“الرأسمالية.. قصة حب”.. أزمة 2008 وتوحش البنوك ووال ستريت

 

 

كما اعتدنا في أفلام مايكل مور السابقة مثل “دحرجة الكرات في كولومباين” و”فهرنهايت 11/9″ و”سيكو”، يتناول مور في فيلمه الوثائقي الطويل فيلم “الرأسمالية.. قصة حب” (Capitalism: A Love story) قضية من القضايا التي تشغل الرأي العام بالتحليل والتشريح الدقيق، ويسلط الأضواء على الكثير من الجوانب المجهولة في ثنايا الموضوع، كما يستخدم المعلومات الموثقة والأرقام والشهادات، لدعم رؤيته لموضوع فيلمه.

الأزمة الاقتصادية.. تحذير لصغار السن وضعاف القلوب

موضوع الفيلم هو الأزمة الاقتصادية العالمية التي نتجت عن انهيار البنوك والمؤسسات المالية الضخمة، والتي بدأت تحديدا في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2008، ثم انتشرت تداعياتها في العالم وظلت تؤثر كثيرا على حياة الأفراد شرقا وغربا.

فالأزمة الاقتصادية موضوع يبدو للوهلة الأولى ثقيل الوطأة، فكيف يمكن أن يشاهد المرء فيلما وثائقيا يقع في ساعتين عن موضوع كهذا يشمل عشرات الأشخاص والشهادات والمقابلات المصورة والأرقام والإحصائيات، دون أن يصاب بالملل، وقد يعجز أيضا عن المتابعة والفهم؟!

إن عبقرية مايكل مور كسينمائي من الطراز الأول، تكمن تحديدا في تمكنه من إحداث ثورة حقيقية في علاقة المتفرج في العالم عموما بالفيلم الوثائقي أو “غير الخيالي”.

إنه يستخدم الكوميديا السوداء، والسخرية والتهكم، ويظهر بنفسه في الفيلم بشخصيته المميزة وصورته التي أصبحت “أيقونة” تلخص السخرية والاستهزاء من المؤسسة السائدة، لكي يعلق ويناقش ويحاور ويتساءل ويسخر بل ويتحدى أيضا ويعرض نفسه للطرد.

رجال شرطة يحاولون تحطيم باب مسكن في ديترويت بولاية ميتشغان (2009) لإخلاء أسرة فقيرة منه

لكن مور بالطبع لا يكتفي بالوقوف عند عتبات السخرية والتهكم، بل يمضي أبعد من ذلك كثيرا عندما يحول فيلمه إلى أداة للتنوير والتعليم بل والتثوير والتحريض أيضا؛ تنوير المشاهد بالحقائق الخافية عليه، ودعوته إلى التمرد والمطالبة بالتغيير، وهو بذلك يرد الفيلم الوثائقي إلى أصوله الأولى “الراديكالية” شكلا ومضمونا، ويجعله يختلف في دوره ووظيفته عن الفيلم الروائي.

يفتتح مور الفيلم بتحذير ساخر للمشاهدين مما سيشاهدونه، ليطلب منهم الانصراف عن المشاهدة إذا كانوا من الصغار أو ضعاف القلوب. ثم نرى رجال شرطة يحاولون تحطيم باب مسكن في ديترويت بولاية ميتشغان (9 فبراير/شباط 2009) حيث يقومون بإخلاء أسرة فقيرة من المسكن الذي استولت عليه بعد أن عجزت عن العثور على مسكن إنساني. ويصور كيف تتشبث الأسرة السوداء بالمسكن وينظم أفرادها اعتصاما يجذب الصحافة ويثير تعاطف الرأي العام، ويصور كيف تنسحب الشرطة، وينتصر الفقراء.

الرأسمالية الأمريكية.. نظام يكفل حرية “طرد الناس” و”شن الحروب”

ينتقل مور لمحاورة مدير إحدى وكالات بيع العقارات الذي يدافع عن منطق هذه الوكالات في طرد السكان غير القانونيين أيا كان الأمر، لأنه بهذه الطريقة -كما يرى- تتم حماية ملكيات الشركات والأفراد.

