“سفن الشحن البحري”.. مدن الحديد المرعبة التي تنشر الفساد بصمت في البر والبحر
فيلم “مخيف” (Freightened) هو تحفة وثائقية يضيفها المخرج الفرنسي “دينيس ديليستراك” إلى سجله في حقل “سينما المعلوماتية” وإن كان أكثر النقاد يميلون إلى توصيفه بمخرج “حقوق الإنسان”، انطلاقا من اشتغالاته في حقول كتابة السيناريو والعمل الصحفي، ومساهمته البارزة في عرض جوانب من الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان في فلسطين وأفغانستان وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
ويضيفون إليها فيلميه الوثائقيين “السلام الأمريكي وتسليح الفضاء” (Pax Americana and the Weaponization of Space) و”مغامرة فوق نهر النيل” (Mystery of the Nile).
لكن أفلامه الأخرى مثل “الطبيعة.. ألدورادو جديدة للمال” (Nature, le nouvel eldorado de la finance) و”حروب الرمال” (Sand War) تعبران بشكل أدق عن رؤيته المستقبلية للسينما الوثائقية المعاصرة، الساعية إلى الاقتراب بشجاعة من موضوعات حياتية يومية تراعي طريقةُ شغلها عينَ المشاهد المعاصر، التي ألِفت التقنيات الحديثة وما عادت تتفاعل مع القديم منها.
“حرب الرمال”.. صراع صناعي شرس في أعماق البحار
يصر المخرج “ديليستراك” على ترويض الجانب التقني المبهر لخدمة التفكير العلمي الأكاديمي الصرف، ليعمق به نظرتنا إلى موضوعات شديدة الأهمية في حياتنا، لكن يندر أن نلتفت إليها وسط انشغالاتنا اليومية، كما في فيلمه الرائع “حروب الرمال” (Sand Wars)، ويدور حول علاقة الإنسان بالرمل، وتزايد الطلب عليه لدخوله عنصرا رئيسا في كثير من الصناعات، كصناعة الزجاج وخلطات الإسمنت والحواسيب، وفي بناء هياكل الطائرات، وصناعة الأصباغ، وغيرها.
تفسر تلك الأهمية الكبيرة الإقبال الجنوني عليه من قِبل أصحاب المشاريع الصناعية، مما أدى مع الوقت إلى شُح وجوده على الأرض، فراحوا باندفاع شديد يستخرجونه من أعماق البحار، مهددين البيئة البحرية بالدمار، كما تفعل سفن الشحن البحري.
هكذا إذن يقترح المخرج معاينة سفن الشحن بوثائقي يكرس كل وقته لرصد جوانب تفصيلية من تحركاتها “الصامتة” وسط المحيطات، وما تخلفه من “أوساخ” يصعب تنظيفها، كما يصعب على البشرية اليوم إيقاف نموها، فغدت مشكلة أشد ضررا من السيارات وغيرها من الوسائل التي ابتكرها الإنسان، وصارت بعد حين خطرا عليه وعلى الأرض التي يعيش فوقها.
من أين يأتي قميصك الرخيص؟
من هذا السؤال البسيط يدخل الوثائقي الفرنسي إلى عالم النقل البحري ليمضي بعده رحلته الطويلة على أسطح السفن المبحرة، وفي جوفها المتخم ببضائع أُنتجت في كل جهات الأرض، بانتظار وصولها إلينا بأرخص الأسعار.

وبنفس الأسلوب الإخراجي الذي عمل “ديليستراك” في “حروب الرمال”، يشتغل على فيلمه الجديد، فيعطي مُشاهده كما كبيرا من المعلومات التفصيلية المتلاحقة، بمساعدة الرسومات التوضيحية والبيانات التخطيطية التي يلعب الحاسوب دورا مهما في توصيلها بسهولة، مع ضمان توفر المتعة البصرية، وملاحقة الانتقالات الجغرافية الواسعة من بيئة إلى أخرى.

