نظرية الجندر: كيف يُصنع الإذعان؟
أمين صوصي علوي

نظرية الجندر (Gender Theory) هكذا كان يُطلق عليها إلى زمن قريب، أما اليوم، فقد كسب لوبي الجندر جزءا من حربه السيميائية بعد أن فرض قسريا استبدال كلمة “نظرية” بكلمة “دراسات”, ليصبح مصطلح “دراسات الجندر” عنوانا دارجا في كل السياقات التطبيقية و النظرية.
يشير الأب الروحي للبروباجاندا المعاصرة, إدوارد بيرنايز (1891-1995) في كتابه الشهير “بروباجاندا” إلى أهمية تغيير الأسماء التي تُشكِّل عائقا أمام كسب إذعان الرأي العام. تلك هي الوصفة التي تبنّتها خلايا التفكير المروِّجة للجندر للوصول إلى تحويل أيديولوجيا الجندر من مجرد نظرية قابلة للنقاش و النقد أو النقض، إلى مُعطى لا يقبل النقاش باعتمادها على مصطلح “دراسات” للإيهام بطبيعته “العلمية المطلقة” دعما لفكرة حرية اإنسان في اختيار ما يطلقون عليه اسم “الهوية الجنسية” وتغييرها بغض النظر عن طبيعته البيولوجية لتبرير اباحة الممارسات الجنسية الشاذة وإلغاء المفهوم التقليدي ل?سرة المكونة من أب وأم حتى تتسّع لقبول “أسر” تتكون من زوجين من نفس الجنس.
الحالة الفرنسية وثائقيا
بعد نجاح اليسار الحاكم في استصدار قانون إباحة زواج الشواذ في 29 ماي 2013 بعد أقل من عام من طرحه في البرلمان تحت شعار “الزواج للجميع” (Mariage pour tous) فوجئ صناع القرار و لوبي الجندر بموجة من المعارضة الشعبية ترفع شعارا مقابلا “المظاهرة للجميع” (Manif pour tous) تبناها تجمع مكون من الجمعيات المناهضة للجندر تكونت من أخصائيين نفسيين وعلماء اجتماع وأكاديميين وجمعيات محافظة وأحزاب سياسية, هذا التجمع الذي تأسّس على إثر طرح مشروع “الزواج للجميع” استطاع رغم ضعف الإمكانيات خلال نفس السنة إقناع شرائح عريضة من الرأي العام الفرنسي بمقاومة المشروع شكلت نواة مظاهرات بدأت ببضعة آلاف وتزايدت لحد المليون مشارك في آخر مظاهرة شكلت أكبر عملية شد حبل بين المعارضين و المؤيدين.
يبدو أن المفاجأة التي طرحت للوبي الجندر لم تكن بسبب وجود جيوب معارضة لدى التيارات المحافظة التي تشكل أساس معارضتها التقليدي، بقدر ما كانت مفاجأة من نوعية الأطراف التي ضمّها تجمع “المظاهرة للجميع” وحجم الحشد الذي استطاعت تجميعه رغم قصر مدة تشكيلها وهزالة إمكانياتها (تبرعات المنخرطين) وافتقارها لمنابر إعلامية مؤثرة وتحامل وسائل الإعلام عليها. في مقابل حملة العلاقات العامة الضخمة التي قادتها خلايا التفكير الجندرية بمساعدة الحكومة بإمكانياتها اللامحدودة و الترسانة الإعلامية المساندة لها.
ظهرت آثار الصدمة في الفيلم الوثائقي “معركة من أجل الجميع” (Un Combat pour tous) من إخراج الصحفي غيوم لوكابلان (Guillaume Lecaplain). يقول المخرج في حديث لمجلة الأخبار الثقافية ” ليزانروك” (Les Inrocks) :
” قلت لنفسي عشنا لحظة تاريخية حيث المثلية الجنسية مدعوة في كل مكان, كنا نعتقد بأننا سنرى الزواج
للجميع فإذا بنا نلطم على وجوهنا بالمظاهرة للجميع “
في هذا التصريح لا يعبر المخرج عن نفسه كصحفي متابع بل كمشارك في المظاهرات الداعمة لقانون “الزواج للجميع” باعتباره أحد الصحفيين الشواذ الناشطين في قضايا الجندر.
