الوثائقي .. بين الثورية والتحدِّي المجتمعي

د. أمــل الجمل

مينا دانيال – المصدر: Eduardo Castaldo

للفيلم الوثائقي مزايا عديدة منها قدرته المستمرة على أن يُطلّ على المجتمع من نوافذ عديدة، على أن يرصد حركته وثقافته وتطوره صعوداً وهبوطاً. وهو أثناء ذلك – وأقصد الوثائقي الموضوعي الذي يحتمي بالحيادية والصدق إلى أقصى ما يمكنه – يعمل على رصد الحقائق بالصوت والصورة رغم ما يحمله من قسوة وألم قد يصل حد البشاعة، يعمل على كشف الأسرار المخبأة خلف الستائر والكواليس، يربط بين الأشياء ويقيم العلاقات والجسور بين الوقائع والشخصيات فتتكشّف مزيد من الحقائق المروعة، فهو يُوثِّق الأحداث والوقائع، ويُنقب في التاريخ ليتحرّى مصداقية ما وقع وما يمكن أن يكون مشابهاً له في الحاضر خصوصاً عندما يُعيد التاريخ نفسه، وهو أثناء ذلك أيضاً يتسلح بالوثائق والأدلة فيُسلِّط عليها الضوء على شاشته وعبر دقائقه الفيلمية سواء طالت أم قصرت.

قد يدخل الوثائقي إلى حقول الألغام بكافة مشاربها، سواء كانت تاريخيّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة، خصوصاً في السنوات العشر الأخيرة، ليس فقط في ظلّ التحولات التاريخية والسياسية والمجتمعية في المنطقة العربية ولكن أيضاً قبلها بعدة سنوات، عندما بدأ ينمو جنين الثورة وظهرت بشائره في نماذج فنية متنوعة وإن كانت قليلة كما سيأتي ذكرها تباعاً، فقد نجح الوثائقي في الولوج إلى عالم المحرّم الأيديولوجي والمجتمعي والسياسي وكان له تأثيره على الرأي العام وعلى السلطة وذلك للخطورة التي تتمتع بها الصورة السينمائية البالغة التأثير. فكما يقول المخرج السوري المقيم بالنرويج هشام الزعوقي أن الفيلم الوثائقي “هو حامل اجتماعي جمالي وفني, بهذا المعنى هو مشروع ثوري، فالفيلم الوثائقي هو فن بصري، هو سينما، أدواته نفسها؛ الصورة, الحكاية, صراع الأبطال، دراما الحياة الإنسانية. واذا كنا نصنع الواقع ونبنيه عبر الفيلم الروائي، فإننا في الفيلم الوثائقي نغوص في الواقع، نصارع  لنرتقي به إلى مراتب الروائي, على الأقل بجانبه السردي.”

“بطل المخيم”
   مع ذلك ورغم ما سبق، لايزال هناك الكثير من العقبات التي تواجه الوثائقي – في الدول العربية – وفي مقدمتها الرقابة الرسمية والمجتمعية إلى جانب الرقيب الذاتي بالطبع، خصوصاً عند تناول قضايا مجتمعية ملحة، وهنا أستحضر فيلم “بطل المخيم” للمخرج محمود بعبور، وهو وثائقي إنتاج مشترك بين لبنان والإمارات وقطر. عندما شاهدته بمهرجان دبي السينمائي 2014، سجلت في يومياتي السينمائية: لا شك أنه لا توجد دولة كاملة خالية من الأخطاء ومن العيوب والفساد، فلماذا يتفادى المخرج الحديث عن ذلك رغم ضرورته.” وهو ذاته الإحساس الذي ظل يراودني دائماً عندما أتأمل الأفلام الوثائقية الموقعة بأسماء مخرجين إماراتيين أو تلك الموقعة بأسماء مخرجين غير إماراتيين لكنها تتناول أفكاراً أو موضوعات خاصة بدولة الإمارات العربية المتحدة، عندها أستشعر تضخم الرقيب الذاتي عند تناول أي قضية مجتمعية، سواء من خلال تجاوز النقد وعدم الحديث عن كل ما هو سلبي، وفي كثير من الأحيان يتم تفادي اختيار موضوعات شائكة ويكتفي صناع وصانعات الأفلام بالحديث عن الشخصيات وتاريخها الوطني والعملي. فهؤلاء المخرجون رغم الثورة التكنولوجية الهائلة، ورغم المحسنات البديعية البادية بوضوح على الشكل الفيلمي لديهم سواء في الصورة والإضاءة والديكور والتصوير المبهر الذي يستعين بكوادر أجنبية في كثير من الأحيان، لكنهم لازالوا غير قادرين على اختيار المضمون الشائك الذي قد يصطدم بالموروث الاجتماعي أو بسياسة الدولة.  

   يدور الفيلم حول شاب أطلقوا عليه اسم بطل المخيم، يقوم بالغناء في أماكن مختلفة تستعرض أبراج دبي، وحركة الإنشاء والتعمير في الإمارة التي أصبحت ملء السمع والبصر. أحياناً، في لقطات قليلة وغير كافية يتعرّض المخرج لحياة البطل من الداخل في المخيم، أثناء الحلاقة والاستحمام، وممارسة طقوس النظافة، أو في أماكن العمل، وغنائه في المصنع، وحديثه عن الثقافة والموهبة، عن بعض الصعوبات التي تواجهه، كيف ترك والديه المسنين وجاء هنا ليوفر المال للعناية بهم، أو عندما يدعو الله ألا يحدث لهما سوء وهو بعيد عنهما، يقول: “المال مهم لكنه ليس كل شيء.” يشير إلى صعوبات الحصول على التأشيرة وضرورة السفر والخروج من البلد – دبي- إذا انتهت التأشيرة. بين حين وآخر يستعرض الفيلم شخصيات متنوعة ومختلفة في حوارات تليفزيونية مباشرة، لكنها تظلّ لقطات مبتسرة وغير فنية بالقدر الكافي. فالشريط الوثائقي جاء أقرب إلي برنامج تليفزيوني، يعتمد على غناء البطل معظم الوقت، إلى جانب الاستعانة بفيديو كليب تليفزيوني للأغاني.

