه إلى – النّظر والتّحقيق، والعلم بكيفيَّات الوقائع وأسبابِها العميقة واحتمالات مصائرها في المستقبل – ولعلّ الأمر يطرح بإلحاح أكبر في عالمنا العربي حيث تكون الصّورة مكبّلة محاصرة بنفوذ السّلطة السياسيّة التي تجد استمرارها في الخطابات المدحية التي تمجّد إنجازاتها وتصور ماضيها وراهنها على أنهما الجنّة التي لا مزيد بعدها ولا ترى في المستقبل غير استمرار للماضي المجيد وتنويع عليه. ولعلّ فيلم “طوفان في بلاد البعث”  لعمر أميرالاي أن يمثّل نموذجا جيّدا نسائله فنختبر من خلاله مدى مواجهة فيلم وثائقيّ عربيّ لهذه التّحديات، وإنّ كنّا نسلّم سلفا أنّ عيّنتنا لا تمثّل غير تجربة مفردة لا يمكن لها بأي حال أن تمتلك قدرة تمثيليّة فتسحب نتائجها على الوثائقي عامّة..
لقد عمل المخرج على تصوير وجوه من الحياة اليوميّة لقرية الماشي الواقعة في حوض الفرات ونفوذ عائلة ذياب الماشي من خلالها. فقدّرنا أن نبحث في خصائص إنشائه وما يمنح المتفرّج من اتجاهات في التّأويل.

1-في الصّورة المركّبة: تجاذبات بين الوجه والقفا
أ) ° تكوين اللّقطة والعمل على مغافلة الرّقيب

رغم أنّ الفيلم أنتج للقناة الفرنسيّة الألمانيّة arte فإن موضوعه (الحياة في قرية الماشي) والشّخصيات التي تظهر على شاشته (ممثّلين للنظام السوري) وأماكن التّصوير (صوّر بسوريا وفي المؤسسات المجنّدة لخدمته) واختيار المخرج لمقاربته (اعتماد صوت السلطة نفسها لانتقادها وإبراز تناقضاتها) جعلته تحت طائلة عين الرقيب المحليّ وحدّت من هامش حرية مخرجه. ومن ثمّة كان لابدّ له، حتّى يبلّغ مضامينه، من التبسّط بالحيلة اللّطيفة واللّمسة الفنيّة الماكرة فيغافل هذه العين. فكان تركيب اللقطة سبيله إلى ذلك. فاعتمد المجاز البصريّ الذي تشفّ مكوناته عن صور أخرى عميقة قائمة تحت الطّبقة السّطحيّة. فقد عمل أميرالاي على استغلال أقسام الشّاشة الثّلاثة الاستغلال الأمثل. فكان يثبّت شخصيته في الواجهة ويعرضها في الثّلث الأول منها مستدرجا إيّاها للحديث عن إنجازات حزب البعث العربيّ السّوريّ وعن مآثر “الأخ الرفيق القائد” وعن مظاهر تقدّم البلاد وازدهار مناهج تعليمها وغير ذلك من الهذر الذي تعوّده المواطن العربي في سائر وسائل الإعلام الرسميّة. وجعل الخلفيّة تشغل الثّلثين الباقيين. وفيهما تُعرض صورة الرئيس القائم أو الأب الراحل. فكان هذا التّركيب يوجّه انتباه المتفرّج آليّا إلى الشخصيّة السّلطويّة القابعة في الخلف وهي تمارس دور الرّقابة فتُخرس الأفواه وتكمّمها أو توجّهها لتقول ما يُسمح بأن يُقال .

° يراقب الرئيس الأب ذياب الماشي زعيم العشيرة ويراقب الرئيس الابن خلف الماشي ابن أخيه والمسؤول الحزبي المحليّ. وتنقلب الأدوار في القرية فيراقب ذياب أفراد عشيرته ويراقب المدير طلبته: على هذا النّحو تتفاعل مستويات الصورة وأثلاثها  على تجسيد  حياة المواطن العربي في كنف الأنظمة الاستبداديّة.

