الغش القاتل.. أدوية على قارعة الطريق
في شوارع العاصمة التايلندية بانكوك يروج الباعة الجائلون وأصحاب الأكشاك لكثير من البضائع المقلدة، يكون معظمها مطابقا تماما لماركات عالمية ذائعة الصيت.
يناقش هذا الفيلم الذي أنتجته الجزيرة بعنوان “الغش القاتل” ضمن سلسلة “عالم الجزيرة”؛ ظاهرة الأدوية المغشوشة، ويظهر أن سوق الأدوية المزورة تشمل أدوية معروفة لا يجب تعاطيها إلا بوصفة طبية.
هذه التجارة غير المشروعة، وصفتها منظمة الصحة العالمية بأنها “أزمة صحية عالمية”، تشرف عليها مجموعات صناعية متعددة الجنسيات، تقوم بإنتاج عقاقير مزورة، مثل أدوية ضغط الدم وأدوية الإيدز والأمصال والسرطان.
ويتعرض أكثر الناس في الدول النامية في آسيا لاستغلال أصحاب هذه التجارة، فمعظم الناس هناك ليس بمقدورهم شراء الأدوية الأصلية التي تحمل أسماء الشركات الكبرى.
فياغرا بثلث الثمن.. أدوية لا تحتاج لوصفة
ترافق الكاميرا معد الفيلم الصحفي “تروفر بورمان” في شوارع بانكوك، حيث عثر على ما يبحث عنه.
يسأل بورمان أحد الباعة: هل هذا منوم؟
يجيب: أجل، إنه زانكس.
خلال عملية البيع يحاول البائعون إقناع الزبائن بادعائهم أن ما يبيعونه من الأدوية أصلي، لكن في الحقيقة قد يؤدي تناولها أو الإفراط فيها إلى موت محقق.
أغلب المشترين من السياح الأجانب، وكثير منهم يأتون لشراء عقار آخر هو قصة نجاح بحد ذاته لصناعة الدواء، إنها “الفياغرا” التي تم تطويرها للتغلب على الضعف الجنسي، ومبيعاتها تتعدى ملياري دولار.
يسأل “بورمان” البائع: هل هي أصلية؟
البائع: نعم إنها كذلك ولا حاجة لوصفة طبيبة.
من بائع على قارعة الطريق اشترى “بورمان” فياغرا بثلث ثمنها الأصلي، وذهب بما اشتراه إلى “مارك روبنسون” الذي أمضى ثلاثة عقود في دائرة الأمن الأميركية، ويتعامل مع قضايا المخدرات وانتحال حقوق الملكية الفكرية، ويعمل الآن ضابطا لمكافحة الغش في شركة “فايزر” التي تعد واحدة من أكبر شركات الأدوية في العالم.
تبذل الشركة جهدا كبيرا للدفاع عن منتجاتها الدوائية، وليس هناك دواء تحرص على حمايته أكثر من عقار الفياغرا الذي يحقق أكبر مبيعات لها.
بين الصانع والمزور.. من المسؤول؟
يسأل الصحفي “بورمان” المحقق “مارك روبنسون”: هل هذه فياغرا حقيقية؟
يجيب روبنسون: لا، ولا تشبهها حتى، هذه بالتأكيد مزورة، انظر إلى الصندوق، ألقِ نظرة على كلمة فياغرا مكتوبة بلون أخضر داكن، بينما يجب أن تكون بلون أزرق فاتح. نحن لا نضع هذه الصورة على العلبة الحقيقية، هم لا يأبهون لما داخل حبة الدواء، كل ما يهتمون به هو أن يكون شكل الحبة جيدا ومقنعا، لكنها قد تشكل خطورة كبيرة.
يقول “روبنسون”: عندما تشتري دواء مزيفا لا تدري ما الذي يحتويه، قد تكون المحتويات الدوائية فعالة، وقد تكون زائدة أو قليلة أو قد لا تحتوي على تلك المكونات، ومن الممكن احتوائها على معادن ثقيلة أو مواد سامة قد تسبب أضرارا خطيرة للمريض.
في المقابل، تقول الباحثة “كانيكار واتشاكول” من جامعة تشولا ونغكورن إن هَم شركات الأدوية هو الربح، بينما يتوجب عليهم جعل أسعار الأدوية في متناول الجميع.