في كل بقاع الدنيا
     لكن يبدو أن الأمر لا يتعلق بالإمارات وحدها، فما ينطبق عليها ينطبق أيضاً على كثير من دول الخليج وعلى الأخص السعودية، إلى جانب دولاً عربية أخرى تعاني نفس المأزق بدرجات متفاوتة، فمثلاً السودان التي كانت من أوائل البلدان التي دخلتها السينما، وحقق بعض مخرجيها جوائز دولية بمهرجانات عريقة في الستينيات، أصبح الوضع فيها الآن لا يسمح لصانعي الأفلام الوثائقية أن يُمارسوا الحرية عند تناول أي من القضايا سواء المجتمعية أو السياسية أو حتى الدينية، وهو ما أكده المخرج الشاب طلال عفيفي قائلاً: “صعب، الوثائقي مُكبِل، في وضعي- هنا في السودان- أفكر كثيراً قبل العمل علي مشروع فِيلم في حدوده وحساسياته الاجتماعية، مجتمعاتنا لا تزال متوترة وغير منفتحة، والفصل بين الخاص والعام والتاريخي والراهن أمر صعب. في وضعي يكون من الصعب الاشتغال بهدوء على فيلم عن التاريخ الاجتماعي للمثلية الجنسية في مدينة الخرطوم على سبيل المثال أو آخر عن الفساد المالي في عهد المشير النميري، فالنطاق الاجتماعي يُشكل تحدياً حقيقياً لصناع الأفلام الوثائقية هنا.”

    وإذا كان المخرج الفلسطيني يحيي بركات يُؤكد على أن “الفيلم الوثائقي قادر على تجاوز كل الإعاقات والعوائق الاجتماعية وذلك لقدرته على الولوج إلى عمق الكثير من الظواهر السلبية الاجتماعية ويكشف أدق مكنونات هذه الظواهر، فمن خلال عمل وثائقي قصير قد أنجزته عن عمالة الأطفال واستغلالهم بعنوان “إنهم أطفال” 24 ق، ومن خلال تجارب زملاء أنجزوا أعمالاً وثائقية عن التحرش الجنسي، وعن جرائم الشرف، وعن تعاطي المخدرات، وعن زواج القاصرات، وحتى علاقات السفاح داخل الأسرة، والعديد من الموضوعات الاجتماعية الأخرى، كل ذلك يؤكد أن الفيلم الوثائقي الفلسطيني استطاع ويستطيع تجاوز كل معيقات المجتمع، ونجح في تناول الموضوعات التي تعتبر خط أحمر.” مع ذلك ورغم النبرة السابقة المتفائلة لكن بركات يستطرد كاشفاً بعض الأمور المتعلقة بتذليل الصعاب المجتمعية، فيقول: الفيلم الوثائقي الفلسطيني لا يزال فيلم النخبة في عروضه للجمهور الفلسطيني وفيلم المهرجانات للجمهور العربي والدولي، وقلة من الأفلام تحصل على العرض بالقنوات التلفزيونية محلياً. لذا فإن المجتمع وظواهره الاجتماعية السلبية لن يشعر بها أو يشاهدها المجتمع نفسه لكي يعترض أو يحتج أو يظهر ردود فعل سلبية تظهر تخلفه الاجتماعي، أو ردود فعل حضارية إيجابية تجاه ما تناوله الفيلم من فضح وكشف لهذه الظواهر حتى يتجاوزها ويجتثها.”

    لكن، ومن زاوية أخرى، يكشف المخرج الفلسطيني سليم أبو جبل عن الصعوبات التي واجهته ومنعته من استكمال عمله قائلاً: “في المجمعات البدوية في فلسطين خلال تحضيري لفيلم وثائقي عن تهجير البدو من أرضهم لصالح المستوطنات، وهي قضية مصيرية في هذه المرحلة تتعلق بمساحات شاسعة في الضفة الغربية من المفروض أن تكون ضمن الدولة الفلسطينية المستقبلية في المناطق المحتلة عام 1967.. واجهت صعوبة بتصوير الأولاد والفتيات والنساء في بعض التجمعات، ومُنعت من تصوير الفتيات والنساء في تجمعات أخرى.” ثم يحكي أبو جبل عن أسلوبه في العمل على الفيلم الوثائقي وصعوبة هذا الخيار مضيفاً: “طريقتي في التصوير تعتمد على رصد الحياة وتسجيل ما يحدث خلال الحياة اليومية للعائلة، وأعتمد بشكل قليل على المقابلات. في هذه المرحلة المشروع لا يتقدم بسبب السماح لي بتصوير الرجال فقط، فهم من يُسمح لهم بالتحدث والظهور أمام الكاميرا. في مشاريع أفلام أخرى في قرى ومدن فلسطينية لم يكن من السهل تصوير النساء وكن يرفضن بأنفسهن التصوير بسبب الإحراج أو الخوف من الظهور، رغم كونهن مركز القصة أو الفيلم.”