 
على هذا النّحو كان أميرالاي يجعل من هذر الشّخصية تعلّة لتثبيتها أمام الكاميرا. وحينها يشرع في تشكيل احتمالات معاني أخرى مخالفة تماما للمنطوق داسّا إياها في مسارب الصّورة وتضاعيفها. فيحدث أن يعمّ السّواد هذين الثلثين ممّا يدفع الإدراك إلى التركيز على الثلث الباقي، ويوجّهه إلى ملامح الشّخصية ويشكّل صورة سائلة (Une image coulante) تحثّ المتفرّج على تملّيها وعلى استجلاء المؤثّر القائم طيّها من تلعثمٍ يفضح كذبها ورياءها أو ارتباكٍ ينتابها وهي تعرض محفوظها بطريقة آليّة.
ولموضع الكاميرا فعله في عمليّة الإنشاء هذه. إذ يتفاعل تكوين الصّورة مع زوايا تصويرها فتُعتمد الزّاوية المنخفضة المباشرة في اللّقطات العامّة، عند تصوير السّد خاصّة، فإذا الماء يستغرق الشّاشة بأسرها وإذا سدّ الفرات امتداد يلفّه العماء المائي ويحيط به الصّمت وتختفي منه العلامات الدّالة على وجود أرض من حوله أو نبات. وتختصر مالظاهر حياة في زورق يطفو دون غاية أو وجهة. هل يستدعي المشهد إلى الذّاكرة سفينة نوح خاصّة أنّ الفيلم يعنون بالطّوفان؟ يبدو الزّورق تائها على صفحة الماء يتقدّم ببطء نحو الظلام. ولكن من أين له بحمامة تحلّق في السّماء لتحمل غصن الزّيتون أمارة على زوال الخطر كما فعلت حمامة نوح.

° الزّورق الشّريد الطّافح بلا وجهة: تجسيد بصري للطوفان بدلالتيه الحقيقيّة والمجازيّة.

على خلاف فيلم “محاولة عن سد الفرات”  ينزع الفيلم بجلاء إلى تثبيت الكاميرا وإلى الاقتصار على الحدّ الأدنى الضّروري من حركة الشّخصيات. فيمنح هذا الاختيار المقصود والإيقاع البطيء- كما ورد في تصريحات المخرج لاحقا – الفرصة للمتفرّج حتّى يحفر في دلالات الصّورة العميقة. ويحرّضه ضمنا على اختراق الطبقة السّطحية منها، التي قوامها مدح ممثّلي السلط المحليّة لحافظ الأسد والثّناء على الدّكتور بشّار ابنه، ليقع صورة السّياسي المرائي من جهة وليدرك قدر الجمود الذي يلفّ الحياة في القرية  وحجم الكآبة المسلّطة على حياة أطفالها .

ب) °  من مدح الفرات إلى ه��ائه: التحوّلات العميقة في خلق المجازات:

.من آليات مغافلة الرقيب المجاز البصري الذي يجعل الصورة شفافة فإذا الموضوع المصوّر يحيل على ذاته فيكون سدّا يفيض ماؤه أو مدرسة تستقبل طلاّبها وفي الآن نفسه يحيل – وفق جامع المشابهة في الشّكل والتّنافر في المحتوى- على آخر سواه يظل طيّ المسكوت عنه سياسيّا.
لقد استهلّ أميرالاي “طوفانه” بعرض صور من أثره البكر “محاولة عن سد الفرات” تنزع إلى الاحتفاء ببناء السّدّ. فتعبر من تشقّق أقدام الرّيفيين إلى تشقّق التّراب. وتنشئ من ذلك مجازا قوامه ذلك الالتقاء بين الأرض والإنسان في العطش والعناء وذلك الاشتراك في الحاجة إلى الماءِ عنوانِ الحياة. وهذا ما منح السّد معنى الأمل والتّطلع إلى مستقبل سمته الارتواء والنّمو والازدهار.

° العبور من الأقدام المتشقّقة إلى تشقّقات الأرض في فيلم “محاولة عن سدّ الفرات”: المجاز البصري من “محاولة عن سد الفرات” ينزع إلى الاحتفاء ببناء السّدّ الذي سيجعل الحياة تسرى في الأجساد الموات.

