الوثائقي والتحديات السياسية

قراءة في “يهود مصر” و”القاهرة منور بأهلها”، وأفلام أخرى

د. أمـل الجمل

الشخصيات التي بالفيلم هي من “وحي خيال المؤلف والمخرج”. عندما يقرأ المتلقي الجملة السابقة على شريط فيلم روائي ربما لن تُثير دهشته، وربما أيضاً لن يقوده التفكير بعيدا بشأن احتمالات ومسببات تصدير العمل بتلك الكلمات، وعلى الأرجح سيُبرر وجودها بالتماسّ القائم بين أبطال العمل وشخوص آخرين حقيقيين لايزال لهم سطوة ونفوذ على أرض الواقع، وأن صناع العمل كتبوا تلك الجملة حماية لأنفسهم من عواقب قانونية وجنائية.
     لكن الجملة السابقة ذاتها ستُصبح مثار دهشة واستنكار عندما نقرؤها قبيل بدء مقدمة أي فيلم وثائقي، فالوثائقي من التوثيق يعني التزويد أو الدعم بالوثائق، مثلما يستعين بالأشخاص الحقيقيون وشهود العيان والمؤرخون الموثوق بهم. صحيح أن مخرجه قد يستعين بممثلين لتجسيد شخصيات بعينها ووقائع محددة لكنه في النهاية يسرد وقائع تاريخية واجتماعية حدثت بالفعل، ورغم أنه قد يمزج بين الروائي والوثائقي أحياناً – فيما يسمى بالفيلم العابر للنوعية – لكنه أيضاً في النهاية يحكي عن أشخاص حقيقيين وملابسات تصرفاتهم وسلوكهم في محاولة للفهم واستجلاء الحقيقة. فالوثائقي يعتمد على توافر البيّنة الموثقة في البحث، وأحد شروط مصداقيته أن يستند إلى الوثائق التاريخية، ويرجع أصل كلمة الوثائقي إلى “وثق” أي الثقة، والوثيق هو الشيء المُحكم، وأخذ بالوثيقة في أمره أي أخذ بالثقة.

يهود مصر
   المقدمة السابقة لها علاقة باستدعائي لظروف عرض الجزء الأول من فيلم “يهود مصر” للمخرج المصري أمير رمسيس عندما طُرح تجارياً في دور العرض السينمائية، بعد ما بدا أنه شبه معركة رقابية قصيرة، إذ سبق بدء شريط الفيلم بضع كلمات كُتبت على الشاشة الكبيرة مُوقعة من جهاز الرقابة على المصنفات الفنية بوزارة الثقافة المصرية تقول: “الشخصيات التي بالفيلم هي من وحي خيال المؤلف والمخرج”. ثم أعقبها مباشرة لوحة أخرى تحمل توقيع صناع العمل وترد على الجملة السابقة بالتالي: “الرأي السابق يعبر عن وجهة نظر وزارة الثقافة وجهاز الرقابة ولا يعبر بأي حال من الأحوال عن رأي فريق الفيلم.” 
   رغم قصر المعركة الرقابية، نسبياً، بين صناع العمل وإحدى الجهات المنوط بها مراقبة الإبداع، لكن الكلمات السابقة للفريقين تكشف عن مأزق يتعلق ليس فقط بمقص الرقيب، ولكن أيضاً بالأجواء والظروف السياسية خلال الفترة التي عُرض فيها “يهود مصر”، فقراءة النص التحتي للعبارتين يشي بمساومة بين الطرفين، مثلما يستدعي قراءة مضمون الفيلم وتحليله دون أن نغفل علاقة المضمون والشخصيات التاريخية المرتبطة بالنصف الأول من القرن العشرين في علاقتها الجدلية بالواقع السياسي المحيط بتوقيت عرض الفيلم في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. 
    تكشف تلك القراءة أمراً يتعلق بالبنى السياسية وأثرها على رسالة الفيلم الوثائقي في مرحلة ما من صناعته وهى مرحلة العرض الجماهيري، وربما ما يعقبها من عرض تليفزيوني أيضاً خصوصاً إذا كان مملوكاً أو ممولاً من تلك البنى السياسية، فتوفير تمويل للإنتاج لم يعد العقبة الكبرى أمام الإبداع، ولكن التوزيع والعرض والوصول إلى الجمهور أصبح معضلة لا يُستهان بها، فالفيلم الذي لم يُشاهد لم يُنتج بعد