     تكشف التجارب والآراء السابقة كيف يمكن للوثائقي ألا يُعبِّر عن مأزق الإنسان، لكن المشكلة في النموذج الأول لا تتعلق بالوثائقي في حد ذاته ولكنها تتعلق باختيارات المخرج ووعيه وتفكيره كما في نموذج “بطل المخيم”، وقدرته على دفع الثمن أم لا؟ وفي نموذج السودان ترجع المشكلة لسيطرة الحزب الديني المتشدد، أما في تجربة أبو جبل فالأمر يتعلق بالنظرة الاجتماعية للمرأة وعلى أن ظهورها عورة وأمر معيب. لكن المثير للدهشة أن دولة أوروبية متقدمة مثل النرويج تمارس هي الأخرى ضغوطاً على صناعة الوثائقي عندما يتعرض لقضايا مجتمعية وهى حقيقة يُؤكدها المخرج هشام الزعوقي قائلاً: “في النرويج حيث درست السينما، عشت وعملت هناك، ومازالت بعض المواضيع من الصعب تناولها, لما لها من حساسية خاصة لدى النرويجيين. هناك تواطؤ، والناس تتحدث وشوشة عن بعض الحكايات. مثلا قصة السفاح النرويجي الذي قتل 67 شابا وشابة، وفجّر مبنى الحكومة. حاولت النرويج أن تصفه بالمجنون، وأنه مريض نفسي، وذلك لأنه نرويجي أبيض، لكن الحقيقة أنه نتاج المجتمع النرويجي وثقافة عنصرية كامنة. لو كان هذا السفاح مسلم أو ملون أسمر لكانوا وصفوه بالإرهابي لأنه عربي مسلم.” ثم يطرح الزعوقي نموذجاً آخر صارخاً لتلك الرقابة والقيود المجتمعية والسياسية على الوثائقي: “أنا قدمت مشروع فيلم وفزت في المسابقة، لكن التمويل لم يكتمل، لأنهم لم يرحبوا بفكرتي، لم تعجبهم لأنها تغوص وتفضح العنصرية الشفهية المخبأة في أعماق المجتمع فأعدت المنحة. كان الفيلم عن المخابرات النرويجية أيام الحرب الباردة، كان التمويل دانماركي والبث سيتم على التلفزيون السويدي، لكن النرويج رفضت البث.” ثم يختتم هشام حديثه باستعادة تجربة أخرى مضيفاً: “عندي فيلم وثائقي يُدرَّس في المدارس عن المراهقين الأجانب والعنف. في النرويج لم يقبلوا مساعدتي إلا بعد أن عُرض الفيلم في مهرجانات أوروبية، فالعوائق الاجتماعية والرقابية بكافة أشكالها موجودة في كل المجتمعات”. 
    على صعيد آخر، يبدو أن الوثائقي مقيد لبعض المبدعين لأسباب أخلاقية أو فنية، فالمخرج المصري أحمد حسونة يُضيف: “الوثائقي بالنسبة لي يضع قيودا علي عملي أكثر من الروائي، فهناك التزامات أخلاقية كثيرة يجب أن ينتبه لها الشخص عند قيامه بعمل الوثائقي من حيث تقديم الشخصيات علي الشاشة بشكل حقيقي، والتعامل مع الموضوع بمعرفة وفهم كبير حتي تستطيع أن تنقل رؤية ذاتية للموضوع مبني علي حقائق وليس افتراضات.”

  الوثائقي وقضايا المرأة المصرية
    رغم كل ما سبق لا يمكن إنكار أن الوثائقي صار قادراً – بشكل متفاوت وإلى درجات متباينة بمجتمعات مختلفة – على أن يتعرض لقضايا كان الناس يخشون التحدث بشأنها، على الأخص فيما يتعلق بالمحرمات الثلاث، أو فيما يتعلق بالشأن النسوي على المستوى العربي، ووضعية المرأة وصورتها عن نفسها من منظورها الشخصي، أو حتى صورتها في عيون الآخر المحمل بموروث طويل من العادات والتقاليد وبتلك النظرة النمطية للمرأة التي تكّرست في أذهان شرائح واسعة من المجتمع، حتى أن تلك النظرة السلبية تسرّبت إلى المرأة ذاتها.

    بالطبع، هناك أمور عدة ساعدت الوثائقي على تحقيق ذلك، وبلوغ مكانته المؤثرة هذه، منها توفر الكاميرات عالية الجودة في ظل الثورة التكنولوجية الهائلة، وتحطم الحدود بين العالمين الشرقي والغربي، الشمال والجنوب، حتى في ظلّ القيود الأمنية، فالشبكة العنكبوتية أتاحت سبلا للتواصل لم تكن تخطر على قلب بشر، وذلّلت العقبات الرقابية وتجاوزتها، وأصبح في مقدور أي إنسان صناعة فيلمه وإرساله للخارج وعرضه في مختلف الفعاليات الدولية، هذا إلى جانب ظهور جيل جديد من الشابات والشباب المتمرد المُدرك بثقافته ووعيه الدفين أن المرأة شريك للرجل في تنمية المجتمع وتطويره، لذلك لم يكن غريباً إصرار كثير من هؤلاء – حتى لو كان بعضهم متاجراً بقضايا النساء – على تناول واقع المرأة العربية بمختلف قضايا وأدوارها واستقلاليتها حتى لو اصطدم بالموروث الثقافي والاجتماعي التقليدي الذي كبّل المرأة عقودا طويلة، وحال دون حصولها على أي من حقوقها كاملة كمواطنة تقف على قدم المساواة مع الرجل أمام القانون. 