 أما في فيلم “الطوفان” فيفيد المجاز من السياق التاريخيّ ومن سريان تقارير تؤكّد اهتراء بنية السّدود السّورية وتشقّق بعضها تشقّقا يهدّد بانهيارها،  ليتّخذ دلالة مغايرة جوهريّا . فماء السدّ الذي ينتشر على الشّاشة يتّخذ أوّلا معنى الطّوفان المتربّص بالأهالي والخطر المادّي المحيق بهم ويتّخذ ثانيا معنى الغرق المعنوي الذي يعانيه الشّعب السّوري بسبب حكم حزب البعث الجاثم على صدره. لذلك يظلّ الزورق الذي يطفو على سطح الماء على مدار لقطات متباعدة من الفيلم فلا يكفل النجاة لركّابه كما فعلت سفينة نوح وإنّما يظل تائها شريدا متخبّطا في  عمائه المائي. ولا تحضر المدرسة إلاّ من خلال القضبان القائمة خلف الطّلبة أو من خلال الأنفاق المظلمة وصرير الأبواب الحديديّة.. فإذا الصّورة تشف عن أخرى مفارقة هي المعتقل وإذا مدير المدرسة “الذي يكاد أن يكون رسولا” يتحوّل وهو يحكم غلق الأقفال إلى سجّان.. وتؤكّد  زاوية الغطس التي تعمل على تسطيح الموضوعات هذا المنحى فتوحي بقبوع المدرسة في عالم سفلي بعيدا تحت الأرض.

2- البنية الضّدية: قانون التّورية والأسلوب السّاخر.

تبذل الشّخصية الوسع من جهدها لإخبار المتفرّج عن النّظام والحزب والرئيسين.. ولكنّ المخرج يصوغ أثره وفق قانون التّورية. فيجعل من حضورها في الفضاء حضورا مركّبا. يمثّل الوجه منه مدحا للنّظام وسردا لمآثر قائديه العديدة من حكمة وعدالة وحسن تدبير.. غير أنّه، وهو يوهم متفرّجه بمعناه القريب والوارد في تصريحات المستجوبين، يوجّهه بسبّابة سرية قائمة في الصّورة إلى المعنى النّقيض. فثمّة شيء ما في تشكيلها يصرف الأسماع عن هذا الثّناء ويوجه الأبصار إلى الطّبقة العميقة من هذا الحضور.. وليس هذا الشّيء غير  أدائها المرتبك: فهذا ذياب الماشي يقف ثابتا خاشعا كما المصليّ وإذا الهاتف أمامه في موقع السّجود أشبه بتربة الحسين التي يصليّ عليها الشّيعة. وكما يكون المصليّ على اتصال بخالقه أثناء السّجود يكون ذياب على اتصال بأجهزة النّظام في سكناته وحركاته في صحوه بين أتباعه من أبناء عشيرته أو في نومه بعد أن ينفضّ المجلس ـ وهذا ابن أخيه خلف صالح الماشي، مدير المدرسة الذي يذرع القاعة جيئة وذهابا، في غرفة الكومبيوتر مشيرا إلى “عطاء من عطاءات الرّفيق الدّكتور بشار حافظ الأسد الذي نادى بالتّطوير والتّحديث”. وماذا في هذا العطاء الذي سينهض بجودة تعليم عماده مقرّرات وبرامج لا همّ لها غير “تربية النّاشئة على حب النّظام”: شاشة وطابعة وعلبة مفاتيح.

