“الجهاديون”.. الفيلم الذي مُنح صفة (+18)
في الدورة الماضية من مهرجان “كان” السينمائي 2018، وصلت رسائل خاصة إلى عدد كبير من الصحفيين تدعوهم لحضور العرض الخاص في السوق الدولية للفيلم الذي يقام على هامش المهرجان لفيلم “الجهاديون” الذي وصفه صناع الفيلم بأنه “الفيلم الممنوع في فرنسا”.
الفيلم وثائقي مدته 88 دقيقة، اشترك في إخراجه الفرنسي “فرنسوا مارغوليان”، والموريتاني لامين ولد محمد سالم.
وكان هذا الفيلم واجه رفضا منذ عرضه في مهرجان “فيبا” لفنون الصورة الذي يقام في مدينة بياريتز الواقعة في منطقة الباسك الفرنسية على بعد 30 كلم من الحدود الفرنسية مع إسبانيا. وقد مُنع أولا من العرض في فرنسا، لكن وزيرة الثقافة الفرنسية عادت فمنحته تصريحا بالعرض للمشاهدين البالغين فوق 18 عاما، وذلك على غرار التصريح الذي يُمنح عادة للأفلام الإباحية. فما السبب؟
قيادات داعش.. صورة قد تثير التعاطف
اتُهم الفيلم -سواء من قبل المسؤولين أو الكثير من الصحفيين والنقاد الفرنسيين- بأنه يقدم أعضاء جماعات الإرهاب -أي التنظيمات الإسلامية التي تتخذ مواقف متطرفة مثل القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية تحديدا- في صورة إنسانية يمكن أن تثير التعاطف معهم من قبل المشاهدين، وأنه يقدم الكثير من قيادات تلك التنظيمات ويسمح لهم بالحديث بحرية تامة ومن دون أي تدخل من جانب المخرجَين، وهو بذلك يروّج للفكر الإرهابي خاصة وأن الخطاب الذي يردده يمكن أن يبدو مقنعا للكثير من الشباب المسلم ويجعل بالتالي من السهل تجنيده.
هي وجهة نظر لا شك في أنها سطحية انطباعية لا تتأنى في النظر إلى العمل من داخله، فقد شاهدتُ الفيلم ووجدت أن لمخرجه الفرنسي ومساعده الموريتاني منطقا خاصا، هو ضرورة إطلاع الجمهور على المعتقدات الفكرية والنظرية التي يستند الجهاديون عليها في حملتهم المستمرة داخل الأراضي الفرنسية وخارجها، وذلك بعد أن أصبح الموضوع قضية من قضايا الرأي العام التي تهم المواطنين جميعا داخل فرنسا، وهو الجمهور الذي يتوجه إليه الفيلم بالدرجة الأساسية.
وفي الوقت نفسه يرى المخرجان أنه من الضروري أن يشاهد الجمهور كيف تسير الحياة داخل المناطق التي يسطر عليها الجهاديون في أفريقيا والشرق الأوسط.

الجهاد الإسلامي.. فكر يجهله الأوروبيون
يتضمن الفيلم عددا كبيرا من المقابلات المصورة مع عناصر جهادية، وكذلك مع عدد من السكان المحليين في مناطق يسيطر عليها “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” و”تنظيم الدولة الإسلامية” والمنظمات التابعة لهما في موريتانيا وشمال مالي، أو التابعين والموالين لهما داخل تونس وليبيا والعراق.
الواضح أن هذه المقابلات التي تترك الفرصة للمتحدث كي يعبر عن رؤيته لمفهوم “الجهاد الإسلامي” كما يراه من دون أي مقاطعة قصد منها إطلاع المشاهد على هذا الفكر الذي يجهله، فالأوروبيون يتحدثون طوال الوقت عن الإرهاب والإرهابيين من دون أي محاولة لفهم الأساس النظري الذي يستندون إليه، وبالتالي التوصل إلى صيغة ما للتعامل معه من جذوره وليس عبر الحل الأمني والعنف المضاد فقط.
هذا هو الهدف المعلن للمخرج مارغوليان الذي يظهر بنفسه في الفيلم مرات عدة بين فصوله المختلفة، يقطع السرد وتعاقب الصور كي يروي ويشرح ويؤكد هذه الفكرة، كما يوضح كيف أمكن تصوير هذه المقابلات في تلك المناطق الخطرة، وحجم المخاطر العديدة التي تعرضوا لها، ومن ضمنها محاولة غير موفقة نشاهدها بأسلوب مدرسة “سينما الحقيقة” بشكل مباشر عندما يحاول المخرج ومعه المصور الحديث مع بعض عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في أراضي مالي وهم يركبون سيارة عسكرية مصفحة، فيرفض هؤلاء ويتشككون في نوايا هذين الغربيين، ويكادون يفتكون بهما ويدفعونهما للهرب والنجاة بنفسيهما.
حصل مساعد المخرج ولد محمد سالم على لقطات ومقابلات نادرة من داخل مالي، منها مقابلة طويلة مع عمر ولد حماحة الذي انضم أولا إلى جماعة “الدعوة والتبليغ”، لينتقل بعد ذلك إلى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي و”كتيبة الملثمين” ثم تنظيم “أنصار الشريعة”، وهو المسؤول عن خطف الدبلوماسيين الجزائريين ودبلوماسي كندي وطلب فدية مقابل إطلاق سراحهم، كما يعترف بدوره في شمال مالي ويهدد باستباحة مناطق الصحراء الأفريقية وإخضاعها، مستندا على فتاوى كثيرة وتفسيرات متطرفة. وقيل إن ولد حماحة -وهو غالبا موريتاني- لقي مصرعه عام 2015.