“أثر الفراشة”
    من أحدث تلك الأفلام الشريط الوثائقي الطويل “أثر الفراشة” للمخرجة المصرية أمل رمسيس والتي سبق لها تقديم فيلم “ممنوع” عن كل الممنوعات والمحرمات في المجتمع المصري. يستمد فيلمها الأحدث عنوانه من قصيدة شهيرة بنفس العنوان للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش يقول في مستهل أبياتها: “أثر الفراشة لا يُرى/ أثر الفراشة لا يزول/ هو جاذبية غامض/ يستدرج المعنى ويرحل”. 
   إنها، ذاتها، الأبيات التي تختتم بها المخرجة شريطها الوثائقي الممتع فنياً وإنسانياً، والمؤلم لأنه يحتوي ليس فقط على مشاهد مُوجعة عايشناها طوال السنوات الثلاث في أعقاب ثورتي 25 يناير و30 يونيو وما بينهما، ولكن أيضاً لأنه يُحيي في القلب والحلق غصة سبّبها إجهاض الحلم الجميل. 

    تُنهي رمسيس فيلمها بتلك الأبيات وبلقطة ممتدة لمينا دانيال سائراً في ممر طويل يقترب فيه من الكاميرا حتى تصبح اللقطة مقربة لوجهه الملائكي، بينما يبدأ الفيلم بمشهد لأقدام راسخة سائرة في ثبات لا يلين على طريق أسفلتي ممتد يرافقه صوت أمل المخرجة وهى تحكي عن الحلم أو ربما الكابوس الذي عايشه مينا وكانت فيه الكلاب – بمعناها المادي والرمزي – بطلاً أساسياً. وما بين البداية والنهاية هناك دائما سرد بصري – أحيانا من دون صوت على الإطلاق، وأحياناً أخرى مصحوب بصوت قادم من بعيد كأنه حلم أو خيال، وفي مرات ثالثة يرافقه نباح كلب أو هتافات الثوار أو الموسيقى المملوءة بالشجن – لوقائع الثورة منذ ذلك اليوم الشهير في مذبحة ماسبيرو، وحتى خروج الجماهير الحاشدة في 30 يونيو.

   عقب البداية الحلمية مباشرة نسمع جملة ثورية غاضبة من ماري دانيال شقيقة مينا وهى تصرخ “لحد امتي هنفضل ساكتين على حقوقنا» هي صرخة الذبيح عقب استشهاد الأخ والابن والصديق والحبيب، وذلك أثناء تواجدها بالمستشفى القبطي الذي استقبل جثامين المجزرة المروعة في أحداث ماسبيرو حيث وجدت أخيها مدرجا في دمائه.
    ظاهرياً يبدو الفيلم وكأنه عن مينا دانيال الشاب الذي استشهد يوم 9 أكتوبر 2011 في مذبحة ماسبيرو، والشهير بجيفارا الثورة المصرية. لكن مَنْ يتأمل الشريط الوثائقي يكتشف أنه يسير بالتوازي في مستويات ثلاثة، الأول حكاية ماري دانيال الأخت الكبرى لمينا الكاشفة للضغوط المجتمعية، والمستوى الثاني سياسي صرف لأوضاع وظروف البلد خلال تلك السنوات الثلاث، والمستوى الثالث يتوارى في ثناياه كل ما هو استعاري ورمزي. لكن اللافت أن المخرجة نسجت الخطوط جميعها في علاقة هارمونية بمهارة وانسيابية ومن دون افتعال، إذ ربطت بين الحياة الخاصة لماري واتخاذها قرارً مصيرياً حاسماً مُتحدية المجتمع والكنيسة وبين الأحداث العامة التي مرّت بها مصر، بما فيها من تأويلات رمزية وإسقاطات سياسية، فكأن ماري وهى تسرد تفاصيل من حياتها وقصة زواجها وحصولها على حريتها الشخصية كانت في نفس الوقت كأنما تشي بحكاية مصر التي نفضت عنها التراب وثارت على حكامها المستبدين بعد طول استسلام.   

    بثقة، ومن دون خوف أو تردد تحكي ماري دانيال قصتها التي كان من المستحيل أن تحكيها لولا المنعطف الذي مرت به البلاد، لولا الثورة، ولولا استشهاد أخيها الذي طالما اعتبرته ابنها الذي لم تنجبه، فقد تزوجت ماري رغماً عنها في سن السادسة والعشرين. رغما عنها قام الأهل بتزويجها من رجل غني يكبرها في العمر بسبعة عشر عاماً. ربما لم تكن المشكلة في الفارق العمري وإنما في فعل الإرغام على الزواج بمن لم تحب أو ترضى، فقد زوجّها الأهل قسراً لأنها تجاوزت سن السادسة والعشرين ولم يكن من اللائق أن تظلّ من دون زواج، لأنهم لم يرغبوا في أن يطلق عليها لقب عانس، ولأن الرجل كان ثرياً بما يكفي لإغواء الأسرة بالموافقة. لكن ماري نفسها كانت تفضل العنوسة على تلك الزيجة التعسة.

