“تحقيق في نهب الدول”.. مغانم تغض طرف المستعمرين الجدد عن لصوص إفريقيا
بعد نضال طويل قادته منظمة “شيربا” الفرنسية لمحاربة الفساد في أفريقيا، انتزعت قبل سنوات قليلة قرارا قضائيا، يُسمح بموجبه للمحاكم الفرنسية بتوجيه تهم الفساد واستغلال المال العام لرؤساء وقادة من القارة الأفريقية، مما يوفر مسوغات قانونية تسمح بإحالتهم إلى القضاء الفرنسي، ليبت في التهم الموجهة إليهم واتخاذ العقوبات في حق المدانين منهم.
كان ذلك الأمر عصيا في السابق لأسباب تتعلق بتشابك مصالح دول وساسة من الطرفين؛ فرنسا وبعض دول القارة الأفريقية، وهذا ما أرادت كشفه الصحفية السينمائية “ماغالي سير” في وثائقيها الاستقصائي “تحقيق في نهب الدول” (Enquête sur un pillage d’Etats)
شيربا.. منظمة تنتصر للشعوب أمام سارقيهم
بدأت “ماغالي سير” العمل على وثائقيها منذ عام 2009، منطلقة من المعطيات المتوفرة لدى منظمة “شيربا” ومؤسسها المحامي “ويليام بوردوه” ثم انتقلت من باريس متسلحة بمعلومات في غاية الأهمية، حصل عليها “بوردوه” وفريق عمله نتيجة لتحرياتهم الخاصة، وذهبت إلى عدة دول أفريقية من بينها الكونغو برازفيل وغينيا الاستوائية.
وهي دول لها صلات قوية بالمصالح الفرنسية، وكانت في الماضي ضمن الدول التابعة لسيطرتها الاستعمارية، ورائحة الفساد فيها تزكم الأنوف، كما هو الحال في الغابون حيث تحكم عائلة الرئيس “علي بونغو” منذ أكثر من أربعين عاما، وتتمتع بكل خيرات البلاد، بينما يعاني شعبها من الفقر والمرض.
بنوك فرنسا.. ملاذ دافئ لأموال أفريقيا المهربة
في العاصمة الغابونية ليبرفيل يبدو قصر الرئاسة المسور والباذخ رمزا لقوة السلطة والمال، وعلى بعد كيلومترات قليلة تبدو بيوت الصفيح رمزا صارخا على بؤس حال الناس في بلد غني بموارده الطبيعية. وخلال انتقالها بين القسمين ومقابلتها الناس العاديين تجمعت لدى المخرجة “ماغالي” أسئلة تتعلق بالعلاقة غير المفهومة بين السلطتين الفرنسية والغابونية.
فالأولى ديمقراطية وشفافة وقادتها معرضون للمحاسبة، على نقيض قادة الغابون الذين يتمتعون بسلطة مطلقة فوق القانون، ومع هذا فحدود فرنسا مفتوحة أمامهم وأمام أموالهم وقت ما يشاؤون.
بل إن البنوك الفرنسية -وفق ما حصل عليه “بوردوه” وفريق منظمته التطوعية- تُناقض قوانينها التي تلزم أي محوّل بتقديم عرض شفاف عن مصدر أمواله، فهي تتستر على حركة تنقل أموالهم، وترحب بالنقود القادمة من هذا البلد إلى بنوكها، ولا يهمها مصدرها. كما تسهل للصوص الغابون عمليات شراء العقارات الفخمة في العاصمة باريس، وتتغاضى عن التلاعبات المكشوفة في استثمار أرباح الأموال المودعة عندها بأسماء غير أسماء أصحابها الأصليين.
وقد أثار هذا الأمر منذ البداية شكوك المحامي “بوردوه” ومنظمته، لكن الشيء اللافت أن الناس في الغابون يعرفون هذه الحقائق، بينما الذي صُدمت هي بها، وباللوم الذي يوجهونه إلى فرنسا وقادتها، باعتبارهم مشاركين في الفساد وفي امتصاص دمائهم.
تواطؤ اللصوص.. شوارع فرنسا الملطخة بأملاك الشعوب
يلاحق الوثائقي مصادر الأموال المحولة إلى البنوك الفرنسية من الغابون، ويتعرف على ملكية عقارات عائلة “بونغو” التي تفوق الخيال في باريس، ثم يعرض أوجه صرف الملايين من الدولارات أثناء إقامة المتنفذين من أفراد العائلة، ويكشف التواطؤ القذر بين المصالح الشخصية ومصالح رأس المال، على حساب قيم تعلن فرنسا التزامها بها منذ ثورتها العظيمة.