وتتابع أن شركات الدواء الكبرى مثل شركة “فايزر” تنفق أموالا طائلة على التسويق، وعلى إقناع الأطباء على وصف أدويتهم للمرضى، لكنهم لو أنهم أنفقوا تلك الأموال على البحوث وتطوير عقاقير جديدة لمكنهم ذلك من بيعها لقطاعات أعرض من المرضى.
مخبر سري في منتجع التزوير
ننتقل إلى شاطئ منتجع بتايا الذي يبعد ثلاث ساعات بالسيارة للجنوب من بانكوك، لنرافق عملية للأمن ضد الأدوية المزيفة، ويبدو الأجانب هنا من شريحة عمرية كبيرة، والآلاف منهم يقيمون هنا بصفة دائمة.
ثمة شيء آخر يمكن ملاحظته، وهو الصيدليات المنتشرة في كل مكان.
مدينة المنتجع هي منطقة مزدهرة لصناعة الحبوب المزيفة، وهنا لا تباع فقط في الطرقات وإنما بالصيدليات، فالمضادات الحيوية تباع دون الحاجة لوصفة طبية.
انتقل “روبنسون” وفريقه الأمني التابع لشركة “فايزر” إلى المنتجع، لقد عينوا مُخبرا سريا لا يمكن الكشف عن هويته للبحث عن أقراص الفياغرا المزيفة في الصيدليات المحلية، وقد تكللت مهمته بالنجاح، وتعرف الفريق على ثلاث صيدليات تبيع أدوية مزيفة.
ملايين في حماية الملكية الفكرية
يحمل “روبنسون” علبة من الدواء ويقول: بالتأكيد هذا مزيف، بهذا الشعار وهذه الألوان تستثمر الشركات الكبيرة مثل “فايزر” عشرات الملايين من الدولارات في تطوير العقارات الجديدة، وملايين أخرى للدفاع عن أرباحها وحقوق الملكية الفكرية وبراءة الاختراع. نحن الآن أمام تحدّ لمعرفة مدى جديتهم في حماية أهم منتجاتهم تحقيقا للربح.
يقول “روبنسون”: لدينا أدلة كافية لتقديمها للشرطة ضد الصيدليات.
دهم الشرطة
وصلت قوة الشرطة المحلية من مدينة تشومبري المجاورة لدهم الصيدلية، ووضعت خطة للعملية. ينزل الشرطي على بُعد شارع من مكان الصيدلية وهي مسافة آمنة، ويسير مشيا على الأقدام.
كان لدى الفريق معلومات استخباراتية، عن كيفية حصول الصيدليات على هذه الأدوية المغشوشة، فهي تأتي في حقائب سفر ضخمة من الهند وباكستان.
قبل العملية يقوم “روبنسون” بآخر زيارة سرية للصيدلية المستهدفة، ويطلب شراء الفياغرا حتى يتأكد من أن الصيدلية لم تتلق تحذيرات، وبعد أن يحصل على الفياغرا تقوم الشرطة بالدهم.
تقوم الموظفة بإبلاغ صاحب الصيدلية، وتزعم أنها لا تعرف مصدر الأدوية التي تبيعها، وأن المدير مسافر ولا يرد على هاتفه، ولكن إن أظهرت التحقيقات تورط مساعدة الصيدلي، فإنها ستدفع غرامة قدرها 150 دولارا أميركي.
استغلال موارد الشرطة.. نفوذ شركات الأدوية
أراد معد الفيلم “ترفور بورمان” معرفة ما يفكر به مدير الشرطة، فسأله: هل تعتقد أن هذه العملية استغلال جيد للموارد البشرية؟
يجيب العقيد “غريتاتانكرات”، إنه مضطر للتعامل مع الشكوى التي ترد إليه من الجمهور بغض النظر إن كانت لشخص عادي أو أحد أهم شركات الأدوية، لابد من التعاون.
كانت المداهمة نموذجا للتدخل الخارجي في مهمات الشرطة، وهذا ما يفسر اعتقاد البعض في تايلاند بأن شركات الأدوية الكبرى تتمتع بنفوذ قوي.
تقول الباحثة “كانيكار واتشاكول” من جامعة تشولا ونغكورن: أعتقد أن هذا استغلال للمخصصات المالية المحدودة، فالشرطة تستخدم في مثل هذه المداهمات الموازنة المخصصة أساسا لحماية الشعب التايلندي، ولا يجب أن تستخدم لحماية الملكية الخاصة.