.
    هنا، في تجربة “يهود مصر” لم تتمكن المؤسسة السياسية الحاكمة، والتي تخضع لها مؤسسة الرقابة وجهاتها الأمنية، من التأثير على الفيلم أثناء صناعته نظراً لعدة أسباب في مقدمتها أن إنتاجه جاء مستقلاً عنها وعن أي من مؤسساتها الثقافية الداعمة، أن الفيلم لم يكن بحاجة لتصاريح أمنية تتعلق بأماكن التصوير، فمعظم مشاهد الفيلم تعتمد على اللقاءات مع ضيوف في بيوتهم أو مكاتبهم، كما يستند إلى لقطات أرشيفية تاريخية لشوارع القاهرة والإسكندرية إلى جانب لقطات أخرى ربما تم تصويرها خفية ومن دون الحاجة للتصاريح الأمنية المعهودة، كما أن بعض الأفلام قد تحصل على إذن رقابي بالتصوير لكن ذلك ليس ضمانا بالموافقة على العرض إذ ��ابد من الحصول على ترخيص آخر.

 إضافة إلى ما سبق فإن تصوير الفيلم بدأ قبل أن يتولى الإخوان حكم مصر إذ تعود فكرته إلى عام 2004 ثم بدأ أمير رمسيس البحث والتحضير له منذ 2008 ثم حصل على تصريح رقابي بالتصوير عام 2010 أي قبل مجيء الإخوان بنحو سنتين على الأقل، لكن السبب الأخير إذا كان ينطبق على نوعية أخرى من الأفلام فإنه في تقدير كاتبة هذه السطور لا ينطبق على “يهود مصر”، وهناك بعض الأفكار المثيلة حتى لو تم تصويرها في ظل تلك النوعية من البنى السياسية يظل صانعها على قناعته وتمسكه بطرح مبادئه وقناعاته، مؤكداً على قدرة بعض أشكال وأنواع الفيلم الوثائقي على البقاء بعيدا عن مؤثرات وأدوات نظم الحكم طالما ظل المخرج قادراً على التشبث بقناعاته ومبادئه مهما كان الثمن فادحاً. 

الرقابة الأمنية
    عُرض شريط “يهود مصر” على الرقابة أثناء فترة تولي الإخوان المسلمين سدة الحكم في مصر 2012- 2013. وافقت الرقابة في بادئ الأمر على عرضه ضمن بانوراما الفيلم الأوروبي 2012، ثم منحته تصريحاً رقابياً أخر للتصدير والعرض في مهرجانات دولية منها “بالم سبرينجز”، لكن عندما قرر صُناعه عرضه العام بدور العرض السينمائي كان لزاماً عليهم العودة للرقابة والحصول على تصريح آخر، ومن هنا بدأت الأزمة. قراءة تصريحات الطرفين في الصحف(1) ومحاولة استبطان النص التحتي لرد كل منهما على الآخر تفيد بأن أصحاب العمل لم يمهلوا الرقابة الوقت الكافي لإصدار التصريح، وفاجأوها بأنهم يريدون التصريح خلال يومين بعد أن حجزوا صالات العرض وعملوا الدعاية المكثفة، في حين أن القانون يمنح الرقابة أن ترد بالموافقة من عدمه خلال شهر، خصوصاً أن العرض الجماهيري يتطلب تدخل جهات أمنية لمشاهدة العمل.
    تساؤلات عدة تطرح نفسها؛ لماذا تصرف صناع العمل هكذا؟ هل كان ذلك رغبة في توظيف الرفض المؤقت لصالح الفيلم والدعاية له تحت مسمى أن الفيلم “ممنوع” خصوصا مع إصدار بوسترات دعائية للفيلم تحمل ختم بالأحمر “ممنوع من العرض”؟ أم أن الأمر حدث مصادفة ولأسباب توزيعية؟ لا يمكن معرفة ما دار في الأفئدة والعقول، أو ما دار في الغرفة المغلقة على مسئوليها، ولن نجزم بأن الرقابة تشددت فالتصريحات المباشرة لمديرها لا تفيد بذلك، لكن ذلك لا يمنعنا من إعادة طرح التساؤل: لماذا الإصرار على تصدير الفيلم بجملة: “الشخصيات التي بالفيلم هي من وحي خيال المؤلف والمخرج”، وهو ما يتطلب بدوره قراءة مضمون الفيلم.