   طوال سنوات زواجها كانت ماري تحتمل الإهانات، تعمل في البيت مثل الخادمات، تحملت الصدام والنكد والتعاسة، كانت تطوق للحرية والانفصال لكن الخوف من نظرة الناس منعتها من التمادي في الحلم أو مجرد التفكير في تحقيقه. وأيضا بسبب المعتقد الديني، فالطلاق عندهم يتم فقط لعلة الزنا. لكل ما سبق تحملت ماري وخضعت واستكانت. لكنها نفضت عنها التراب والاستسلام يوم 9 أكتوبر، يوم استشهاد أخيها وابنها وحبيبها مينا. منذ ذلك اليوم حدث التحول الذي لم تعد فيه ماري كما كانت، إذ قررت بحزم أن تنفصل عن زوجها وتنهي تلك العلاقة. كان يمكن أن تذهب إلى الكنيسة وتطلب الطلاق، لكنها لم تفعل – على حد اعترافها – لأن الأمر كان يحتاج إلى وساطة لكي يتم بسرعة، فهي لا تمتلك هذه الوساطة، لذا قررت أن تنفصل وتعيش حياتها بعيدا عن زوجها، واتخذت من غرفة أخيها الشهيد مقراً جديداً لحياتها، ومن أفكاره سنداً قوياً يشد من أزرها، ومن أحلامه التي لم يجد الوقت الكافي لتحقيقها هدفاً جديداً في حياتها. 

   تعترف ماري “أنا كنت مسيحية طائفية” لكن بعد أحداث الثورة وخروجي للشارع مع مينا تغيرت حياتي، وبدأت أعيش. ثم تستعيد تنبؤ مينا بالثورة مثل كثير من شباب المصريين بقوله: “الثورة جايه جايه” تقول: “كنت أضحك وأسكت.. أخوته كانوا يعارضونه ويقولون له “الناس أخدت على المهانة والصمت.” لكن هو كان له نظرة ثانية، مثل زملائه. وعندما قامت الثورة قال لها: “مش قلت لك الثورة جايه جايه.”
   مع بزوغ ثورة 25 يناير بدأت ماري تؤمن بأفكار أخيها، لكن التحول الأكبر حدث بعد 9 أكتوبر. يومها شعرت ماري أن لها حق وأنها ستأخذه ولن تصمت بعد اليوم، مهما كان الثمن الذي لابد من دفعه، فصارت تخرج أكثر وتلتحق بالمظاهرات. تقول: “بعد استشهاد مينا صحيت، أفقت وقلت: لم يعد مقبولا أن أكمل في هذا الطريق. خمسة عشر عاماً ضاعت من عمري من دون أي فائدة في عزلة عن العالم كله، ومن دون أن يكون لي أي قيمة. الآن أصبح لي دور.” وكأن مينا دانيال هو تلك الفراشة التي حكى عنها بشاعرية محمود درويش، وكأن مينا ترك من ورائه أثرا لا يرى، أثرا لا يزول.  

   ثلاث نماذج مبكرة
    في النموذج السابق من “أثر الفراشة” يتضح جليا أنه لولا التحول السياسي التاريخي والاجتماعي ما كانت ماري جرؤت على أن تسرد قصتها أمام الكاميرا. لكن في عام 2003 وقبل حدوث الثورة ربما بسبع سنوات – عندما كانت لاتزال الثورة جنيناً في رحم المجتمع – ظهرت للوجود تجربة وثائقية متمردة على البنى المجتمعية، والظريف فيها أنها جاءت نسائية بكامل فريقها، ففي ذلك العام بدأت المخرجة الشابة الجريئة هالة لطفي تصوير فيلمها الوثائقي الطويل “عن الشعور بالبرودة” وعرضته عام 2005. الفيلم من إنتاج المركز القومي للسينما، أي إنتاج الدولة، ويحكي عن الصداقات والعلاقات المزدوجة بين البنات والأولاد، بين الرجل والمرأة وذلك من خلال تسع فتيات تحكيّن – للمرة الأولى – عن شجون الحياة الشخصية من دون شريك. إنهن مجموعة من الفتيات اللواتي يقفن على عتبة “العنوسة”، إذ تأخر بهن قطار الزواج، أو تركهن الرجال الذين أحببن ذات مساء، وتزوجوا من أخريات، فعشن المعاناة القاسية في عالم موحش تكتنفه العزلة، والانتظار القاتل للروح.

   على مدار الفيلم تطرح الفتيات مئات من علامات الاستفهام عن علاقة الرجل بالمرأة، تتحدثن بجرأة، ومن دون خجل عن أول حب، أول قبلة، وعن فشلهن في علاقات الحب والارتباط. تحدثن عن نظرة الرجل للمرأة، نظرة المجتمع للمرأة الوحيدة. امتلكت بعضهن الجرأة والشجاعة للحكي عن احتياجاتها الجنسية وكيف تتحايل لتشبعها في ظلّ الحرمان الذي تعيشه. بعض الفتيات كانت تعلم أن حديثها بالفيلم سيكون صادماً لأسرتها لكنها واصلت الاعتراف غير مبالية بردود الفعل وكأنها تُصرّ على التطهُّر. يعتمد الفيلم على نبش خلفية الشروط الاجتماعية والثقافية التي تعيشها الفتيات، فيرفع الغطاء عن أسطورة المجتمع الذكوري الذي يتعامل مع المرأة على أنها جسد. فالرجال يرونها مجرد جسد للمتعة الحسية، حتى أنها أصبحت لا تجرؤ على السير في الشارع بمفردها خوفاً من العيون الجائعة والكلمات المسمومة. والأب هو الآخر يراها جسداً يُريد أن يُخفيه بالحجاب. مع ذلك لا يتحدث الفيلم عن الحجاب وشرعيته. ورغم الوجود السلطوي للأب تستجيب الفتاة لمشيئتها في كل ما يتعلق بحياتها وخياراتها، وبمجرد أن تخرج من باب الشقة ترفع الحجاب عن رأسها وعقلها.