حتى الشكل الذي اختاره المخرج للفيلم يؤكد حالة الصدمة, أربعون دقيقة تشعرك بعفوية الإخراج, دون موسيقى تصويرية, أو مشاهد مصورة غير تلك التي خُصِّصت لشهادات متتالية لشواذ وسحاقيات يعبرون عن مفاجأتهم غير السارة بحملة “مظاهرة للجميع” وعن نقمتهم على وسائل الإعلام التي غطت المظاهرات.
هل أخفقت القوة الناعمة ؟
من الصعب الحديث عن إخفاق للبروباجاندا الثقافية الناعمة التي تقودها لوبيات الجندر النافدة وأذرعها الإعلامية بتواطؤ مع غالبية الأحزاب الفرنسية من اليمن و اليسار قياسا بما حققته من إذعان شعبي للمشاريع التي غيرت بشكل تدريجي مفهوم الأسرة و العلاقات التي تربط أفرادها، ودفعت بالمفاهيم التي كانت تُعد من المحرمات لتصبح من “المكتسبات الحقوقية”. لكن يمكننا رصد بؤر ما تزال تقاوم المدّ الجندري. وإن كانت آثارها محدودة فهي بين الفينة و الأخرى قد تؤخِّر بعض المشاريع الجندرية وقد تجبر أخرى على تغيير مساراتها.
لم يتكون تجمع “المظاهرة للجميع” لنقض فكرة إباحة الشذوذ من أساسها، فاعتراض المجتمعين كان فقط على الشطر المتقدم من المطالب القانونية للشواذ, وعلى رأسها حق الزواج و حق التبنِّي التي تعتبر من خصائص الأسرة التقليدية. و رغم قدرة التجمع على حشد جزء من الجماهير لقضيته خسر القضية وتم تطبيق قانون “الزواج للجميع” بشكل قسري في ظل سكوت الأغلبية وترويج الإعلام لإحصائيات غير مستقلة تزعم قبول الرأي العام للمشروع.
إن الطابع التدريجي لحملات بروباجاندا الجندر أكسبتها القدرة على ترسيخ المفاهيم والعبث بها بشكل ناعم، مما يُفقد خصومها القدرة على حسم المعارك لصالحهم. فقد أصبح من الصعب مثلا الاعتراض على مفهوم “مساواة النوع” أو “المساواة الجندرية” (Gender Equality) بعد أن ترسّخ مفهوم المساوات التماثلية بين المرأة و الرجل في مرحلة سابقة, فسهّل الخلط بين المفهومين. وأصبح من السهل إحلال مفهوم النوع (الجندر) الفاقد لهويته الجنسية بدل مفهوم الجنس (ذكر و أنثى) بعد الطفرة التي حدثت للقيم الفرنسية، و تقبل الرأي العام لفلسفة حرية الجنس وانتشار حبوب منع الحمل و الممارسات الشاذة بعد الثورة الجنسية التي قادها سارتر ورفيقته سيمون دوبوفوار في أواخر ستينيات القرن العشرين.
اليوم وبعد تخطِّي مرحلة المطالبة بالمساواة اتضّح أنها كانت مجرد مرحلة أولية للوصول إلى مرحلة التشكيك في مسلمات طبيعية مثل الذكر و الأنثى, عبر طرح تساؤلات نظرية مثل: هل هي مفاهيم بيولوجية أصلية في تكوين الإنسان أم معطى اجتماعي تقليدي يمكن تجاوزه لإباحة التحول الجنسي من ذكر إلى أنثى و العكس. ومن ثمة اقتراح نقض مفهوم الأسرة بشكل كلي بدعوى أنها تعبر عن أدوار نمطية للمرأة والرجل. وقد اجتهدت الحكومات المتعاقبة على إتاحة الوسائل البيداغوجية عبر برامج التعليم و الإعلام و السينما التي تمسّ الأطفال و الراشدين على حدّ سواء لوأد أي مقاومة محتملة في مهدها.
في برامج التعليم.
أدرج الفيلم في هذه المرحلة في البرامج البيداغوجية ليقدم توثيقا منحازا للوقائع, مطبوعا بالنزعة “الحقوقية” عبر التركيز على القصص العاطفية. فيلم “تومبوي” (Tomboy) مثلا أصبح جزءا من برنامج ” المدرسة و السينما” المخصص لتحسيس التلاميذ بالثقافة السينمائية و المدعوم من طرف وزارة الثقافة الفرنسية ووزارة التعليم و المركز الوطني للسينما و الصور المتحركة. أصرت الحكومة على فرض بث الفيلم سنويا في المدارس بحجة أن 79 % من المعلمين الباريسيين يرون الفيلم مهما. رغم المعارضة التي لقيها في صفوف أولياء الطلاب.