    بقدر ما يحكي الشريط الوثائقي لأمير رمسيس عن اليهود المصريين فهو يحكي عن مصر الوطن، وهو ما كان يُصيب المتلقي – ليس فقط بالنوستالجيا لمصر البهية المتسامحة – ولكن أيضاً بغصة في الحلق وحزن عميق بلغ حد البكاء لدى البعض خصوصاً في توقيت عرضه الأول بسبب المقارنة بين مصر التي كانت، ومصر كيف وإلى أين صارت؟!. في جزء منه يشير الفيلم إلى الخلط الحادث في التعامل مع اليهود واعتبارهم جميعاً أعداء، وكأن اليهودية تهمة، وذلك على خلفية الصراع العربي الإسرائيلي.

ثم تدريجيا يغرس الشريط الوثائقي في جمهوره شحنة عاطفية وفكرية هي من دون شك متعاطفة مع يهود مصر، خصوصا مع تتابع اللقاءات المتعددة مع الشخصيات اليهودية، مع توالي الاعترافات والبوح بالمشاعر على اختلافها، وتصريحات المؤرخين بالفيلم التي توضح كثيراً من المواقف الملتبسة، وتلقي هالة من الضوء حول بعض الشخصيات اليهودية، فشيكوريل مثلاً كان مقربا جدا من طلعت حرب، ويعد أحد مؤسسي بنك مصر الذي تم تأسيسه لمحاولة مواجهة الرأسمالية الأجنبية ودعم الرأسمالية المصرية، إلى جانب تأكيدات باحث علم الاجتماع عصام فوزي والمؤرخ اليساري رفعت السعيد وكذلك محمد أبو الغار – في متن الفيلم – على أن العائلات اليهودية كانت تتحرك في جميع المجالات الاقتصادية وعلى أن تلك العائلات لم تكن تتعامل بمنطق الجاليات الأجنبية التي تنقل أرباحها للخارج أولا بأول، فقد كانت تبقي على أموالها بالداخل. كما لا يغفل الفيلم ذكر ملامح من دور اليهود في الثقافة المصرية والحركة الأدبية والسينمائية، فيُدرك المتلقي كنه مشاعر الحب والنوستالجيا التي يشعر بها هؤلاء اليهود إزاء مصر وتجاه كثير من تفاصيل الحياة بها، فهم في النهاية مصريون عاشوا على أرض مصر في ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات القرن الماضي عندما كان رجال السياسة لم ينتبهوا بعد لكيفية استغلال البعد الطائفي والديني لغرس بذور الشقاق والتفرقة والعنصرية. مثلما ينجح الفيلم في جعل المشاهد يتفهم مشاعر الغضب التي مر بها البعض نتيجة الظروف السياسية التي عاشوها في فترة الخروج، فكأن الفيلم إنصافا لليهود المصريين المُفترى عليهم.

    وصحيح أيضاً أن عصام العريان القيادي البارز في جماعة الإخوان المسلمين ونائب رئيس حزب الحرية والعدالة الذراع السياسي للجماعة كان قد أطلق دعوته الشهيرة في نهاية ديسمبر 2012 عبر وسائل الإعلام والتي طالب فيها اليهود من أصول مصرية والمتواجدين بالأراضي الفلسطينية المحتلة أن يعودوا الى مصر مجدداً، مبررا تلك الدعوة بأنها سوف تقوم بحل القضية الفلسطينية فعندما يترك اليهود هذه المنازل ويعودوا إلى مصر سيعود الفلسطينيون إلى بيوتهم، متناسياً أن اليهود عندما خرجوا من مصر لم يذهب منهم أحد إلى إسرائيل إلا القلة القليلة جداً، أما الأغلبية العظمى فاختارت الحياة في دول مختلفة في شتى أنحاء العالم.
إعادة فتح ملفات ملتبسة
   إذن، طالما جاءت دعوة العريان متسامحة مع اليهود وكأنه يتضامن مع فيلم “يهود مصر” فلماذا – وإذا استبعدنا صحة الرفض الرقابي أو محاولة المنع – أصرت بعض الجهات الأمنية الرقابية على أن يكتب فريق العمل أن “الشخصيات التي بالفيلم هي من وحي خيال المؤلف والمخرج”؟ ولماذا أيضاً خضعت لاقتراح المخرج – عندما رفض أن يستجيب لهم، وفق تصريحه في حوار مع كاتبة هذه السطور – بأن يكتبوا تلك الجُملة على لسانهم هم، وبالفعل كُتبت الكلمات واستخرجت من الرقابة، وبعدها وضع رمسيس لوحة تفيد بأن “الرأي السابق يُعبر عن وجهة نظر وزارة الثقافة وجهاز الرقابة ولا يعبر بأي حال من الأحوال عن رأي فريق الفيلم.” 

