“النائب”.. عن ديك تشيني صقر المحافظين الجدد وحربه على العراق
ديك تشيني هو أحد رجالات الدولة الأكثر سرية في عصرنا الحديث، إنه خبير خفايا السياسة الأمريكية، والرجل الأقوى الذي حرّض على خلق أدلة كاذبة للقيام بحرب على الإرهاب، مساهما بذلك في فرض نظام عالمي لا تزال نتائجه محسوسة إلى اليوم.
في فيلم “النائب” للمخرج الأمريكي “آدم ماك كي” سيرة لنائب الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، هذا الذي تمكّن من النجاح بلا ضجيج، وفصّلَ المنصب على مقاسه متمتعا هكذا بمسؤولية لم يأخذها أحد من قبل.
إنه فيلم سياسي بامتياز لهذا المخرج الذي قدّم عام 2015 فيلما عن الأزمة الاقتصادية، والذي يلقي من خلاله الضوء على المحيط السياسي اللاخلاقي، والكيفية التي تُتخذ فيها القرارات السياسية للإدارة الأمريكية.
فيلم سيرة ساخر لشخصية ديك تشيني وصعوده الذي كان له تأثيره الكارثي على العالم، يبدأ من عنوان الفيلم الذي يحيل إلى عدة معان، فلا يعني (VICE) فقط “النائب”، وإنما قبل كل شيء “النقيصة” و”الخطيئة”، وهي صفات تنطبق على الشخصية وقرارتها السياسية.
تشيني.. من عربيد إلى نائب الرئيس
يبدأ العمل باستعراض مشاهد من أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، حيث مسؤولون في الإدارة الأمريكية يتابعونها مباشرة على الشاشات. الجميع يبدو قلقا في غرفة العمليات لكن ديك تشيني كان مختلفا، حيث ظهر محتفظا بهدوئه ورباطة جأشه، لقد بدأت فرصته الحقيقية في إثبات وجوده وفرض سيطرته شبه الكاملة على قرارات الإدارة الأمريكية، وبدء سياسته في “الحرب على الإرهاب”.
الفيلم، في تقطيعه لا يعتمد التسلسل التاريخي في السرد، حيث يتنقل باستمرار بين أحداث الماضي والحاضر الذي يغطي فترة مسؤولية تشيني نائبا للرئيس دبليو بوش، أي منذ عام 2001 وحتى 2009.
من 2001 يعود السرد إلى عام 1963 وشباب ديك المبكّر وطرده من الجامعة بسبب عربدته ومشاجراته وإدمانه الخمر، كان سيتابع على هذا المنوال لولا وجود خطيبته “لين” إلى جانبه وتهديدها له بالرحيل، وحثّه على ضرورة الالتفات لمستقبله، لقد كانت تثق في “قدراته”.

لين زوجة تشيني.. صانعة نجاحه
السيناريو الذي كتبه المخرج يركّز في جميع مراحله على الدور المحوري لهذه المرأة التي حددت مصير تشيني منذ البداية، وأخرجته مما هو مرسوم له كصبي عادي من عائلة متوسطة لا شيء يؤهله ليصبح هذا السياسي الميكافيلي، لقد وقفت دائما إلى جانبه ودعمت أفكاره وكانت مقترحاتها باستمرار هنا لترشده وتساعده وتزيد من ثقته.
كانت الرابطة بينهما قوية لا يؤثر فيها شيء، ولين كانت فخورة بوصوله وبشخصيته، وتجد في حسد الآخرين له وخشيتهم منه نجاحا عظيما لهما معا، ويتجلى ذلك في الفيلم خلال حوار بينهما وهما يعبران صفوف الحاضرين في حفل استقبال أوائل الثمانينيات، حيث كانت تهمس له مبتسمة “نصف من هم هنا يحسدوننا والنصف الآخر يخشانا”.
وفي حوار مع مجلة “تلي راما” الفرنسية يقول المخرج إنه وخلال إجرائه للتحقيقات حول طفولة وشباب تشيني وعائلته قال له البعض “إنه مهما كان الرجل الذي ستتزوجه لين، فهو كان سيصبح رئيسا”.
رامسفيلد.. معلم تشيني الأول
تشيني يبدأ رئيسا لمكتب جيرالد فورد، وهناك يلتقي برفيق سابق هو دونالد رامسفيلد الذي علّمه “أصول” العمل السياسي ودعمه منذ البداية لتمتعه بخصال هامة، فهو “صامت مطيع ومخلص”.
يتابع تشيني صعوده باستلام منصب وزير الدفاع في عهد جورج بوش الأب، ثم نائب للرئيس في عهد جورج بوش الابن.
يرسم الفيلم لوحة شديدة السخرية لهذا الأخير، كاشفا خفايا سلوكه ومدى تهوره وعدم إلمامه وقلة خبرته وضعفه، فكأن كل ما يفعله لم يكن إلا “للحصول على إعجاب والده”، ويبدي شخصية تشيني مسيطرة عليه منذ البداية.

نائب الرئيس.. مفهوم جديد مع تشيني
ويهتم الفيلم بدور رجالات القانون في تبرير التعديلات أو إيجاد معان أخرى لها، أي بكل الأدوات التي توفر الشرعية للقرارات، وقد تجلّى هذا في عدة مواقف في الفيلم، ومنها في لقاء تشيني مع بوش الابن، حيث فرض شروطه كي يقبل عرضه بمنصب نائب الرئيس.