   “المهنة امرأة”
   عندما نتحدث عن مدى قدرة الوثائقي على تخطِّي أو تحدي الموروث المجتمعي لابد أن نستدعي اثنتين من التجارب المبكرة أيضاً، الأولى للمخرجة الشابة هبة يسري “المهنة امرأة” والتي تزامنت مع تجربة تهاني راشد “البنات دول”. الأولى كانت مشروع مخرجة عمرها ثمانية عشر عاماً كانت تدرس بالفرقة الثالثة بالمعهد العالي للسينما. عندما علم والدها بفكرة المشروع رفضها، ورفض أن تظل ابنته حتى وقت متأخر من الليل خارج البيت، فاضطرت هبة إلى العمل سراً ومن دون علمه على مدار شهور ثلاثة، ثم عقب انتهائها من الفيلم مُنع من العرض داخل مصر، ومُنع من المشاركة في بعض المهرجانات الدولية خوفاً على سمعة مصر، وإن نجح في الوصول لمهرجانات أخرى ! 
    يومها كتب الناقد والمؤرخ السينمائي سمير فريد: “تذكرت وأنا أشاهد مسابقة الأفلام القصيرة ومسابقة أفلام الطلبة فيلم «المهنة امرأة» إخراج هبة يسري من أفلام معهد السينما في الجيزة، وتأكدت أننا لو أرسلنا الفيلم إلي إدارة المهرجان لتم اختياره في المسابقة، بل وربما فاز بإحدى جوائز أفلام الطلبة الثلاث. ولكن الفيلم مع الأسف ممنوع من العرض في مصر، وما يزيد الأسف أن قرار المنع صدر من إدارة المعهد وليس من الرقابة. وبغض النظر عن مهرجان كان أو المهرجانات عموماً فالأفلام الممنوعة حتي لو كانت من أفلام طلبة السنة الثالثة في المعهد مثل «المهنة امرأة» هي من الأدلة الكبيرة علي أن السينما المصرية لا تزال تنبض بالحياة”(1)

     فالفيلم الذى شكّل وقتها صفعة قوية على وجه المجتمع والذى تكلف 1800 جنيه فقط، وكان كأنه يحقق في أسباب انحراف بعض النساء، إذ يدور حول فتيات احترفن البغاء نتيجة للظروف الاجتماعية القاهرة في دولة يعيش أغلب شعبها تحت خط الفقر. “المهنة امرأة” فيلم وثائقي مدته 13 دقيقة، اعتمدت فيه علي تصوير حياة فتيات بشخصياتهن الحقيقية، فتيات احترفن البغاء ومثلنّ شرائح عمرية مختلفة. لم يكن الأمر سهلاً أمام المخرجة الشابة فقد واجهتها مشكلة إيجاد الفتيات في البداية، فاضطرت – على حد تصريحاتها لعدد من الصحف – أن تنتحل شخصية رجل حتى تتمكن من العثور علي أبطال فيلمها من الشارع. أيا كانت التحفظات الفنية على الفيلم يكفي جرأة الفكرة، وتمرُّد الفتاة على والدها وقيود المجتمع وإصرارها على أن تنجز ما رغبت فيه حقاً. 
   في نفس توقيت “المهنة امرأة” ظهر أيضاً فيلم وثائقي آخر جريء بعنوان “البنات دول” 2006 للمخرجة المخضرمة تهاني راشد، جريء لأن مخرجته نجحت في تصوير تلك الفتيات وفي إقناعهن أن يظهرن على الشاشة ويحكين عن حياتهن القاسية والمشينة رغما عنهن في بعض الأحيان، فهو يأخذنا إلى عالم فتيات تعشن في شوارع القاهرة، ذلك العالم المليء بالعنف والقسوة والاغتصاب، والعلاقات الحرة، المليء بالمشاجرات والرقص والمشاحنات والضحك والتضامن الإنساني أيضاً. سواء كن سيدات أو أمهات أو أطفال، ورغم العيوب التي تشوب مضمون الفيلم إذ أنه مجرد رصد للفتيات من خلال نظرة سياحية، تتفرج عليهن من الخارج ولا تربط مشاكل ووضع البنات بالمجتمع وبالأمن والسياسة والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وكأن هذا من فراغ! لكن تبقى القيمة الأهم أنه يطرح تساؤل مُلحّ حول نسب أطفال الشوارع ولماذا لا يتم استخراج شهادة ميلاد لهم، ولماذا لا يصدر قانون ليكتب الطفل باسم الأم!