   الإجابة على التساؤل السابق تستدعي البحث والتنقيب في مضمون الفيلم والأمر لن يستغرق وقتاً طويلاً لاستجلاء بعض الأمور، فبمجرد تدفق الحديث عن كيف بدأ العداء مع اليهود ستتضح كثير من الأشياء، فحتى عام 1935 لم يكن لمصر أي مشكلة مع اليهود، وعندما تم الإعلان عن وعد بلفور قامت في الإسكندرية مظاهرات بالآلاف من اليهود والمصريين تحية لبلفور، وعندما أُنشئت الجامعة أرسلت مصر وفداً من كبار الدولة على رأسه لطفي السيد. لكن 1935 كانت السنة الفاصلة فالمستعمرات اليهودية بدأت في التسلح ومهاجمة الفلسطينيين، وقامت الثورة الفلسطينية وانتقلت المظاهرات إلى مصر، ومن هنا بدأ يظهر لأول مرة في مصر جو عدائي ضد الصهيونية وضد اليهود عموما.
  يتحدث أكثر من مصدر بالفيلم، ومنهم الدكتور محمد أبو الغار صاحب كتاب اليهود في مصر، والمؤرخ اليساري الدكتور رفعت السعيد، وعصام فوزي باحث علم الاجتماع، إلى جانب شهود عيان من اليهود أنفسهم يتحدثون عن عداء الإخوان المسلمين لليهود والذي بدأ في الاشتعال في 3 نوفمبر 1945 على خلفية الصراع الفلسطيني الصهيوني حيث خطب المرشد حسن البنا في الآلاف من أعضاء الجماعة في ميدان عابدين وطالب بأن تتوجه مجموعات منهم في مسيرة إلى حارة اليهود ليهاجموا المحلات والمعابد وامتد الشغب لليوم التالي،(2) وأنه مع عام 1947  أخذ يتنامى الشعور العدائي للمستوطنات، وعندما حدث تقسيم فلسطين الأول قامت ثورة كان يحمل لواءها مجموعتان؛ المجموعة الأكثر تطرفاً هي جماعة الإخوان المسلمين، والمجموعة الثانية هي حزب “مصر الفتاة” وكان حزبا شبه فاشي. في حين يذكر المخرج – على لسان الراوي بالفيلم – حادثة تفجيرات حارة اليهود في يونيو 1947، وحرق المحلات الكبرى المملوكة لليهود على أيدي جماعة الإخوان المسلمين. 

    كذلك يذكر أكثر من مؤرخ ومصدر داخل الشريط الوثائقي بتأكيد على أن “مصر الفتاة” وجماعة الإخوان المسلمين لم يأخذا أي موقف عدائي أو نضالي من الحكم الملكي أو من الاحتلال الأجنبي، ولكن أخذا موقفاً من اليهود المصريين المقيمين في مصر، واستنكر المتحدثون بالفيلم تركيز نضال الجماعة ومصر الفتاة بالداخل ضد اليهود معتبرين أن اليهود المصريين خونة حيث ادعيا أنهم يتبرعون لإسرائيل ويجب محاكمتهم. وإذا كانت التصريحات السابقة عن تاريخ جماعة الإخوان خصوصا مع الملك والاحتلال الأجنبي موثق في أكثر من مرجع(2) مع ذلك يُؤخذ على صناع الفيلم أمرين؛ الأول: أنهم لم يستعينوا بشخصيات من الجماعة للرد على ما نُسب إليها وإلى أفرادها، واكتفوا باستضافة علي نويتو عضو الجماعة ليقول فقط رأيه السلبي في اليهود ومن دون أن يرد على أي من الاتهامات التي وُجهت للإخوان. والأمر الثاني؛ أنهم تركوا الجزء المتعلق بأن “الإخوان ركزوا نضالهم بالداخل” من دون نقاش وجدل، فحتى لو كانت كثير من المراجع التاريخية التي تُؤكد على دور الإخوان في حرب فلسطين هي مراجع لكتاب ينتمون إلى الجماعة كان من الضروري طرح الرأيين ومحاولة إلقاء الضوء على وجود منطقة ملتبسة وشائكة بين مؤكد ومعارض.