تكشف الطّبقة العميقة المعنى البعيدَ المقصودَ من الفيلم، نقصد فضح ما في خطاب الشخّصية من نفاق وتزوير يقلبان بؤس القرويّين من ضيق إلى رخاء واضطهادهم إلى عدل وعبوديتهم إلى تحرّر من القيد. ولعلّ قصّة القطّة التي يعرضها كتاب القراءة عنوانا لقيمة الحريّة التي يكفلها النّظام، فيتداول الطلبة على قراءتها، أن تختزل قانون التّورية هذا. فقد أضحت حزينة لفقدان حريتها تماما كما الأطفال الذين يعرضهم الفيلم. فالرقابة المسلطة عليهم في الفصل والنّظام العسكريّ الزجري المفروض ومظاهر البؤس التي يكابدونها تجعل منهم قططا صغيرة حزينة فاقدة لحريتها.
 رغم طابع الجدّ الذي يميّز الفيلم ظاهرا، ورغم ما يحفّ به من جمود وكآبة، يبدو جليّا للمتفرّج أنّ عمر أميرالاي غير جاد في عرض الأقوال التي تمجّد النّظام البعثي، وأن أثره يقوم على مفارقة بين ما تنطق به شخصياته وما يسكت عنه وأنّ بنيته الضّدية هذه تخرق أفق الانتظار خرقا غير فاعل وتتضمن انطباعا هازئا رافضا للوضع القائم داعيا ضمنا إلى رفضه معرّضا بالدور الذي أوكله النّظام للتّعليم وهو العمل على تجميد عقول الناّشئة واعتداؤه على براءتهم وقولبتها لخلق شعب خانع مسلّم للحكم الأبدي لعائلة الأسد، موجّها متفرّجه الضّمني إلى احتمالات المعنى هذه.

ومن قانون التّورية الذي رصدنا تتولّد سخرية خاصّة ضامرة لا تكاد تُدرك نظرا لسمك طبقة النّقد، ولا تعمل على الإضحاك بقدر ما تعمل على الهزء من سذاجة حاكميْ العشيرة وتجعل المفارقة في أقوالهما المنافقة وحركاتهما الغريبة وما يوجدان فيه من وضعيات ناشزة سبيلَها. أما طبقتها الدّفينة فتجعلها نقدا لسيطرة حزب البعث على كلّ مفاصل الحياة وتنديدا بعبثية الواقع السوري وعدمية مؤسسات نظام الحكم وتبنِّيها لما أصاب القيم من تدهور. فإذا الدعاية السّياسية التي يحاول أن يؤمّنها رئيس العشيرة ومساعده للنّظام تتحوّل إلى دعاية مضادةّ تفضح عقم الحكم. وإذا السّد، ذلك البناءُ الضخم الذي أريد له أن يكون علامة على ما تشهده البلاد من تقدّم وحداثة، يتحوّل إلى طوفان منشؤه ما أصاب البلاد من فساد وتدهور. 
لقد بدا المخرج منتقدا شرسا فجعل من سخريته هجوما على النّظام ورصدا لفساده وإيذانا بانهياره. ولكنّ وجها آخر من هذه السّخرية فرض نفسه حتى كاد يستأثر بعناية المتفرّج. فقد بدت آلية اتخذها أميرالاي  للدّفاع عن النّفس ورفع الحرج عنها، وهو من بدأ مسيرته السّينمائيّة بـــ”ــمحاولة عن سد الفرات” الذي ينحو منحى مدح السّد والتّرويج لسياسة الإصلاح الزراعي التي بنى عليها حافظ الأسد “حركته التّصحيحيّة”. وعليه استهلّ فيلم “الطوفان” بالتّعبير عن ندمه على إخراج “المحاولة” وبرّر ذلك بحماسته لتطوير الوطن وتحديثه. ولعلّ منحى التبرير هذا أن يتأكد في حوار أميرالاي مع ملحق جريدة النهار اللبنانية إذ يقول: “إن المثقف النقدي لا يستطيع، ويجب ألا يرضى أصلا، [كذا] أن ينسلّ بريئا طاهرا نافضا يديه من تاريخ بلده، راجما الآخرين فقط بحجر الخطيئة” .

3- الطوفان: الاستباق للزّمن يدسّه أميرالاي طيّ الصورة الرّاهنة.
 