يضفي ذلك بعدا بانوراميا للمشهد، ويمنحه مصداقية معززة بمقابلات غنية مع علماء ومعنيين مباشرة بموضوع الشحن البحري، يضاف إلى ذلك لمسة أسلوبية “شخصانية”، تمثلت في دخول مُخرجه طرفا فاعلا في سرده الحكائي، فهو يقف أمام الكاميرا صحفيا تارة، وخلفها مخرجا في أغلب الأحيان، يوجه فريق عمله حسب النص المكتوب أمامه على الورق.
بضاعتك البسيطة.. دورة كاملة حول بحار الأرض
أُولى الحقائق المقدمة في مستهل الفيلم أن قرابة 90% من البضائع التي نشتريها اليوم، تأتي من خارج المكان الذي نعيش فيه، وتُنقل لنا عبر سفن شحن تجول البحار بصمت، لا ينتبه إليها أحد، كما ينتبه عادة إلى حركة الطائرات والشاحنات.
أما في محلات البيع، فلا نرى على العلامة التجارية المثبتة على البضاعة المعروضة إلا نصا مختصرا “صنع في …”، وهذا تقريبا كل ما يرد من معلومات عن المنتج الجاهز، إذ لا وجود لمعلومات إضافية عن المسافة التي قطعتها البضاعة من هناك إلى المكان الذي تباع فيه.

لا تشي العلامة التجارية بحقائق المنتج، فيظل المستهلك غافلا عن تفاصيل مهمة، مثل أن أزرار القميص البلاستيكية قد صنعت في أوروبا، وخيوطه نسجت في بنغلاديش، والقماش صُبغ في الهند، أما القطن فقد زُرع في بلد أفريقي.
ويجمع أحد العلماء حركة المواد الداخلة في صناعة القميص الواحد، فتصل إلى ما تزيد مسافته على دورة كاملة حول الكرة الأرضية، قطعتها سفن النقل وسط البحار.
عصر العولمة.. عمليات الشحن الرخيص تصنع الأرباح
يعزو أكثر الاقتصاديين الأسلوب الإنتاجي المتبع اليوم إلى العولمة، وهي تهدف أساسا -بحسب رأيهم- إلى خفض سعر البضاعة، وهذا يفسر سبب توزيع مفردات إنتاجها على مساحات جغرافية واسعة. لكن الوثائقي يُحيل السبب الرئيس إلى رخص عمليات الشحن، فعلى مدار قرون كانت الأيدي العاملة رخيصة في البلدان الفقيرة، أما الحاويات العملاقة، فقد جعلت الأسعار في أدنى مستوياتها.
تصوروا -كما يقول أحد العلماء- أن 60 ألف مدينة تسير في البحر، وعلى متنها ملايين الأطنان من البضائع تلبي حاجة 7 مليارات انسان.

والسؤال هو كيف تُحجب هذه المدن الحديدية العملاقة عن أنظار البشر؟ والمفارقة تكمن في الجواب، وهو أن السفن العملاقة تحتاج إلى موانئ عملاقة تناسب مساحتها، وهذه الموانئ ما عادت تبنى قرب المدن المأهولة، بل في الغالب خارجها، فصار من النادر على الناس رؤيتها.
ولتوضيح المفارقة، يقدم الوثائقي رسومات بيانية تبّين ضخامة السفن، فالكبيرة منها تعادل أربعة ملاعب كرة قدم تقريبا، وفوق سطحها، يمكن تخيل برج إيفل مثبتا، وهذه السفن تصلح لتكون مدرجا لعشر طائرات من نوع “320A”، وفي كل رحلة لها تحمل 18 ألف حاوية، أي ما يقارب نصف مليار كيلوغرام، ولو صُفت بجانب بعضها لشغلت مساحة 120 كيلومترا مربعا حديديا.
لقد خفضت تلك السفن الأسعار، فزاد الإنتاج والربح معه، ولهذا كان لا بد من الحفاظ عليها وعلى سرية ما يترتب على إبحارها.
مدن الشحن.. تهريب المخدرات والأسلحة والتهرب الضريبي
لا يترك فيلم “مخيف” تفصيلا صغيرا في الموضوع دون أن يشبعه بحثا، ليغدو الفيلم كله كنزا معلوماتيا، فقد راح يدقق في طريقة شحن الحاويات ومراقبتها، وسيتضح -من خلال تدخل المخرج بنفسه- وجود تسيب واضح نابع من استحالة تدقيق كل الحاويات، فهذا يتطلب جهدا وقوة عمل تعجز أكبر الموانئ عن توفيرها.