     إضافة إلى ما سبق، وضمن الشريط الوثائقي “يهود مصر” تتوالي تصريحات وشهادات أخرى تاريخية ووثائق وأخبار رسمية موثقة وأرشيفية تُدين سياسة جماعة الإخوان المسلمين وقادتها ومنها مثلاً: خبر عن قرار مجلس الثورة بحل جماعة الإخوان، ومحاولة المرشد لقلب نظام الحكم وتكوين منظمات سرية في الجيش والبوليس والجامعات وبين العمال، إلى جانب أخبار عن اعتراف الهضيبي بالاتصال بالإنجليز، وقيام المرشد العام بمفاوضات مع الإنجليز من خلف ظهر الثورة، وتسخير المرشد العام الدعوة الدينية لمطامعه الشخصية وتدبيره انقلابا باسم الدين. إضافة إلى محاولة اغتيال الزعيم جمال عبد الناصر في حادث المنشية عام 1954، ومن ثم صدور قرار بحل الجماعة. ثم يختتم فيلم “يهود مصر” الحديث عن جماعة الإخوان المسلمين بأقوال المناضل السياسي ألبير آرييه عن عدوان عام 1956 على مصر عندما كان نزيلاً بسجن الواحات، وكيف أن اليساريين كانوا قد أعلنوا عن رغبتهم في أن يتطوعوا في المقاومة بمنطقة القناة، على أن يقوم روبير جرونسبان بتدربيهم، لكن بعض السجناء من جماعة الإخوان المسلمين في نفس السجن رفضوا الفكرة –وفق تصريح آرييه – بل أعلن بعضهم عن فرحه في العدوان على مصر نكاية في عبد الناصر، وهى جزئية أخرى كانت تحتاج من صناع العمل أن يٌتيحوا الفرصة لأحد أفراد الجماعة الرد عليها لتحقيق المصداقية. 
    تعتقد كاتبة هذه السطور أنه للأسباب السابقة – المتعلقة بالطرح الذي تناول صورة جماعة الإخوان المسلمين وبعض رموزها في متن الشريط الوثائقي والتي تدين سياستهم في النصف الأول من القرن العشرين – قرر جهاز الرقابة أو الجهة الأمنية الرقابية ضرورة تصدير الفيلم بجملة “الشخصيات التي بالفيلم هي من وحي خيال المؤلف والمخرج.” يبقى أن نشير إلى أنه في ظل نظام آخر وظروف اجتماعية وتاريخية مغايرة أكثر تشددا وصرامة كان من المحتمل أن يُمنع الفيلم، أو يمتد مقص للحذف من مضمون الفيلم كل ما يتعارض مع سياسات النظام السياسي السلطوي والنسق السياسي. 

القاهرة منورة بأهلها
   لا شك أن الرقابة السياسية المتشددة والبالغة حد الاضطهاد والنفي كانت موجودة، بأشكال متفاوتة، عبر مختلف العصور سواء في الأدب أو الفن التشكيلي، وكذلك في مجال السينما بعد قليل من مولدها على الأخص عندما بدأ رجال السياسة يدركون خطورتها فتفننوا في تكبيلها بقواعد رقابية صارمة. كانت السينما الروائية تخضع للرقابة أكثر من نظيرتها التسجيلية ربما لأن الأولى كانت تحظى بمكانة جماهيرية عريضة، ولكن رغم الاضطهاد كان صناع الأفلام الروائية يمتلكون قدرة على الهروب من ذلك باللجوء للرمز والتورية وهو الأمر الذي ربما يصعب تحقيقه في مجال الوثائقي القائم على رصد الواقع بكل ملابساته الصارخة المؤلمة. مع ذلك أتاحت الثورة التكنولوجية لعدد من مبدعي الوثائقي أن يهربوا من سطوة السلطة في بعض البلدان خصوصا المسيطرة على التمويل والإنتاج وذلك من خلال الإنتاج المستقل أو من خلال الإنتاج المشترك مثلما يظهر ذلك في تجربة مصرية شهيرة قام بها المخرج الراحل يوسف شاهين “القاهرة منورة بأهلها” في مستهل تسعينيات القرن العشرين.