تشيني لم يكن يعتبر مهمات نائب الرئيس عملا حقيقيا، وهو أعاد صياغة مفهوم هذا المنصب ليتوافق مع طموحاته، ووضع شروطه على الابن ليحصل على مزيد من الصلاحيات والسلطات إن لم يكن كلها.
لقد تواجد تشيني في كل الأقسام الإدارية، وخلق جهازا إعلاميا ضخما لتبرير الهجوم على العراق للمجتمع الدولي، لكن أيضا للمواطنين الأمريكيين، وكان اللعب على الكلام أحد أسلحته، فمثلا كان شعار سياسته بشأن التعذيب الذي ترتكبه الولايات المتحدة بحق السجناء والأسرى بأنه “إنْ فعلَتْه الولايات المتحدة الأمريكية فهو لا يُعدّ تعذيبا”.
وبالإضافة إلى وضوح ذرائعية تشيني في مواقفه السياسية فإنها تظهر أيضا من خلال تربيته لابنتيه، ففي مشهد يبدو فيه وهو يعلّم ابنته صيد الأسماك، فإنه يرد حين تسأله عن معاناة السمكة عندما تعلق في الطعم “القضية ليست هنا بل هي الآن في تعلم الصيد”.
باول وتشيني والزرقاوي
من المواقف التي أفرد لها السيناريو أهمية خاصة، موقف كولن باول وزير الخارجية الأسبق (2001-2005) من الحرب على العراق، وإشارة الفيلم بوضوح إلى أن مضمون الخطاب قد فُرض عليه خلال نقاشاته مع الإدارة الأمريكية قبل موعد القائه في الأمم المتحدة، والذي أعلن فيه عن وجود أدلة قوية لامتلاك العراق أسلحة دمار شامل. لقد كانت اللحظة “الأكثر إيلاما لباول” كما أورد الفيلم بناء على تصريحات زملاء له.
كذلك ركّز الفيلم على اهتمام تشيني بملف مصعب الزرقاوي الذي حين وصل للعراق كان “صغيرا” ولا وزن له كما قدمه السيناريو، معتبرا أن تشيني قرر “تكبيره” بإعطاء وجوده في العراق أهمية، فما كان من هذا الزرقاوي إلا أن صدّق، على اعتبار أن الولايات المتحدة نفسها قد ذكرته وأعلنت عن تحركاته، فكأن عملياته أتت فيما بعد لتأكيد الصورة التي رُسمت له.
شخصيات الفيلم.. أداء مقنع
الفيلم يدعو إلى إعادة النظر في خلفيات السياسة الأمريكية التي قد تكون معروفة، لكنه يجلب الأدلة على بعض الأحداث، وخلال ذلك يقع أحيانا في فخ المباشرة والتعليمية، إذ لا يكتفي بالإيحاء، بل يشدد على إظهار ما خفي بإلحاح أحيانا، كما فعل في إظهار بوش الابن ضعيفا في كل مواقفه، وفي شرح بعض المواقف والطرق في السيطرة على الناس.
متعة الفيلم ونجاحه الأكبر قائمان على الممثلين وأدائهم المقنع في تجسيد الشخصيات، وأولهم الممثل البريطاني “كريستيان بال” الذي كان مدهشا في دقة تجسيده لدور تشيني على نحو يصعب معه تفريقه عن الشخصية، وذلك لالتصاقة الشديد بها شكلا ومضمونا، وقد منحه دوره هذا جائزة غولدن غلوب.
كذلك سام روكويل الذي قدم دور “الدمية” جوج بوش الابن، والزوجة لين التي جسدتها على نحو لافت آمي آدامز، وستيف كاريل في شخصية دونالد رامسفيلد، كلهم وبقية الممثلين ساهموا في التخفيف من جفاف السيناريو أحيانا، كما أضافت حيوية السرد بتنقله بين المراحل الماضية والحاضرة وكذلك صوت الراوي الذي كان يشرح بعض خبايا الشخصية؛ الكثير للفيلم، وعززت من النغمة الساخرة له.
لا يبدي الفيلم تشيني إنسانا مجردا من العواطف تماما، فهو وإن لم يكترث لدماء الآخرين وقتلاهم، فإنه كان مستعدا للتخلي تماما عن طموحاته السياسية من أجل مصلحة ابنته، لقد اختار في فترة الانسحاب من الحياة السياسية خوفا من استخدام أعدائه لشذوذ ابنته في التهجم عليه، لقد كان يخشى عليها من أي أذى قد يصيبها، وكانت حياته العائلية وابنتاه من المقدسات عنده.
في نهاية الفيلم يستخدم المخرج مقابلة تلفزيونية مع تشيني للتعبير عن خُلاصة أفكاره ودوافعه، ففي رد على الصحفي الذي سأله عن كونه “رجلا سيئا” يشرح تشيني “لم أفعلْ ما فعلتُ لأكون محبوبا، العالم هو هكذا وعلينا التأقلم معه”، ثم يحوّل تشيني نظرته نحو جمهور المشاهدين ويقول “فعلتُ ما طلبتم”.