لبنان وبلدان أخرى 
      في السنوات الأخيرة صارت السينما اللبنانية متقدمة كثيراً في مجال الوثائقي ونجحت في أمرين الأول تجاوز كثير من التابوهات والمحرمات الثلاث وفي مقدمتها ما يتعلق بالموروث الاجتماعي وقضيا المرأة، والأمر الثاني قدرتها على إبداع شكل فني مميز وبالغ الثراء، خصوصاً بقدرة الكثير من مخرجيها على تطوير ذلك الشكل الذي يمكن تسميته بـ “الفيلم العابر للنوعية”. فمثلاً فيلم “يوميات شهرزاد” للمخرجة زينة دكاش، والذي يُتيح الفرصة أمام المتلقي لأن يتعرف على تجربة مجموعة من النساء السجينات، تحكين عن حياتهن وطريقهن إلى السجن وفيه، عن أحاسيسهن داخل السجن، الأحكام العقابية التي نالوها وموعد انتهاء العقوبة وكيف يستعدون للخروج. تارة من خلال الحكي المباشر للكاميرا بضمير الأنا الأكثر حميمية، وتارة أخرى عن طريق التمثيل وما به من إسقاط وتورية. تتنوع حكايات النساء بتنوع جرائمهن بين القتل والسرقة وبين تجارة المخدرات أو تعاطيها. بعضهن حاولت إخفاء ملامحها لكن أخريات أصرت على أن تظهر بوجهها وبكامل شخصيتها أمام الكاميرا من دون وجل أو خوف. وإن كانت بعضهن أكدت على رغبتها في عدم التواصل مع المجتمع الذي ظلمها ويدينها، مثلما تحكي عن المستقبل الضائع.

  إضافة إلى ما سبق، وبشهادة سليم أبو جبل عن أحد الأفلام الجديدة هو “أم غايب” لنادين صليب فقد تجاوزت المخرجة عقبات اجتماعية صعبة بالتصوير داخل عائلة السيدة التي لا تنجب، واستطاعت الدخول إلى تفاصيل حياتها، وهذا بفضل الرابط وبناء الثقة الذي عملت عليه المخرجة. هناك أمثلة عديدة أيضًا مثل فيلم “المجلس” ليحيى العبد الله الذي قام بالتصوير داخل مدرسة متجاوزاً العقبات كونه عمل كمعلم في المدرسة، نجح في تصوير المعلمين والمعلمات والطلاب والطالبات وقدم فيلماً وثائقياً متميز.
   كذلك لا يمكن إغفال ما حقّقته السينما التونسية الوثائقية أو تلك العابرة للنوعية من أفلام تناقش وضعية المرأة اجتماعيا، وسياسيا، وتنتصر لحقوقها، كما يتضح جليا مع أفلام مثل “يا من عاش” للمخرجة هند بن جمعة، أو “شلاط تونس” لكوثر بن هنية. إلى جانب أفلام تونسية أخرى تجاوزت قضية المرأة إلى قضية الحريات في المجتمع، كاشفة الظلم السياسي والحقوقي والمادي الواقع على بعض الفئات الاجتماعية كما ظهر في فيلم “جمل البروطة – الجورت.” وفي اليمن على سبيل المثال يطفو على السطح فيلم “بيت التوت” للمخرجة سارة إسحاق الذي لا يفصل بين حرية المرأة وقضية الحريات الكبرى في بلدها.

آراء المخرجين
     حاولت كاتبة هذه السطور – إلى جانب تحليل بعض الأفلام – تقصِّي آراء المبدعين، واستحضار تجارب البعض منهم، في محاولة لإثراء الدراسة وتوسيع محيط الرؤية، فمثلاً المخرجة المصرية أمل رمسيس تعتقد أنه: “ليس للفيلم التسجيلي قدرة بحد ذاته على تجاوز أي عقبات اجتماعية. المخرج نفسه، وأيا كانت نوعية الأفلام التي يصنعها، سواء روائية، تسجيلية، تحريك …الخ، يجب أن يكون واعياً بشكل كامل بالعقبات الاجتماعية التي تصادفه يومياً في سبيل تحقيق أفكاره. هذه العقبات تكون في بعض الأحيان كالألغام، وهنا يجب أن يكون المخرج قادراً على التعامل معها. بعض المخرجين يفضلون الالتفاف على هذه الألغام والبعض الآخر يفضلون تفجيرها حتى لو كانت ستنفجر في وجوههم، وآخرون يفضلون التعامل معها “بعقلانية” ��تى “يزيلوا فتيلها” إذا صح المجاز. وأياً كانت طريقة تعاملنا كمخرجين مع هذه الألغام يجب على الأقل ألا تكون الرقابة الذاتية هي لغم رقابي آخر نمارسه على أنفسنا. أما فيما يتعلق بالفيلم التسجيلي، فهو في رأيي أكثر تعقيداً لأننا – وإذا استخدمنا نفس المجاز- لا يكون لدينا في حالة الفيلم التسجيلي أي خريطة لهذه الألغام، وبالتالي لابد أن يكون لدى المخرج قدرة أعلى على التعامل معها ومع كل الإشكاليات المجتمعية التي تواجهه باستمرار أثناء عمل أي فيلم تسجيلي.”

    أما المخرج اللبناني هادي زكاك صاحب مرسيدس، وهاني مون 58، وتاكسي بيروت، بيروت وجهات نظر، أصداء شيعية، أصداء سنية، لاجئون مدى الحياة، حرب السلام؛ والذي يعتبر السينما وسيلة للمقاومة، وكأنها علاج نفسي، ومن خلالها يحاول أن يفهم المجتمع، مثلما يُؤكد دوما على التزامه الأخلاقي عند صناعتها، فيقول: “من خلال تجربتي، حاولت أن أفتح مجال للجدلية في المواضيع الحساسة اجتماعيا مثل الطائفية والتعصب وفقدان الذاكرة وموضوع الحرب الأهلية والعلاقة بالدين. لم ألجأ إلى التصادمية، بل إلى الاستماع والبحث والبناء التدريجي سعيا مني لطرح المشاكل المؤلمة عبر أساليب مختلفة تجعلني أشعر أنني قادر على أن أفعل شيئا في المجتمع، لو لم أقدر أن أغيره. وأنا ماضٍ في المشروع رغم كل العقوبات والتأخر لأنها الوسيلة الوحيدة لأستمر في الحياة ومحاربة الحاضر.”