إنه عمل روائي قصير معجون بالوثائقية، فإلى جانب اللقطات الوثائقية الخطيرة التي يتضمنها الفيلم فإنه يُوثق للواقع الذي تعيشه مدينة القاهرة، فيطرح مشكلات البطالة، ارتفاع الأسعار، الزحام الشديد، أزمة الإسكان، عودة العمالة المصرية من دول الخليج، زحف المباني على الأراضي الزراعية، الفنون الهابطة التي تُحاصر المجتمع المصري، التيارات الدينية والسياسية المختلفة وتأثيرها على الشعب.
   نجح شاهين بمهارة شديدة أن يلتقط مشاهد داخل الحرم الجامعي كان من المفترض ألا تصل لكاميرات الإعلام، كيف نجح؟ ليس هذا مهما. لكن الأهم أنه فعل، أنه نجح في تسجيل وتوثيق ما يكشف القمع والقهر الذي تفرضه القوى السياسية المسيطرة والحاكمة، ثم غرس مشاهده شديدة الوثائقية ضمن عمله الروائي اللافت، ومن بينها اندلاع المظاهرات داخل جامعة القاهرة ضد التدخل الأمريكي في الكويت والعراق، وتفجر القنابل المسيلة للدموع بداخل الحرم الجامعي التي تكاد يعمي أعين المتلقي وتصيبه بالاختناق. بالطبع الاحتجاجات الطلابية لم تتوقف على مدار سنوات، وقد كان يتم تحجيمها ومنعها من الخروج من بين أسوار الجامعة بالقوة والعنف ويتم حجبها عن الرأي العام المصري والعالمي خصوصا قبل أن تنتشر ثورة الكاميرات المحمولة وكاميرات الهواتف الجوالة. لكن، وتماماً مثل محاولات بعض السينمائيات الإفلات من المنظومة الحاكمة للسوق الإنتاج، نجح يوسف شاهين في “القاهرة منورة بأهلها” عام 1991 في تصوير هذه الاحتجاجات الأمنية وتضمنيها بفيلمه في مشهد شديد البلاغة يكشف زيف الإعلام الرسمي وأساليبه في إخفائه الحقائق تماشياً مع البنى السياسية القائمة. وهو الفيلم الذي عرض في مهرجان كان السينمائي الدولي وأغضب كثير من المصريين حتى أن البعض طالب بسحب الجنسية المصرية من مخرجه.(4) 

التمويل الجماهيري
    إذا كانت الثورة التكنولوجية قد أتاحت لمبدعين آخرين الإفلات بأفلامهم في ظل بطش السلطة وتعنتها الديني والسياسي وقبضتها الأمنية، أتاحت لهم تهريب أفلامهم وإجراء مونتاج لها خارج البلاد كما حدث مع أفلام إيرانية خرجت إلى مهرجان فينيسيا في بعض دوراته وتم استكمال مونتاجها بين أروقة المهرجان في حين بقي مخرجوها حبيس الأراضي الإيرانية، فإن التمويل الجماهيري بدا هو الأخر حلاً منقذا لبعض صناع الأفلام ومنها أطرح نموذجين على سبيل المثال؛ الأول فيلم “أنا مع العروسة” إيطالي فلسطيني والذي اشترك في إخراجه الفلسطيني خالد سليمان الناصري مع المخرجين الإيطاليين أنطونيو أوجوجليارو وغابريللي ديل غراندى.

 من دون شك عمل إنساني يعكس تجربة جريئة في تصوير الوثائقي وإنتاجه أيضاً، إذ أن صُناعه مارسوا شكلاً من العصيان المدني عبروا من خلاله عن رفضهم للقوانين الأوروبية المتعسفة المتعلقة بالهجرة، عندما ساعدوا خمسة مهاجرين سوريين وفلسطينيين – فارين من حمامات الدم وآتون الحرب الدائرة بوطنهم – في أن يحققوا حلمهم في الوصول إلى السويد ليعيشوا حياة كريمة وإنسانية هناك. فهذه المغامرة – حتى لو كانت محسوبة بدقة شديدة – كان يُمكن أن تُعرّض أصحابها من صناع العمل للمساءلة القانونية وعقوبات تتراوح بين 5- 15 سنة من السجن بتهمة مساعدة مهاجرين غير شرعيين، بحسب قوانين الاتحاد الأوروبي، اعتمد الفيلم على التمويل الجماهيري – أو التمويل الجماعي – عبر الإعلان عن تنفيذ فكرته على الإنترنت، إذ فتح فريق العمل الباب لتلقي الدعم مادياً لإتمام المراحل النهائية منه، فبلغت التبرعات والمساهمات الجماعية على المستوى الجماهيري 100 ألف يورو إذ غطّت جزءاً غير قليل من نفقات الرحلة والتصوير والإنتاج الذي قدرت تكاليفه 200 ألف يورو.(5)
   نموذج آخر قيد التنفيذ للمخرج الفرنسي الكبير مارسيل أوفوليس – يهودي ألماني بالغ من العمر 87 عاماً – والذي أعلن في موقع مخصص على الإنترنت(6) اعتزامه إخراج فيلم تسجيلي طويل، يفضح من خلاله عنصرية السياسة الإسرائيلية، والصهيونية التي يرفضها، وقد بث المخرج مقدمة دعائية تبلغ 12 دقيقة وعشرين ثانية في حملة ترويجية لجمع تبرعات من الجماهير لإنتاج الفيلم الذي يستحيل أن تتباه أو تدعمه شركات الإنتاج الكبرى لتعارض مضمونه مع الفكر والسياسات الإسرائيلية والكيان الصهيوني. ومن الطريف أن المخرج في الافتتاحية الدعائية يطرق بيت المخرج الكبير جودار ويطالبه بتنفيذ وعده في المشاركة في إخراج وإنتاج الفيلم لكن جودار عندما يلمح الكاميرا يرفض مستنكراً وينسحب عائداً داخل بيته دون ذكر أسباب. 