ويستخدم مور لقطات بالأبيض والأسود من بدايات عصر التلفزيون، وهي من أفلام أو شرائط دعائية مباشرة للرأسمالية تصورها كنظام يكفل الحريات الشخصية وتمتع المواطن بحرية الرأي والتعبير، وينتقل بعد ذلك لكي يتحدث عن نفسه أمام الكاميرا كابن مخلص لأسرة من الطبقة الوسطى تمتع في طفولته بالحياة الرغيدة (نشاهد صورا من طفولة مور) ويمزج بين هذه اللقطات ولقطات تصور الازدهار الصناعي والتوسع في بناء المصانع والمدارس والمستشفيات وإنشاء حدائق التسلية للأطفال وكل وسائل الحياة المريحة. ويقول التعليق الصوتي إن أمريكا أصبحت القوة الأولى في العالم صناعيا واقتصاديا، ولم تكن تمانع خلال ذلك من التورط في بعض الحروب وقتل الآخرين، كما ولم ير الأمريكيون تناقضا بين الديمقراطية والاعتداء على شعوب أخرى، كما يقول.

فقدان الحياة في صالح شركات التأمين

وينتقل إلى عهد الرئيس رونالد ريغان، ويحلل علاقة إدارته بـ”وال ستريت”، أي برجال المال والبورصة، وكيف أصبح رئيس إحدى شركات وال ستريت وزيرا للتجارة في عهده، وكيف صعدت الأسواق والمؤشرات المالية وحققت أرباحا طائلة.

ولكنه ينتقل مباشرة إلى انهيار شركة جنرال موتورز الشهيرة لصناعة السيارات في الثمانينيات وإفلاسها، ويحاول كما نرى من خلال مشاهد مأخوذة من فيلمه الأول؛ الدخول بالكاميرا إلى مقر الشركة وكيف يُمنع من ذلك، ويقول إنه ظل ممنوعا لمدة 20 سنة من دخول مقر الشركة، ويعود أخيرا لكي يحاول مجددا مقابلة مدير الشركة، لكنه طرد مرة أخرى.

ويقول لنا إن 250 عاملا في الشركة طردوا منها قبل أعياد ميلاد 2008، وإن هذه كانت بداية الانهيار الكبير. ويصور كيف ظل الرئيس جورج بوش الابن يدافع عن النظام الرأسمالي حتى بعد أن فقد أكثر من 7 ملايين شخص وظائفهم.

مسيح غير المسيح.. يروّج للرأسمالية و”وال ستريت”

وإلى زاوية غير معروفة للمشاهدين ينتقل مايكل مور إلى الطيار الذي نجح أواخر العام الماضي في الهبوط بطائرته على سطح مياه نهر هدسون وتمكن من إنقاذ أكثر من 270 راكبا من موت محقق، ليتحول إلى بطل قومي في أمريكا.

لكن الطيار ليس سعيدا، فقد تحدث أمام الكونغرس كي يكشف ظروف العمل السيئة التي يعمل فيها الطيارون، والرواتب الضعيفة التي يحصلون عليها، واستغلال الشركات لهم وتشغيلهم ساعات طويلة، مما يتناقض مع مبادئ السلامة.

يقول أحد الطيارين إنه اضطر لاقتراض أول 100 دولار، ويشكو طيار آخر من خفض النفقات عاما بعد عام في شركات الطيران وتأثيره على سلامة المسافرين.

ويحقق الفيلم في حادث سقوط طائرة أدى إلى مقتل 50 شخصا بسبب الشروط السيئة للعمل، وكيف استفادت البنوك من هذا الحادث في الحصول على أموال التأمينات. وتروي امرأة كيف أن البنك حصل على مليون ونصف مليون دولار بعد مصرع زوجها.