يروي الفيلم قصة لور, فتاة لم تتجاوز10 سنوات من عمرها, استقرّت خلال عطلة الصيف بمدينة جديدة رفقة والديها وأختها جان. تشعر في البداية بالعزلة إلى أن تعرفت على الطفلة ليزا لكن مظهر لور الخارجي و شعرها القصير أوهم الصديقة الجديدة بأنها ذكر. لم تحاول لور رفع الالتباس وقدمت لها نفسها باسم ميكائيل. اندمجت لور مع أصدقاء ليزا, شاركتهم في الألعاب, تصرفت كالذكور في كل شيء. و تنعزل حينما ترغب في التبول كي لا يُكتشف أمرها. كما أنها تضع قطعة من العجين في التبان لتوهمهم بأنها ذكر.
تتطور العلاقة بين ميكائيل (لور) وليزا لتصبح علاقة حب وتقوم هذه الأخيرة بتقبيل “ميكائيل”.
مع بداية السنة الدراسية يختفي ميكائيل فتبحث عنه ليزا لكن دون جدوى. فتقرر الذهاب إلى بيته, تدق الباب فتفتح لها الأخت الصغرى جان لتكتشف أن أختها لور تقدم نفسها للأصدقاء باسم ميكائيل. تبدأ قصة البنت المتنكرة تُكتشف تدريجيا خاصة بعد نشوب عراك بين ميكائيل و أحد الأطفال وذهاب والدة الطفل لتشتكي ميكائيل لأمه، فتكتشف الاثنان أن الطفل بنت متنكرة. حينها تصبح لور مجبرة على ارتداء زي الإناث أمام الأصدقاء الذين طالبوا ليزا أن تكشف عن أنوثة صديقها (ميكائيل) أمام الجميع.
بنية هذا الفيلم الذي يبث في الأقسام الابتدائية تخطّت الدور البيداغوجي للمدرسة وحولتها إلى منبر للترويج لنظرية النوع (الجندر) التي تتبنّاها الشركات العابرة للقارات و جماعات الضغط و الأحزاب المتواطئة معها و تحاول فرضها بكل وسائل البروباجاندا مثل تزييف التقارير و توجيه الدراسات لإيهام الرأي العام بأنها حقيقة علمية لا تقبل النقاش. و من أمثلة ذلك التقرير الذي قدّمته الهيئة العامة للاستراتيجية والاستشراف المستقبلي, في 15 يناير 2014 تحت قيادة حكومة الاشتراكية. يعرض التقرير ثلاثون اقتراحا لتغيير ما أطلق عليه الصور النمطية للذكر و الأنثى. هذا التقرير المريب أتى ليدعم برنامجا بيداغوجيا تجريبيا في نفس السياق يطال الأقسام ما قبل التمدرس تحت عنوان: (les ABCD de l’égalité) تم اختباره في 600 قسم داخل 275 مؤسسة, ويقوم على تكريس اعتبار الهوية الجنسية مجرد معطى اجتماعي قابل للنقض ولا دخل للبيولوجيا في تحديده . لكن موجة من الاحتجاج العنيفة التي أثارها تسريب الخبر إلى أولياء أمور التلاميذ دفعت وزيرة التعليم إلى التصريح بأن ما قيل حول البرنامج مجرد “إشاعات مغرضة” لا أساس لها من الصحة. لكنها أجبرت بعد استمرار الاحتجاجات إلى إيقاف البرنامج مرحليا.
في وسائل الإعلام
اعتمدت الجمعية العامة للهيئة العليا للسمعي البصري (CSA) في 25 يونيو و 2 يوليو من نفس السنة 2014 ثلاث دراسات مرجعية حول الصور النمطية للمرأة في برامج الإذاعة و التلفزيون مقدمة الأسباب الآتية:
? دراسة حول الصور النمطية للنساء في المسلسلات الدرامية, بسبب المكانة الخاصة و المتقدمة التي تحتلها في خارطة البرامج للقنوات.