البنات دول
    على العكس من النماذج السابقة استدعي نموذج “البنات دول” للمخرجة المصرية تهاني راشد والفيلم من إنتاج عام 2006. الفيلم يأخذنا الي عالم فتيات تعشن في شوارع القاهرة، عالم مليء بالعنف والقسوة، بالمشاجرات والرقص والمشاحنات والضحك والتضامن الإنساني، إلي جانب الحرية الكاملة. سواء كن سيدات أو أمهات أو أطفال، لكن من عيوب الفيلم أنه مجرد رصد للفتيات، نظرة سياحية، وكأن المخرجة تتفرج عليهن من الخارج، لا تربط مشاكل ووضع البنات بالمجتمع وبالأمن والسياسة والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وكأن واقع ومأزق هؤلاء الفتيات ناجم من فراغ، أو يرجع لمسئولية الأهل وحدهم؟ أين دور الأمن والمسئولين؟ ربما تقتصر القيمة الوحيدة التي يطرحها الفيلم دون التأكيد عليها بشكل أكثر بروزا حكاية نسب أطفال الشوارع واستخراج شهادة ميلاد لهم، فلماذا لا يصدر قانون ليكتب الطفل باسم الأم؟ لكن يبدو لكاتبة هذه السطور أن صانعة الفيلم حرصت ألا تغوص أكثر وألا تورط نفسها في مشاكل صدامية مع البنى السياسية والأمنية القائمة.  

نماذج للاستقلال المشروط
فيلم “العيش في تازمامارت” هو نموذج يعبر عن مدى قدرة الفيلم الوثائقي على البقاء بعيدا عن مؤثرات وأدوات نظم الحكم تعبيراً عن أحلام وطموحات وتطلعات الشعوب، فمخرجه دافي زلبرفان مخرج فرنسي شاب عندما كان في الرابعة عشر من عمره قرأ مقالا عن سجن تازمامارت بالمغرب تحت حكم الملك الحسن الثاني وعن المعتقلين الذين قضوا به ثمانية عشر عاماً. وبدأ رحلة عمل فيلمه الوثائقي “العيش في تازمامارت” الذي استغرق سنوات ليخرج للنور، استهلها بزيارة المغرب والسجن في عام 1997 وتكررت مرتين آخرتين.. لكن ديفي لم يسلم من بطش السلطات المغربية.. يقول ديفي:(7) لم أصور السجن من الداخل أبداً، كما لم أصوره بشكل رسمي إطلاقاً في أي مرة من المرات الثلاث التي زرته فيها. عام 1999 لما رجعت للمغرب لمقابلة الناس الذين أفرج عنهم وقابلت بالفعل 15 منهم زرت السجن مرة ثانية وصورته أيضاً من الخارج، لكن هذه المرة تم ألقاء القبض علي أثناء التصوير، فتم حبسي لمدة يومين وسحبوا مني جواز السفر قبل أن يتم الإفراج عني. المرة الثالثة جئت ضمن وفد للسياحة الدينية وصورته أيضاً من الخارج. وخرج الفيلم للنور عام 2005. 