لا يعدو الفيلم أن يكون في ظاهره ربورتاجْ مع مسؤولين محليين من قرية الماشي مداره مظاهرُ من الحياة اليوميّة. ومن ثمّة نزع إلى الأسلوب التّقريري المباشر. ولكنّ قانون التّورية الذي حكمه جعل المستوى المباشر من الدّلالة – ومدارها حكم البعث الرشيد كما سبق أن أشرنا – غير مقصود بذاته. فحوّله إلى تعلّة لتصوير فيلم حول قرية الماشي ومصيدة للإيقاع بأتباع النّظام في عملية إفضاء تفضح ممارسات النّظم العربيّة الاستبداديّة التي تستبيح الحريات والعقول معا. ومن ثمّة لم يكن الفيلم يخلو من رؤية جمالية فكريّة تتجاوز ما يسم الأعمال الصّحفيّة من سرعة فترتقي به إلى مستوى الفنّ وعمقه. فقد كان ظلّ المخرج كثيفا مجسَّدا في روحه التي تسري في سائر الأثر تأطيرا للصورة وخلقا المجازات وتبعيدا (distanciation) حذر شحن المتفرّج وجدانيّا وجرّه إلى الانخراط العاطفي في الموضوع: حبّا لسيادة الرئيس أو كرها له. فقد كان يعمل على ترك المتفرّج على مسافة من الأثر تكفل له التّفكير الموضوعي في ما يعرض أمامه حتى يرصد الظّاهرة بنفسه ويحلّل الأسباب العميقة التي جعلت عائلة ذياب تروّض قرية الماشي وتهيمن على العشيرة وعلى مصائر أفرادها كما لو كانت مزرعة خاصة. وليست قرية الماشي سوى عيّنة يتمّ البحث فيها وفق مبدأ إسقاط قانون الجزء على الكل المعتمد في سبر الآراء. وما سلطة العمّ وابن أخيه فيها غير صورة مصغّرة من وطن يعتمد النّظام الجمهوريّ ومن عجب يرث فيه الابن الحكم عن والده .

ويتجلىّ حضور المخرج في مظهر آخر أكثر إتقانا. فرغم انتساب الفيلم إلى النّمط الوثائقي ورغم افتقاره إلى الحبكة السردية وإلى البناء العضوي الصّارم، ينزع منزع التّخييل بجلاء. فقد جعل أميرالاي من الشّخصية ومن حضور جسدها في الفضاء مادته التي يشتغل عليها توجيها وتطويعا لتجسيد سيناريو بدا جاهزا مسبقا في ذهنه. وهذا ما يجعلنا نفصل بيسر في هذا الحضور بين الدّور والممثّل والشّخصية . فيتجلّى الدّور في المسؤول المحليّ الذي ينوب عن السّلطة في القيام بأخطر أدوارها: إخضاع المواطنين لنفوذ العائلة. ويمثّل زعيم العشيرة ومعاونه الشّخصيتين الرئيسيتين اللّتين تمنحان هذا الدور الافتراضي الحياة. ويتولّى كل من ذياب الماشي وخلف صالح الماشي تجسيد الدور تمثيلا. وكما في الكوميديا السوداء يعيش الممثّل حالات من القهر فيبدو محطّما داخليّا بفعل ما يحيط به من التّدهور الماديّ والقيمي. فينخرط في هذيان ولغو يفضحان تناقضاته وتناقضات العالم من حوله. ولا غرابة في نزعة التّخييل هذه. ألم يقل جون لوك قودار إنّ “كلّ أفلام التّخييل الكبرى تنزع نحو الوثائقي نزعة الوثائقيات إلى التّخييل؟.. وإنّ من يختار أحدهما بعناية يجد الآخر في نهاية الطّريق بالضّرورة” .

° زوايا الغطس وزوايا الغطس المضاد: تحوّل المدرسة إلى سراديب وكهوف وقضبان وبدل أن تحرّر العقول تقيّد الأجساد وتكبّلها حتى تكفل خضوعها.