وذلك ما شجع تجار المخدرات على استغلال الثغرات الموجودة فيها، فغدت السفن والحاويات وسائل تهريب رائجة، فنصف المخدرات الداخلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية تأتي عبر الحاويات، وعبرها تشحن الأسلحة لتصل إلى بؤر التوتر، وغيرها الكثير، والغريب أن أصحاب أساطيل سفن الشحن لم يقدَّم أحد منهم ليحاكم أو يحاسب.
سيقود هذا الاستغراب الوثائقي للبحث عن أبرز الأسماء في عالم تجارة النقل البحري، والغريب والمحير أن أغلبيتهم غير معروفين على نطاق واسع، بعكس كبار أصحاب رأس المال في فروع صناعية وتجارية أخرى.
ووسم “علامة فارقة”، لها علاقة مباشرة بإستراتيجيتهم التي يريدون بها إبعاد أنظار العالم عن نشاطاتهم، وخوفا من فتح أعينهم على الخراب الذي تسببه للبيئة، وللتستر على خروقاتهم لقوانين العمل وحماية العمال، إلى جانب تضليل الجهات الرسمية عن أساليب تهربهم الضريبي، من خلال تسجيل شركاتهم خارج بلدانهم الأصلية، ورفعهم أعلاما لدول أجنبية فوق أسطح سفنهم.
“الأعلام المريحة”.. سفن في دول لا سواحل لها
أسلوب “الأعلام المريحة”، هو واحد من أشهر الأساليب المعروفة لتحقيق كل تلك الخروقات، ويكمن جوهر فكرتها في رفع علم دولة ثانية على سطح السفينة الأصلية. فهذه “الخرقة” تعادل عمليا المليارات، لأنها تُجنّب أصحابَ سفن النقل التجاري المحاسبةَ القانونية في بلدانهم، وتسمح لهم عند دخول سفنهم المياه الدولية بالتصرف بحرية تامة، فحينها تكون سفنهم خاضعة لقوانين دولة العلم المرفوع على سطحها.

أما عملية تسجيل سفن الشحن، فتجري عادة خلال يوم واحد عبر شبكة الإنترنت، وغالبا ما تسجل باسم دول معروفة بتوفيرها هذه الخدمة، مثل بنما وجزر مارشال وليبيريا، وحتى دول لا ساحل لها مثل منغوليا.
يدخل الوثائقي معرضا تجاريا للترويج للأعلام المريحة، ويلاحظ المخرجُ بدهشة الأريحيةَ التي يتعامل بها المروجون لبضاعتهم أثناء إقامته، وقلة خوفهم من كشف الغاية الحقيقية منها، وبعد خروجه من المعرض يراجع حسابيا الفائدة المرجوة منها، ويخرج بالتالي: رفع علم دولة ثانية على السفينة يخفض حوالي 65% من تكلفة النقل، ويسمح لأصحابها باستغلال العمال بأقصى درجة، دون خوف من تدخل النقابات للدفاع عنهم.
واقع الشحن.. وقود رخيص وإضرار بالعمال والبيئة البحرية
يصعَد الوثائقي إلى ظهر سفينة نقل بضائع رومانية، ويلتقي سرا مع عمال على متنها، يعيشون أشهرا في عزلة تامة، حيث يمنع عليهم الاتصال بأهلهم عبر الهاتف أو البريد الإلكتروني، فهم يعملون في ظروف خطيرة، ويموت كثير منهم في حوادث سببها الأساس قلة إجراءات الحماية.