تمبكتو.. الحياة في ظلال الجهاديين
في مشاهد شديدة الجرأة تتجول الكاميرا في مدينة تمبكتو في مالي (من عام 2012)، لنرى مظاهر العيش تحت حكم الجهاديين تتقاطع مع مقاطع من الأفلام الوثائقية الدعائية التي يبثها تنظيم الدولة على شبكة الإنترنت، ثم نرى أحد قيادات التنظيم وهو يتحدث عن تأييده وتبريره لهجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، وقيادي آخر يتحدث بالتفصيل عن تطبيق الشريعة وأنهم يمارسون قطع يد السارق. في حديثه عن حد السرقة يقول إنهم في البداية يحذرونه، ثم يبترون يده لو تكررت السرقة كي يكون عبرة لغيره.
ويتحدث كذلك عن وضعية المرأة في دولتهم، وكيف أنه لا تجوز شهادتها أمام القضاء وأنها يجب أن ترتدي النقاب، ويقودنا هذا المشهد إلى مشهد آخر في فيلم “تمبكتو” للمخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو الذي أثار في وقته أيضا ضجة مماثلة عندما نرى أحد عناصر القاعدة يحاول إرغام امرأة على ارتداء الزي الإسلامي لكنها ترفض وتحتج، وعندما نراهم وهم يقمعون الشباب الذي يلعب الكرة أو يستمع للموسيقى بدعوى أنها من المحرمات لأنها تحرف الإنسان عن ممارسة أمور دينه، وهو حديث يتكرر هنا أيضا في فيلم “الجهاديون”.
غالبية المقابلات المصورة في الفيلم يتحدث فيها أطراف التنظيمات الإسلامية باللغة العربية، باستثناء عدد قليل ممن يتحدثون بالفرنسية أو يخلطون بين الفرنسية والعربية. ويبدو الجهاديون في الفيلم مرحبين بالحديث أمام الكاميرا ويظهرون وجها باسما وثقة كبيرة في الحديث.
وكان المخرج الفرنسي قد وضع في النسخة الأولى من الفيلم لقطة أخذت من أعلى بناية من بنايات باريس تظهر قتل الشرطي الفرنسي أثناء هجوم مجموعة مسلحة تابعة لتنظيم الدولة على مقر صحيفة “تشارلي إبدو” في يناير 2016، لكنه استبعد اللقطة بناء على طلب عائلة الشرطي القتيل.

الجهاديون.. ترويج أم توعية؟
فيلم “الجهاديون” سريع الإيقاع، مصنوع بدقة شديدة ومراعاة للجوانب المختلفة للموضوع. وحين يترك مساحة جيدة للمتحدثين فهذا لا يعني أنه يروج للإرهاب ولا يقدم صورة إنسانية محسّنة عنه للعالم، لكنه يرسم صورة واقعية مباشرة لما يوجد على مستوى النظرية في فكر التنظيمات الإسلامية المتشددة، وما يحدث على أرض الواقع عند التطبيق.
وهو يأتي ضمن سلسلة من الأفلام الفرنسية التي ظهرت عن موضوع الإرهاب على مستوى السينما الروائية مثل “التفكك” (2012) للمخرج فيليب فوكون، وفيه يرصد الجذور الاجتماعية والاقتصادية التي يعيش فيها أبناء الأقليات المسلمة في فرنسا والتي تساهم في توسيع الهوة بينهم وباقي شرائح المجتمع الفرنسي، وقد تدفع البعض منهم للانضمام إلى جماعات الإرهاب.
وهناك أيضا فيلم “صنع في فرنسا” (2014) للمخرج الفرنسي من أصول مغاربية نيكولاس بوخريف، ويصور كيف يخترق صحفي فرنسي خلية جهادية في باريس ويرتبط بصداقة مع ثلاثة من الشباب هم عربي من المغرب وأفريقي وفرنسي يجمعهم التردد على المسجد الذي يؤمه أحد الجهاديين، ويتجهون نحو شق طريق ممارسة الإرهاب؛ كل لأسباب تتعلق بماضيه وتاريخه ووضعه الهامشي المنبوذ في المجتمع.