وكما يحصل في أعمال القصّ والتّخييل لا تكون المادّة الحكائيّة المعروضة مقصودة بذاتها بقدر ما تجعل من العودة إلى الماضي أو الخوض في الرّاهن تعلّة لفهم الواقع واختبار القيم السّائدة عملا على إعادة ضبطها حتّى تتوافق مع السّلوك المثالي.. ومن هذا المنطلق يمثّل “طوفان في بلاد البعث” تحريضا للمتفرّج وللسّلطة والمعارضة في آن على الانتباه إلى تلك الاستباقات القائمة طيّ الرّاهن وعلى التّطلّع إلى حركة مستقبليّة تقطع مع الجمود وتحمي الشّعب والوطن من الطّوفان الذي يتربّص به. يذكر أميرالاي أنّ هذا الفيلم جاء في شكل ردّة فعل على استقالة المثقّف المفجعة إزاء خراب البلد “لذا، وعلى خلفية غياب وجود فعل جماعي مقاوم يتصدّى لمرض الانتكاس الخطير عند السلطة والمعارضة على حد سواء – يقول – قرّرت أن أغنّي مواليّ الشّخصي فكان فيلم “الطوفان”.”  ولكنّ لا أحد آمن بنبوءة المخرج أو استمع إلى موّاله حتى داهم سوريا الطّوفان الحقيقيّ لاحقا فقد بدأ في محافظة درعا على الحدود مع الأردن في مارس- أذار 2011 إثر اعتقال السّلط لمجموعة من الأطفال دوّنوا على الجدران كلاما معاديا للنّظام تأثرا بموجة “الرّبيع العربي”. فجاء أعتى ممّا توقع أميرالاي وأكثر تراجيديّة.. وبدل أن ينهار سدّ انهار وطن ولم تُدمّر الرّقة فحسب وإنّما سوريا كاملة.

لقد كان صوت أميرالاي مدوّيا أقرب إلى إنذار الهواتف في التراجيديات الإغريقيّة المحذّرة من النهايات المفجعة. وكما في هذه التراجيديات ينشغل الجميع عن إنذاراتها أو لا يعبأ بها فتتلاشى وتذهب أدراج الرّياح ثمّ تقع الفاجعة.
  ____________________