   من زاوية أخرى، يرى سليم أبو جبل المخرج الفلسطيني ابن الجولان السوري المحتل أن “الفيلم الوثائقي يستطيع أن يتجاوز العقبات والبنى الاجتماعية في حال اتفق مخرج العمل مع الشخصيات على هدف أسمى من تصوير فيلم، كالتجنيد لقضيتهم وإبرازها على السطح. ربما تكون تجربتي في فيلم “روشميا” دليل على ذلك، فقد بدأت علاقتي بالشخصيات من خلال دوري كمركّز الحملة الإعلامية ضد هدم البيت، وخلال سنتين توطدت العلاقة بيني وبين الشخصيات وكان التصوير يهدف إلى نشر القصة والضغط على الحكومة والبلدية من خلال تعريف الرأي العام والصحافة بالقضية. لكن القصة أخذت مسارا آخر فيما بعد، وصنعت عنها فيلماً.”

   تتلاقي أفكار بعض المخرجين بشأن النظرة المجتمعية إلى الوثائقي والتي تؤثر سلباً بدورها على إنتاجه وتلقِّيه ورفض بعض فئات المجتمع أن تشارك فيه بسرد مأزقها أو تفاصيل حياتها. فمثلاً المخرج هشام الزعوقي يتحدث عن كون الثقافة الوثائقية جديدة على مجتمعاتنا، وأن ثقافة احترام الفيلم الوثائقي، واحترام صنّاعه, احترام مواضيعه, مشاهدته, كل هذه الأشياء جديدة على مجتمعاتنا في البلدان العربية .ل

كن لحسن الحظ وبجهود عديدة في مختلف البلدان وخاصة الأجيال الشابة الوافدة إلى عالم السينما بدأت ثقافة الفيلم الوثائقي بالانتشار في العشر سنوات الأخيرة، وبدأ مواطن الشارع يشاهد أفلاما وثائقية ينتظرها ويتفاعل معها، ثم يعلّق عليها سواء كان يحبها أو يكرهها.ويتفق مع هشام في شق من رأيه المخرج المصري محمد ممدوح حبشي الذي يرى أن: “وجود أجواء معادية للفيلم الوثائقي في بلادنا نتيجة لنقص الوعي والشيفونية التي تغذيها الأنظمة الاستبدادية، وطرحها لفكرة تشويه السمعة، وغيره من نظرة التخوين لصناع الفيلم الوثائقي مع الوضع في الاعتبار لحظات القلق والصراع مع بلد مثل قطر وكون قناتها من أهم القنوات العربية وربما القناة العربية الوحيدة التي تنتج وثائقيات. لكن تجربتي في فيلم “خلف المرآة” وهو فيلم عن سيدات وبنات تحدين الصورة الذهنية عن عمل المرأة وكأنها كائن مستضعف جعلني أرى أولا أن حكي مثل هذا النوع من الحكايات يخترق ما هو سائد ومهيمن عن النساء في مصر، إلى جانب قدرتهن علي مواجهة الكاميرا وتزويدنا بالحكي هو نوع إضافي من التحدي لما هو سائد ومهيمن فيما يخص الأدوار الاجتماعية.”

   وفيما يخص العقبات التي تواجهه في عمل الوثائقي يشير المخرج التونسي محمود الجومني إلى “أن الفيلم الوثائقي قادر بالمحصلة على تجاوز العقبات المجتمعية لكن بأكثر صعوبة من نظيره الروائي، بالإضافة إلى نوع ثانٍ من العقبات أسميها مادية بشرية علائقية تتصل بالشخصيات التي تعمل معم، فهم ليسوا ممثلين أصلا، ولا يجوز قيادتهم، لأن في ذلك إفساد لمحتوى الفيلم، وحيادا تاما عن رسالة الشريط، ورغم ذلك فالتجاوز لتلك العقبات يحدث متى كان التحضير طويلا ومعمقا، ومتى ردمت الهوة بين المخرج وفريقه من جهة وبين شخصيات الفيلم بل حتى الفضاءات من جهة ثانية.”

    إذن، وبعد كل تلك التجارب والشهادات، ندرك أنه “في كل بقاع الدنيا مازالت هناك بعض البنى الاجتماعية، أو الذهنية، متماسكة بطريقة صماء وأحيانا بشكل غير منطقي. لكن مع ذلك ماتزال تقاوم وتفرض محرماتها وحساسية تناولها رغم كل الادعاءات بحرية الإعلام وديمقراطية الحوارات. فهل يستسلم مخرج الفيلم الوثائقي هنا؟ هل يقبل بالمهادنة والرياء؟” هكذا يتساءل هشام الزعوقي قبل أن يجيب بالنفي القاطع: “لا، فمن المهم والضروري أن يملك صناع السينما الوثائقية شجاعة ولكن أبدا يجب أن يبتعدوا عن موضوع الفضائحية. وأنا مع تناول أي موضوع اجتماعي إنساني سياسي في الأفلام الوثائقية لكن شرط أن يكون هناك احترام للعقل وللمشاهد, والابتعاد عن المتاجرة بقصص وحكايات الناس بهدف الشهرة أو المال. هكذا يُقرّ الزعوقي قبل أن يختتم حديثه قائلاً: كذلك من أخلاقيات العمل الوثائقي حماية مواضيعك وأشخاصها من أنفسهم أيضاً.(2) “
 
 


إعلان