وأكثر العمال في مجال النقل البحري فلبينيون، وأجورهم قليلة، ويمكن التفاهم معهم بالإنجليزية، وأحاديثهم المسجلة سرا يشع منها الحزن والشعور بالغبن والخوف من الموت وسط البحر.
وما هو أكثر من تلك القسوة، هو كيفية تعامل أصحاب السفن العملاقة للطبيعة، فنفاياتها تدمر الأحياء المائية، وترفع مستوى التلوث على سطح الكرة الأرضية، وتفوق نسبة الغازات المنبعثة من محركاتها آلاف المرات مثيلاتها في السيارات، إذ تمثل 2.5% من نسبة التلوث.

والغريب أن محركاتها لا تخضع لتفتيش منتظم كما في الشاحنات، مع أن طريقة صنعها تسمح بتسريب غازات سامة ذات كميات مخيفة، فقد صُنعت بطريقة تسمح لها باستخدام أنواع من الوقود والمحروقات غير البنزين النقي، وبطبيعة الحال يفضل أصحابها -لتخفيض تكلفة النقل- استخدام الوقود الأثقل والأسوأ، مما يسبب كارثة بيئية تضاف إلى ما تسببه قوة موجاتها الصوتية من ضرر على الأحياء البحرية.
تموت سنويا آلاف الحيتان بسبب الخلل الذي تحدثه أصواتها داخل المياه، فتفقد القدرة على تحديد اتجاهاتها، مما يؤدي في حالات كثيرة إلى اقترابها من اليابسة واستحالة رجوعها إلى البحر.
كما أن نسبة الحرارة المنبعثة من هذه السفن تؤدي إلى إذابة الثلوج في المحيطات، وتغيير الظروف البيئية المحيطة بها. وكل هذه التفاصيل يقدمها الوثائقي المعلوماتي الرائع بأفضل وأغنى صورة، مدعومة بمقابلات وحوارات مع علماء مختصين، تجعل المشاهد يمضي معه حتى النهاية.
“دينيس ديليستراك”.. حين يقدم صناع الأفلام حلول الكوكب
على عادته، يحرص المخرج “دينيس ديليستراك” على تقديم مقاربات لحل كل ظاهرة يتناولها، متجاوزا بذلك وظيفة المخرج الوثائقي الناقل إلى المتفاعل. ولتخفيف الأضرار الناتجة عن سفن الشحن البحري الخفية المخِيفة، يسأل العارفين والعاملين في منظمات دولية ذات صلة.
إحدى المقاربات تدعو إلى التوجه نحو الإنسان/ المستهلك نفسه، لأنه قادر أن يفعل، إذا قلل نزعته الاستهلاكية، مما يقلل حاجتنا إلى سفن الشحن.

وفي جانب ثانٍ، يدعو الفيلم إلى تشديد الرقابة على السفن القديمة، وإحالة غير الصالح منها على التقاعد، واستحداث وسائل تقلل انبعاث غازاتها السامة، ويدعو إلى إعادة النظر في نظام الأعلام المريحة، وإخضاعها لقوانين دولية خارج “منظمة الملاحة الدولية”، بسبب اعتماد ميزانيتها على مساهمات الدول المنضوية إليها، وفي هذا مفارقة صارخة، أولا لأنها المنظمة الوحيدة التي تمول خارجيا، من بين كل منظمات الأمم المتحدة. وثانيا لأن أكرم الدول المانحة لها هي الدول الأكثر بيعا للأعلام.
ولتجاوز المفارقة الفاقعة، يقترح الفيلم التوجه إلى الرأي العام والمنظمات التطوعية، لتشرف بنفسها على عمليات المراقبة خارج الأطر البيروقراطية، وإلى زيادة وعي الناس بخطر انتشار سفن النقل البحري العملاقة، وفي هذه الحالة ربما سيكون من المناسب أن يكون فيلم “مخيف” من ضمن موادها التثقيفية.