الهوامش:
  بيّن أنّنا نفيد من تعريف ابن خلدون الشائع لمفهوم التاريخ وأنّنا نتصرّف فيه بقصد ونيّة.
  طوفان في بلد البعث (2003 فيلم وثائقي من إخراج يعدّ ثالثة ثلاثيّة المخرج عمر أميرالاي حول سد الفرات بعد “محاولة عن سد الفرات” (1970) المحتفي بهذا السّد و”الحياة اليومية في قرية سورية (1974) الذي يرصد التأثيرات السلبيّة لهذا السّد على حياة القرويين. وتتبع قرية الماشي محافظة الرّقة إداريّاً وتبتعد عن مدينة دمشق نحو 400 كم شمالاً- يعرّفها عمر أميرالاي في مقدمة فيلمه على النحو التّالي : “حول بحيرة الاسد يمتد اليوم بلد اسمه سوريا الاسد. من سوريا الجديدة هذه اخترت قرية. هذه القرية وأهلها وحتى بئر الماء فيها اسمها الماشي. قرية يحكمها شيخ عشيرة هو نائب في مجلس الشعب يعاونه ابن أخيه مدير المدرسة ومسؤول الحزب. أنها في عبارة أخرى عيّنة من بلد يحكمه حزب البعث منذ أربعين عاماً من دون منازع” وتوفي ذياب الماشي بعد خمس سنوات من إنجاز الفيلم  (2009) وهو يحمل صفة أقدم برلمانيّ في العالم.
  فكما يراقب حافظُ الأسد ذيابَ الماشي وهو يتحدّث عن مأثر القائد يراقب بشارٌ ابنَ الأخ خلف صالح الماشي مدير المدرسة وهو يعرض عطايا الرئيس “الوفيرة” للنهوض بالتعليم في الوطن. ويحدث أن يتولى المدير نفسه دور الرّقابة حينما يتولّى الطّالب تجسيد الأوامر العسكريّة التي تربي عليها المدرسة طلبتها.
  اعتمد عمر أميرالاي في أول أفلامه ” فيلم محاولة عن سد الفرات” الكاميرا المتحركة. ونوّع من زوايا التصوير فاعتمد زاوية الغطس التي تسطّح الأبعاد وتقزّم الموضوعات فتعرض العمّال كائنات ضئيلة لا تكاد تدرك مقارنة بعظمة الآلات وامتداد السّد. واعتمد زاوية الغطس المضاد التي تلاحق الآلات أوان عملها فتجعلها كائنات عملاقة توحي بعظمة السّد. فكانت الصورة بذلك تنحو منحى مدحيّا بحثا عن بعث الحماسة في نفس المتفرّج لهذا المشروع الرائد.
  يسلك عمر أميرالاي  نهج النمساوي ميخائيل هانيك (Michael Haneke) في تجميد المشاعر(La glaciation des sentiments) ذلك المنهج الذي ميّز مختلف أفلامه بداية من أثره الأوّل  القارة السّابعة( Le septième continent, 1989)  وخوّل له أن يحوز السّعفة الذّهبية  لمهرجان كان 2009 من خلال فيلمه(Le ruban blanc). ويعتمد هذا الأسلوب سبيلا لإدانة تجمّد العواطف في المجتمعات الأوروبية اليوم بسبب الانصراف إلى الإشباع المادي انصرافا يأتي على كل نبض إنساني منها.. لمزيد من التّوسّع أنظر مقالتنا: الشريط الأبيض: من قلق الإنشاء إلى اطمئنان التّقبّل:
http://doc.aljazeera.net/followup/2009/11/2009112473750909151.html
  يصادر عمر أميرالاي على مذهبنا في التأويل هذا فيقول “لا ابحث عن البعد الانساني في صورة الاطفال، ولكن في دفع المتلقي الى ادراك هول ما يمارس على هؤلاء الاطفال. البعد الانساني يولد من التفاعل الذي تولده فجاجة هذه الوثيقة عند المتلقي” عمر أميرالاي: ضمن حوار مع أجراه محمد علي الاتاسي: 03-05-2011، ملحق جريدة النّهار اللبنانية.
  يشير الفيلم نفسه إلى مساق إنشائه ملمّحا إلى انهيار سد زيزون سنة 2002 وما خلّفه من دمار وضحايا وتشريد للعائلات وإلى ما تعانيه سدود أخرى من تهرّم وتشقّقات تهدّد حياة السّوريين.
  عمر أميرالاي، ملحق جريدة النّهار اللبنانية.
  يؤكد الحوار الذي أجراه عمر أميرالاي  مع محمد علي الأتاسي مذهبنا في التأويل فيقول: “بين فيلمي “الدجاج” و”الطوفان” مسيرة ربع قرن من الانزلاق التدريجي والحثيث لسوريا نحو العبث وحافة اليأس. إنها ثبات صورة عائلية شاحبة لـ18 مليون إنسان تخشبت أبصارهم أمام عدسة المجهول. طبيعة صامتة لجرود قاحلة تغرّد فيها، من حين الى آخر، طيور برية رائعة. والنتيجة؟ بلد معذب، متعب، هدّه الصّبر والأمل بفرج قريب” عمر أميرالاي م. ن.

   على خلاف الأدب تكون الشّخصيّة في الفيلم التّخييلي ثلاثيّة الأبعاد. فهي أوّلا دور مستقلّ عن النّصّ الفيلمي يقتضي جملة من الكفايات يعرّفه حمادي كيروم بكونه “وجها بلاغيا ثابتا قابلا في نفس الوقت لبعض التّغييرات الممكنة”. وثانيا شخصيّة تمنح هذا الدّور الافتراضيّ العام الحياة فتنقله من طور التّجريد والافتراض إلى عالم القصّ وهي أخيرا لممثّل يجسّد الشخصيّة أيقونيّا وغالبا ما يؤدي– عند المتقبل – الشّخصيّة الواردة في الفيلم وكلّ الشّخصيات التي أدّاها سابقا فيكون جسده موطنا “لحركة قوية من التّناص”  حمادي كيروم، الاقتباس من المحكي الرّوائيّ إلى المحكيّ الفيلمي سلسلة الفن السّابع منشورات وزارة الثّقافة/ المؤسسة العامة للسينما دمشق  2006، ص ص  172- 173.
  Jean-Luc Godard par  Jean-Luc Godard, Paris, Ed. de l’Etoile, Les cahiers du cinéma, 1985, p.144
  عمر أميرالاي، ملحق جريدة النّهار اللّبنانية.


إعلان