“سوريا خلفيات الصراع”.. حروب متشابكة في جيوب الثورة السورية

منذ ما يقارب عقدا من الزمان أودى الصراع في سوريا بحياة مئات الآلاف وألقى بحوالي 12 مليون مدني في المنافي، فكيف أوصلت الاحتجاجات السلمية للمطالبة بالإصلاحات السياسية التي أثارتها موجة الربيع العربي عام 2011 إلى أفظع كارثة إنسانية في القرن الـ21؟

بعد القمع الشرس لنظام بشار الأسد يتحول التمرد الشعبي إلى ثورة، ويؤدي تصاعد العنف تدريجيا إلى حرب أهلية عظيمة بدعم من إيران وروسيا، فيرفض الديكتاتور الرضوخ ليس فقط أمام معارضيه، ولكن أيضا أمام سيل التنديدات الغامضة من القوى الأجنبية.

هذا ما يقدمه موجز فيلم “سوريا.. خلفيات الصراع” (2020) للمخرج الألماني البولندي “أندريه كلامت”، وقد عرضته المحطة الثقافية الفرنسية الألمانية “آرتي”. يعيد الفيلم الوثائقي بعض الشيء المأساة السورية إلى واجهة إعلامية غابت عنها منذ القضاء على داعش وما خلفه ذلك من إهمال متجدد لما يحدث هناك.

بعد الاهتمام بثورة سورية مفاجئة ومعارضة ناشئة غرقت سوريا في تيه النسيان الغربي لتعود مجددا بعد بروز داعش، وإنما ذلك لما شكلته داعش من خطر على العالم أجمع. يحاول هذا الفيلم بناء على مراحل تاريخية متسلسلة- كما يفعل درس تاريخ- سرد الصراع من بداياته ساعيا إلى تجنب الخلط وسوء الفهم بالابتعاد ما أمكن عن التعقيد، دون أن يعني هذا عدم إحاطة كاملة بمكونات الصراع.

رحلة النزول إلى الجحيم.. مأساة الشعب السوري

يبدو الوضوح في شرح المأساة السورية وخلفياتها هدف الوثائقي الأول ومركز اهتمامه مدعما بسرد متسلسل زمنيا، وموثقا بالخرائط والصور وبشهادات دبلوماسيين وخبراء وصحفيين ومختصين بالشرق الأوسط من الغربيين والروس، بالإضافة لشهادات سوريين من معتقلين سابقين وقادة معارضين  وضباط منشقين.

كشف المتدخلون عن سلسلة الأسباب التي أدت بالشعب السوري إلى نزوله غير المتناهي إلى الجحيم، وبينوا  جذور الصراع والتأثير المدمر للقوى الأجنبية، وإن كان كثير مما ذكر معروفا لأهل المنطقة بالتحديد، فإن وضع الفيلم لكل حدث في سياقه التاريخي وترتيب الصراع المعقد في عرض منظم كان بالغ الأهمية، لا سيما في الغرب ولهؤلاء الذين لا يجدون تفسيرا لما يجري، أو ربما يجدون له تفسيرا، بل وجها واحدا ووحيدا هو الإرهاب متمثلا بداعش.

يبدأ الفيلم بمقدمة يعرض فيها باختصار ما جرى في سوريا في البدايات معتبرا أنه نادرا ما وثّقت حرب على هذا الشكل، وأنه على الرغم من ذلك تغمض البلدان الغربية عيونها، وحين يقول الفيلم إن الغربيين لم يهتموا حقا بالتدخل في سوريا إلا حين ظهرت “دولة الخلافة”، فهذا ليبين الظلم الذي لحق بالسوريين والمكيالين اللذين كالت بهما الدول الغربية القضية السورية، فهي ركزت على داعش فقط وكأنها القضية الوحيدة، وكأن كل ما جرى للسوريين وما لحقهم من كوارث قبل وأثناء وبعد داعش لم يكن يستحق اهتماما حقيقيا من الغرب.

منظر جوي لمدينة حمص السورية المدمرة خلال فترة الحرب السورية

“الدولة المزروعة”.. سوريا في حضن آل الأسد

قُسّم الفيلم إلى سبعة فصول يمثل كل فصل منها مرحلة في الصراع، واعتمد السرد على صوت خلفي يصاحب التسجيلات والمشاهد، وتتقطعه من حين لآخر مداخلات المحللين.

كان الفصل الأول مع “الدولة المزرعة” وهو عودة سريعة لطبيعة الحكم في سوريا مع تسلم آل الأسد للسلطة والأمل الخائب بالتغيير القادم مع الابن، وقد استعان هنا المخرج بشهادة معتقل سياسي عن معتقلات التعذيب، حيث يصبح الإنسان تسلية بيد السجان، ثم جاءت مداخلات لضباط سابقين منشقين لتشرح المفاجأة بالثورة لدى النظام وطمأنة المخابرات بأن الوضع تحت السيطرة، وما تلا ذلك من معركة غير متكافئة  بين جيش مجهز بالكامل وشعب أعزل استشهد على أثرها 20 ألفا خلال ثلاثة أشهر.