إنه تواطؤ يفضح فساد المؤسسة السياسية الفرنسية أكثر من غيرها، ويبين أن الموروث الاستعماري المبني على استغلال الشعوب المُستَعمرة، ما زال حيا في إطار الديمقراطيات المعاصرة، وهذا من أهم ما توصل اليه الوثائقي بشكل مذهل.

“عمر بونغو”.. قصر ابن الرئيس يخبئ كنوزا تفوق الخيال
ما ستقدمه منظمة “تراكفين لمكافحة عمليات غسيل الأموال” بعد قرار المحكمة الفرنسية بالتحري عن مصدر أموال ابن الرئيس “عمر بونغو” وجرد ممتلكاته في باريس؛ يسلط الضوء على حجم الاستثمارات الأفريقية الهائلة وغير الشرعية في فرنسا وبقية دول أوروبا.
ويكفي لإظهار حجم ما يملكه في واحد من قصوره أن رجال الشرطة وموظفي المحكمة بقوا لمدة أسبوع كامل ينقلون محتوياته، وكلها ثمينة بينها لوحات تقدر بالملايين.
لقد قدم الإنتربول للمنظمة الأرقام الرسمية عن حجم ممتلكاته، وكلها من المال العام، ومن ثروات أحقيتها تعود إلى الشعب، لا إلى حفنة من المنتفعين وصلت إلى زمام السلطة بانقلابات عسكرية، وبمباركة غربية انتهازية، وحينها تساءلت المنظمة عن سبب عدم اتخاذ مكتب الادعاء العام الفرنسي من قبلُ هذه الإجراءات ضده وضد بقية القادة اللصوص.
مغانم الأحزاب السياسية.. أثمان الفساد الباهظة في عاصمة المستعمر
يُظهر الوثائقي في مسار بحثه أن الصلات السياسية الاستعمارية هي التي تدفع قادة فرنسا للسكوت على كل فساد قادة أفريقيا سياسيا واقتصاديا، وحالة الرئيس الغابوني “علي بونغو” تعطي مثالا على هذا التناغم في المصالح، إلى جانب قادة آخرين، مثل رئيس غينيا الاستوائية “تيودورو أوبيانغ” ورئيس كونغو برازافيل “ديني ساسو نغيسو”.
وقد تناول الوثائقي جوانب من ممارساتهم وأشكال فسادهم، يمكن أن تشترك مع سلوكيات الرئيس “علي بونغو” في كثير من الوجوه، فلقد أصرت فرنسا وعملت على تدعيم وضعه وجعله رجلا متنفذا في القارة، مقابل ضمانه إعطاء أولوية التنقيب واستثمار النفط لشركات فرنسية، وضمان حصول قادتها بشكل سري على مغانم من عمليات بيع واستثمار الموارد الطبيعية في القارة السوداء.
يأتي بعض تلك المغانم عن طريق شركات لهم فيها حصص معينة أو عبر هدايا ثمينة تصلهم عن طريق وسطاء استطاع الوثائقي مقابلة بعضهم، وحصل منهم على معلومات جعلت وثائقي المخرجة “ماغالي” واحدا من أكثر الوثائقيات إثارة للأسئلة والإشكالات المتعلقة بالقيم الأخلاقية الغربية، من خلال فضحه بمعطيات في غاية الدقة لحجم الأموال التي حصل عليها قادة أحزاب فرنسية من الغابون، لدعم حملاتهم الانتخابية، أو لتسهيل عمل شركاتهم في تلك البقاع التي يعيش الناس فيها بشروط حياتية متدنية، بينما ينعم اللصوص والمتسترون عليهم بأموالها.
وسنعرف من شاهد الوثائقي الأساليب الرهيبة التي يستخدمها المفسدون من قادة أفريقيا، لطمس كل حقيقة تُظهر فسادهم، يقابلها استثمار مدهش للفكر البرغماتي الذي يتمتع به ساسة فرنسا، كي يعززوا من خلاله نفوذهم السياسي والاقتصادي في القارة، فيعود عليهم بالنفع في كل الأحوال، وفي مختلف الأزمان، لأنهم ببساطة يطبقون قوانين المستعمر القديم في علاقتهم بالتابع الجديد.