ممثل يلعب دور المسيح لكنه يجيب على أسئلة الحواريين بعبارات تروج للرأسمالية و”وال ستريت

ويشرح أن هناك نوعا من بوليصات التأمين على الحياة -على العكس مما هو مألوف- “ترحب بموت الأشخاص المؤمّن عليهم”، لأنها تحصل من ورائهم على فوائد مالية ضخمة، إذ إن المؤمن يكون قد وقّع على تنازل عن أي عائد في حالة الوفاة قبل سن معينة خاصة في حوادث تحدث أثناء العمل.
ويتحدث مور أيضا إلى قساوسة ورجال دين عن الرأسمالية ويستطلع آراءهم فيها، ونسمع إدانة واضحة للرأسمالية التي يعتبرها أحدهم “أساس الشر في العالم”.

ويشرح آخر سبب تمسك الناس بالرأسمالية، فيقول إنه يرجع إلى الدور الترويجي الكبير الذي تلعبه وسائل الإعلام، رغم أنها تتناقض مع تعاليم الإنجيل.

ويستخدم مور في فيلمه لقطات خيالية مصورة، يظهر فيها ممثل يلعب دور المسيح لكنه يجيب على أسئلة الحواريين بعبارات تروج للرأسمالية و”وال ستريت”، على سبيل السخرية.

ويصور في مشهد خيالي آخر أسرة على العشاء وكلبا صغيرا يقفز ويظل يكرر القفز إلى أعلى عدة مرات كي يلتهم قطعة جبن صغيرة يقبض عليها كلب آخر كبير بأسنانه، ولكن دون أن يتمكن الكلب الصغير أبدا من انتزاعها!

آلان غرينسبان.. خطط رجال البنوك للاستيلاء على أموال الناس

الفيلم عموما رغم امتلائه بالمعلومات يتميز بالإيقاع السريع المتدفق، وباللغة التحليلية البسيطة التي تتابع في سياق منطقي وتشرح للمشاهد -على طريقة الفيلم الوثائقي التعليمي- كيف كان ممكنا أن يحدث ما حدث، ويشير بأصابع الاتهام إلى المهيمنين على البنوك والاحتكارات المالية الكبيرة والسياسيين في الكونغرس.

ويستخدم مور الموسيقى المعبرة المصاحبة للمشاهد والتي تثير تشويق المشاهد للمتابعة، كما يستخدم لقطات مختارة بعناية من الأرشيف، ويستخدم حركة الكاميرا في انسيابية، وينتقل بين الفصول المختلفة لفيلمه في سلاسة.

طلاب جامعات يرهنون مستقبلهم للبنوك التي منحتهم قروضا لا تنتهي فوائدها

إننا لسنا أمام محاضرة ثقيلة، رغم العناوين والبيانات الكثيرة التي تظهر على الشاشة.

ومن إفلاس جنرال موتورز، إلى الاستيلاء على مئات الآلاف من المنازل لعجز أصحابها عن سداد القروض، إلى الكشف عن تجربة العمال في مصنع للخبز وكيف تمكنوا من إدارة المصنع بمنطق المشاركة في الأسهم والأرباح وكيف أصبح العامل يحصل على 65 ألف دولار سنويا (أكثر من الطيارين المبتدئين كما يقول لنا الفيلم).

ويكشف الفيلم الخطة التي وضعها عدد من كبار رجال البنوك -وعلى رأسهم “آلان غرينسبان” الذي وصف بأنه أهم رجل في أمريكا- للاستيلاء على أكبر قدر من أموال الناس ورهن منازلهم من مؤسسة إلى أخرى وتشجيعهم على إعادة الاقتراض بأرقام كبيرة دون أي ضمانات سوى ثمن العقار نفسه الذي أصبح صفرا بعد اشتراك عشرات الشركات في ملكيته، وكيف حذرت المباحث الفدرالية في 2004 من وقوع تحايلات مالية هائلة أدت إلى إثراء فاحش للبعض، وكيف تجاهلت إدارة الرئيس بوش التحذير.