الفلبين.. معقل الغش
إكمالا للتحقيقات، سافر “ترفور بورمان” إلى عشوائيات العاصمة الفلبينية مانيلا، وهي منطقة يروج فيها لتجارة السلع المزورة. هنا تقوم “ليونيلا أوكامبو” من اتحاد الصيادلة الفلبيني بجولات تفقدية تدعو بها الصيدليات لتوخي الحذر من بائعي الجملة المحتالين.
يسألها “بورمان”: ما هي خطورة تناول مضاد حيوي بدون وصفة طبية؟
تجيب “ليونيلا”: هذا يشكل خطرا جسيما ويؤدي إلى نمو مقاومة داخل أجسامنا.
على بعد مسافة بسيطة يقوم “بورمان” بشراء أدوية داخل الزقاق، ليس هناك حاجة لإخفاء الكاميرا فكل شيء بالعلن. هذا متجر يبيع الأطعمة المعلبة والحلوى، كما يبيع المضادات الحيوية، لقد أشترى “أموكسيسيلين” وهو مضاد حيوي أساسه “البنسلين” بعشرين سنتا أميركيا.
تقول “ليونيلا”: يحاول الناس تدبير المال لشراء ما يحتاجونه، ولكنهم يقومون بشراء خيارات خاطئة لا تنفع كما أنها دون المعايير، فهي مزيفة ولكنهم يجهلون ذلك، وهذا مؤسف حقا.
بديل رخيص.. ثمنه حياتك!
“استريلا الفارو” نموذج لضحايا الأدوية المزيفة، فهي طريحة الفراش منذ 12 عاما نتيجة حادث سيارة سبب لها شللا رباعيا في أطرافها. تتناول “استريلا” أدوية بسبب تعرضها لانقباضات مؤلمة، لكن الدواء غالي الثمن، لذا لجأت إلى تغييره قبل فترة قصيرة وشراء دواء رخيص من علامة غير معروفة، فتدهورت حالتها الصحية، وبعد أسبوع قرر ابنها إعادة الدواء المكلف، وتحسنت حالتها على الفور.
يقول ابنها “شرون”: كنا نعتقد أنه يتضمن نفس المكونات لكننا نشك الآن بأنه مغشوش.
قام “شرون” بتقديم شكوى لدائرة الغذاء والدواء في الفلبين، التي تتولى متابعة الأقراص الجديدة التي تظهر باستمرار وبشكل مفاجئ بالسوق، وقد أبلغه الموظف أنه سيفتح تحقيقا، وسيجمعون أكبر عدد من هذه الأقراص لأنها قد تكون مزيفة، وقد تكون تعرضت لبعض الظروف غير الملائمة، كتعرضها لأشعة الشمس لفترة طويلة.
“مانيلا” مدينة صاخبة تتسم بوجود فجوة كبيرة بين الأغنياء والفقراء، وتجني الفلبين مليارات الدولارات من كونها عاصمة مراكز الاتصال الهاتفية بالعالم، وهي مركز للنشاطات التجارية الخارجية بفضل العمالة الشابة التي تجيد اللغة الإنجليزية، وتتميز بكافة المجالات بدءا من الدعم الفني إلى خدمات العملاء.
وعلى الجانب المظلم، هناك المواقع الإلكترونية التي تساعد على جعلها مركزا عالميا لتجارة الأدوية المزيفة، وهم يقولون إنها على نفس القدر من الجودة وتؤدي الغرض نفسه.
مواقع تبيع الوهم.. الجريمة الإلكترونية
في مكتبه في مانيلا يقوم المحقق الأسترالي الخاص “كين غامبل” بتتبع مسارات الأدوية المزورة، فهو متخصص بتعقب محترفي الغش على الإنترنت وخطوط حصولهم على المال. يقول المحقق إن الكثيرين من أصحاب تلك المواقع الإلكترونية يحاولون إخفاء تسجيلهم.
كما يوضح “غامبل” أن هناك مؤشرات تدل على أن الموقع يبيع أدوية مزيفة منها، ومن تلك المؤشرات أن كافة أسماء المنتجات التجارية المعروضة هي من إنتاج شركات مشهورة، لكن هذه الشركات لا تبيع منتجاتها بهذا الأسلوب.