    على صعيد آخر فإن فيلم “شلاط تونس” للمخرجة التونسية كوثر بن هنية – والذي يعد عملاً سينمائياً ثورياً في شكله ومضمونه – دليل آخر على تباين قدرة الوثائقي على الاحتفاظ باستقلاليته وتعبيره الصادق عن رغبات الإنسان وتطلعاته الحقيقية، وأن تلك القدرة على الاستقلالية قد تكون أمراً شبه مستحيل في ظل بعض الأنظمة السياسية السلطوية وهو باعتراف مخرجته لم يكن من المحتمل أن يخرج بهذا الشكل لولا تبدل وتغير الأنساق السياسية وانهيار حكم بن علي. وعن فيلمها الذي يرتدي ثوب الوثائقي، أو يمكن اعتباره  فيلماً وثائقياً مزيفاً fake documentary، لأنه يزعم بطريقة فنية مُحكمة أنه وثائقي، تقول كوثر(8) في البداية كان لدي الرغبة في أن أقوم بوثائقي خالص على شاكلة أفلام تقصي الحقائق، لكن الأمر كان أشبه بالمستحيل تحت حكم بن على، فالواقع كان ملكاً للحزب الحاكم، يجمله كما يشاء لصنع بروباجندا بليدة “فتونس بلد الفرح الدائم” -على حد تعبير أحد شعارات الحزب  -لا يمكن أن يعكر صفوها شلاط أو متعصب وإن حدث ذلك فيجب اخفاءه وعدم الحديث عنه، لذلك توجهت نحو الصيغة الروائية، فكتبت سيناريو فيلم روائي بحت، لكن بعد الثورة تمكنت من ممارسة فعل الاستقصاء مستغلة رياح الحرية، فتحصلت على محاضر بحث الشرطة وأرشيف القضية، فالثورة أتاحت لي فرصة الحصول على أرشيف القضية و فهم ما وقع فعليا في تلك الفترة كما أن الثورة سمحت لي بتصوير الفيلم برخصة تصوير رسمية من وزارة الثقافة.

عندما بدأت العمل على الفيلم قبل الثورة مع حبيب عطية منتج الفيلم التونسي قررنا أن نصوره بطريقة سرية وألا نطلب دعماً مالياً من وزارة الثقافة التونسية والتي تُعد المصدر الوحيد لتمويل الأفلام التونسية على أن نتقدم بطلب للحصول على ترخيص لتصوير شيء أخر دون الإشارة إلى فيلم الشلاط، لكن بعد الثورة تمكننا من الحصول على الترخيص وعلى الدعم المالي حتي وإن كان دعماً لإنهاء المشروع. وعن طبيعة المشاكل والصعوبات التي كان من الممكن أن تواجهها لو تم التصوير قبل الثورة تقول بن هنية؛ كان من المتوقع أن تكون المشاكل أمنية، اذ أن وجود كاميرا في الشارع قبل الثورة كان أمراً يثير الريبة، ويستوجب من الشرطة أن تقوم بالتفتيش في نوايا المصورين.
    ما يؤكد تجربة بن هنية كلمات أمير رمسيس في أحد حواراته إذ يقول:(9) “حين شرعت في العمل على الجزء الأول من “يهود مصر” كنت أطمح في أن أنجز فيلما واحداً، لكن خوف بعض الشخصيات من الظهور أمام الكاميرا حال دون أن أضمّن الحديث عن الحاضر بحرية، فصنعت الجزء الأول الذي يحكي المرحلة من بدايات القرن العشرين وحتى عام 1956، و كان لخروجه دوراً في تشجيع الكثيرين على الحديث والظهور امام الكاميرا مما جعل من صناعة الجزء الثاني أمرا ممكناً بعد أن كان مستحيلاً.

   نضيف إلى ما سبق كلمات المخرج التونسي حمزة عوني:(10) “عندما بدأت فيلم “جمل البروطة” في 2007 كنت أتصور أنني سأكمله خلال سنة، لكن من يعتبرون أنفسهم “منتجون” في تونس غارقون في رقابة ذاتية يفرضونها على أشباه المخرجين. رقابة أرفضها رفضا قطعيّا، لأنّها ليست رقابة على الذّوق السّليم، وعلى الأعمال الهابطة، ولكنها رقابة على الأفكار. بصفتهم جهاز رسمي تابع لأي نظام ويدعون الاستقلالية.” 
    ونجح عوني في الانتهاء من فيلمه 2013. استغرق الأمر وقتاً طويلاً وسنوات عدة لكنه نجح. رغم ذلك فإن تأمل النماذج السابقة جميعها يكشف التفاوت في قدرة الوثائقي على اجتياز التحديات السياسية والصمود في مواجهتها، فالأمر ليس مطلق ويعتمد على أشياء كثيرة في مقدمتها صدق المبدع مع نفسه وإخلاصه لموضوعه، ودرجة إيمانه وتمسكه بتلك الفكرة، فبالإيمان والحب والإخلاص يمكن النحت في العقبات السياسية ومحاولة تذليل بعضها أو التحايل على البعض الآخر إن أمكن.


إعلان