ولل ستريت.. رشاوى للسياسيين وأعضاء الكونغرس

ويتوقف مور أمام ما يسميه “رشوة” عدد من أعضاء الكونغرس من جانب وال ستريت، عن طريق إشراكهم في العمليات المالية. ويكشف كيف استفاد شخص واحد مثل “لاري سومرز” من هذه التلاعبات، فحقق بمفرده 115 مليون دولار.

كما يتوقف أمام مقاومة الرأي العام الأمريكي لرغبة بوش في دعم البنوك بـ700 مليار دولار من أموال دافعي الضرائب ضحايا البنوك، وكيف ضُغط على الديمقراطيين في الكونغرس إلى أن استجابوا. لكن الفيلم ينتهي بعضو في الكونغرس من الديمقراطيين وهي تحرض الناس بشكل مباشر أمام الكونغرس على عدم التخلي عن منازلهم في أي وقت بعد عجزهم عن سداد القروض، والتصدي للبنوك، وإنزال الهزيمة بهم.

عضو الكونغرس “لاري سومرز” أحد المتهمين بأخذ رشاوى من وال ستريت

ويصور مايكل مور اعتصام عمال أحد المصانع إلى أن ترضخ لهم الإدارة وتدفع لهم رواتبهم المتأخرة بعد أن كانت تطالبهم بتحمل مسؤولية الخسائر التي نتجت عن الأزمة الاقتصادية. ويشير إلى تدخل الرئيس باراك أوباما لدعم قضية هؤلاء العمال التي تحولت من موضوع محلي إلى قضية قومية.

ويكشف الفيلم بسخريته اللاذعة دور الإعلام الأمريكي فيما يسميه “تضليل الرأي العام” وخصوصا شبكة “سي إن إن” التي يواجهها مور بشكل مباشر ويستجوب أبرز مراسليها، ويتهمهم بتضليل الناس فيما يتعلق بموضوع الحرب على العراق، واتهام صدام حسين بامتلاك أسلحة فتاكة.

ويبدو موقف مور السياسي في فيلمه متفائلا كثيرا بقدوم أوباما إلى السلطة في ذلك الوقت، ويقول إنه آن الأوان لأن يقوم أوباما بتفعيل حزمة الحقوق التي أقرها الرئيس الأمريكي الأسبق روزفلت التي يقول إنها “لم تنفذ قط”، وتشمل حق جميع الناس في الحصول على مسكن لائق ووظيفة مناسبة وحياة كريمة.

موقع جريمة.. يمنع الاقتراب

وينتهي الفيلم بمايكل مور نفسه وهو يقوم بلف شريط أصفر من تلك التي تستخدمها الشرطة لإغلاق أماكن وقوع الجرائم مكتوب عليه عبارة “موقع جريمة.. ممنوع الدخول”، ولكن كي يلفه حول مقار الشركات المالية في حي المال وال ستريت بنيويورك، ويدعو إلى نبذ الرأسمالية وأن تُستبدل بها الديمقراطية.

وينتهي واحد من أكثر الأفلام إثارة للفكر والجدل، بل وأكثرها حيوية من حيث اللغة السينمائية واستخدام الوثيقة في سياق جذاب، وبحيث يجعل المتفرج يغادر قاعة العرض طارحا الكثير من التساؤلات على نفسه.

مايكل مور يقوم بلف شريط الجريمة الأصفر حول مقار الشركات المالية في حي المال وال ستريت بنيويورك

إنه ليس دعوة للثورة، لكنه دعوة لإعمال الحق والخير والعدل والتوازن بين البشر، وهي الرسالة الإنسانية التي تجعل هذا الفيلم يتجاوز حدوده الأمريكية إلى كل المشاهدين في العالم الذين يشعرون بوطأة الانهيار الحالي.

وقد عرض الفيلم في إطار أفلام المسابقة الرسمية في مهرجان فينيسيا السينمائي 2009، وهو الفيلم الوثائقي الطويل الوحيد الذي يعرض في المسابقة الرئيسية.