هناك الآلاف مما يسمى بصيدليات الإنترنت ومعظمها غير قانوني، وتدار عبر مراكز اتصال في الفلبين وعندما يشتري بعضهم أدوية عبر تلك المواقع يعتقد أنه يشتريها من صيدلية أميركية أو كندية. تقوم هذه المواقع بالتعامل مع الطلب وإنهاء إجراء البطاقة الائتمانية، ويتأكدون من طلبية العميل ثم تحضيرها على أكمل وجه.
لا يرى العاملون في المواقع الوسيطة الأدوية التي يبيعونها، فهي عادة ما تشحن مباشرة للعميل من مصانع في دول أخرى، وهم لا يدركون أن ما يقومون به بأنه غير قانوني.
يقول “غامبل”: يمضي تتبع سير خط المال من هونغ كونغ إلى العديد من الدول الأخرى، حيث توجد الحسابات المصرفية لأصحاب تلك الأعمال، لذا فمن النادر أن تدخل الأموال إلى الفلبين، وعادة ما ينتهي بها المطاف في حساب مصرفي خارجي في دول أخرى.
عصابات خلف الشاشة.. تجارة بالملايين
تعرف “غامبل” وفريقه على موقع اتصالات غير قانوني، والتحدي التالي هو تتبعها والوصول إلى العنوان الفعلي، وقد تم تسليم المعلومات إلى الشرطة.
يقول “غامبل”: نحتاج أن يكون هذا الموضوع هدفنا الأول، وبمجرد تحديد الهوية لهؤلاء يمكن عمل سيرة بيانات خاصة بهم، وبعدها نحدد حجم عملياتهم ومسارات البيع والتوزيع وعدد المواقع الإلكترونية المرتبطة بنشر نشاطاتهم.
وبفضل مناشدة المحققين الخاصين من أمثال “غامبل” وضغط شركات الأدوية الكبرى من عدة الجنسيات؛ انتفضت الشرطة في الفلبين لاتخاذ الإجراءات، وأعدّوا غرفة عمليات لمكافحة الجرائم الإلكترونية.
يقوم الضباط بتعقب من يمارسون أعمالا مثل الاستغلال الجنسي للأطفال والمزورين والمروجين للأدوية المزورة ومراكز اتصالهم غير القانوني، ولكن رغم الجهود المبذولة فإن الضابط في شرطة الفلبين “أرنولد غوناكاو” يقول إن الأمر ليس الأهم في أولوياتنا، ونعتمد إلى حد كبير على المعلومات التي تزودنا بها الشركات الأخرى.
كشف “غوناكاو” في واحدة من القضايا عن واحد من أكبر مراكز الاتصالات الهاتفية لبيع الأدوية عبر الإنترنت، حين تم تعقب عملية شراء لحبوب الفياغرا تسببت بموت سائح، لتقوم الشرطة بدهم المكان، حيث كان هناك أكثر من 300 موظف يجلسون أمام شاشات الكمبيوتر المزودة بميكروفونات، ويتحدثون للعملاء الذين يشترون الدواء منهم.
في هذه العملية، تعرفت شركات الدواء على أكثر من 500 عقار مزيف، فهؤلاء التجار يحاولون خداع العملاء عن طريق تقليد العبوات والتغليف.
زعزعة الثقة
عصابات إجرامية تتولى إدارة تجارة الصيدليات عبر الإنترنت، والمجرمون يصبحون أكثر ذكاء، فعصابات الجريمة المنظمة تبحث عن ربح سهل ومخاطرة محدودة، وكل الأنشطة التي تمارس عبر الإنترنت لا تنطوي على قدر كبير من المخاطرة.
أدى انتشار الأدوية المزيفة لزعزعة ثقة المستهلكين بالأدوية التي يتناولونها، والأمر يثير الريبة والتوتر وعدم الثقة تجاه السلطات الصحية وشركات إنتاج الأدوية.
يمكن للأدوية التي تحتوي على مقادير قليلة من المواد الفاعلة، أو لا تحتوي على أي منها، أن تعرض المرضى لأمراض خطيرة.
لقد أصبحت شبكات الإنترنت في القرن الواحد والعشرين من أهم عوامل ترويج الجرائم، التي يدفع ثمنها سكان العالم الأشد فقرا والأكثر تضررا.