? دراسة حول الصور النمطية للنساء في برامج التسلية, لما توفره من نسب مشاهدات مرتفعة, ولأن الشخصيات التي تساهم فيها يمكنها أن تكتسب بسرعة شهرة واسعة تحولها إلى نماذج تقتدي بها الفئات الصغيرة.
? دراسة حول الصور النمطية للنساء في الرسوم المتحركة, لتوخِّي الحذر من الصور النمطية التي يمكنها أن تتسرب للجمهور الصغير.
هذه الأسباب المعلنة هي ذات الذرائع التي تُستخدم في التضليل لضمان تعاطف الرأي العام مع المشاريع الجندرية في إسقاطاتها التجارية و السياسية. وقد شهد القرن العشرين العديد من تجارب البروباجاندا التي تعمدّت إقحام قضية “تحرير المرأة” (l’émancipation de la femme) لما لها من آثار مباشرة وفعالة في كسب الإذعان. في مجال الإعلانات التجارية مثلا نتذكر قصة تدخين المرأة الأمريكية التي كان وراءها خبير البروباجاندا الشهير بيرنايز.
في الوقت الذي كانت تعصف فيه الأزمة المالية بالشركات الأمريكية (سنة 1929م) قدم ـ بيرناز ـ إنجازا ضخما لصالح شركة السجائر, أميريكان تاباكو (American Tabacco) بتكليف من رئيسها, واشنطن هل. كان الهدف هو الوصول إلى المرأة التي لم تكن تدخن إلى ذلك الحين بسبب استقذار المجتمع الأمريكي لهذا الفعل. انطلقت الحملة للتخلُّص من القيود الاجتماعية التي تفقد شركة السجائر نصف الأرباح. بادر بيرنايز باستشارة عالم النفس أبراهام أردن برل الذي نصحه باستعمال السيجارة كرمز لسلطة الرجل لما لها من إيحاءات ذكورية, ومن ثم اعتبر انتزاعها من طرف المرأة انتزاعا لهذه السلطة.
اختيرت لهذه الحملة استعراضات عيد الفصح التي تقام كل سنة بشوارع نيويورك. أحضر بيرنايز عددا كبيرا من المصورين والصحفيين أمام مجموعة من الشابات اللواتي أخفين السجائر تحت ألبستهن, عند سماع الإشارة أخرجن السجائر في وقت واحد وأشعلنها. في اليوم الذي تلا الحدث أصبحت القضية تشغل الرأي العام ومحورا لنقاشات العامة بعد أن تصدرت صور الفتيات الصفحات الأولى من كبريات الجرائد, وبين عشية وضحاها أصبحت المرأة بإشعالها للسيجارة تنير “مشعلا للحرية” (Torches of freedo).
في حقبة العشرينيات التي قاد فيها بيرنايز حملة بروباجاندا لصالح شركة تبغ أمريكية تحت شعار “تحرير المرأة”، كانت فرنسا قد استصدرت قانونا يجرم استخدام أي نوع من أنواع البروباجاندا للتحريض على تحديد النسل و الإجهاض يعرف بقانون 1920 الذي ألغي في الستينيات بعد استصدار قانون نوفيرت الشهير الذي يبيح للمرأة حرية استعمال حبوب منع الحمل للفصل بين المتعة الجنسية والأمومة، و الذي يعده كثيرون أول شرارة لما يعرف بالثورة الجنسية (ماي 1968) ومقدمة لقانون فاي (1975) الذي يبيح الإجهاض. بعد التخلص من القوانين التي تعوق تقدم نظرية الجندر، تناسلت الأفلام الروائية و الوثائقية التي تقدم رواية تاريخية منحازة لمن غيروا السلوك الجنسي للفرنسيين، أهمها فيلم المخرج سيباستيان غرال الوثائقي: سيد نوفيرت استمر (Monsieur Neuwirth, tenez bon ! • 2008) الذي يروي بأسلوب أقرب للتلقين القصصي (Storytelling) منه إلى التوثيق التأريخي, قصة ملحمية لنجاح النائب البرلماني لوسيان نوفيرت (Lucien Neuwirth) في استصدار قانون إباحة حبوب منع الحمل (28 ديسمبر 1967).
***
* الآراء المُتضمنّة في هذه الدراسة لا تُعبر إلا عن رأي كاتبها.