بينت مداخلة برهان غليون -الرئيس الأول للمجلس الوطني السوري- صعوبة جمع المعارضين “الذين لا يجمع شيء بينهم” حينها وفيما بعد، فكل واحد جاء يعزز موقعه وليس لما يجمع وينسق الجهود، وأبرز السرد أن الأسد لم يمد يده مرة للشعب، فالحوار لم يكن واردا، بينماوساد العنف السلطوي وانعدام الأمل بحل سلمي.

من هنا ينطلق الفيلم إلى فصله الثاني فيشرح بتكثيف ووضوح تحول الثورة الشعبية إلى أزمة دولية وحرب بالوكالة بين عدة دول في 2012، مع تركيز على عدم وجود استراتيجية موحدة لدى معارضي الأسد ومسانديهم، مما أدى إلى شرذمة القوى العسكرية وتفتيتها بدلا من توحيدها.

عرج الفيلم أيضا على موقف إسرائيل الذي تلخص في البدء في استحالة معرفة من سيحل مكان الأسد، وبالتالي فإن “عدوا تعرفه أفضل من آخر تجهله” كما أدلى مسؤول إسرائيلي في شهادته.

السفير الأمريكي السابق في سوريا “روبرت فورد” أكد للثوار في حماة بأن الجيش الأمريكي لن يتدخل

“الخط الأحمر”.. قطبا العالم من الصراع إلى الاتفاق

كان الخط الأحمر أكثر الفصول أهمية واستفاضة، وقد بين التحولات التي قلبت كل شيء رأسا على عقب من خط أحمر إلى تعاون روسي أمريكي إلى عدم تدخل وصولا إلى حدوث فوران في ظهور ميليشيات متطرفة.

تميز هذا الفصل بإلقاء الضوء على خفايا الموقفين الروسي والأمريكي، وشرح الخبير الروسي بالشرق الأوسط بوضوح الدوافع الروسية للتدخل، فالأسد بطاقة روسيا الوحيدة من جهة، ومن جهة أخرى ثمة موقف مبدئي لها يحثها على الدفاع عن الشرعية في كل مكان وليس فقط في سوريا، فروسيا تعارض الثورات أينما كان.

وجاءت مداخلة السفير الأمريكي السابق في سوريا “روبرت فورد” لتكشف تأكيده للثوار في حماة من البداية بأن الجيش الأمريكي لن يتدخل، بسبب التجربة العراقية التي لعبت دورا أساسيا في قرار “أوباما”، وفيما بعد لم يتغير الأمر على الرغم من تقارير أمريكية باستخدام السلاح الكيميائي وإعلان “أوباما” عن الخط الأحمر.

هنا جاءت “الدهشة الكبرى” -كما يعبر السفير- من ترك “أوباما” القرار للكونغرس، مع أن “فورد” حذّر الإدارة الأمريكية بأن عدم التدخل سيزيد من تأثير الأجنحة المتطرفة في المعارضة على حساب المعتدلين.

أمر هام آخر أظهره السيناريو في هذا الفصل، وهو التعاون الروسي الأمريكي -للمرة الأولى منذ الحرب الباردة- لنزع السلاح الكيميائي من سوريا، وكذلك ظهور دراسة ألمانية عام 2013  تفيد باستخدام النظام السلاح الكيميائي 40 مرة معظمها في ضواحي دمشق.

صورة لاحتلال داعش الذي سيطر على مدينة الرقة عام 2014

خلافة داعش.. بعض الشر أهون من بعض

أعطى وصول داعش واحتلال الرقة عام 2014 القتال ضد الإرهابيين الأولوية لدى الغرب، بينما ناقشت إيران التدخل الروسي الذي بدونه لم يكونوا لينتصروا. استند هذا التدخل إلى أن المعارضة بضعفها وتشتتها ستسقط أمام الدولة الإسلامية وستصبح دمشق مركز “الخلافة”.

تزايد التأثير الروسي منذ 2015، وسمحت سوريا لروسيا بالعودة للمنطقة، لكن القصف كان أكثر للمعارضة وللمستشفيات والمدارس  والمدنيين بحسب تقارير للأمم المتحدة.

وقد كان هذا الأمر بهدف جعل الصراع قائما فقط بين الأسد أو داعش، فحينها سيختار العالم الأول بالطبع، وهنا يشكك الفيلم في الكيفية التي وصل بها كل هؤلاء المقاتلين لسوريا لا سيما من تركيا، ولكن مستشار أردوغان يتساءل هو الآخر عن الدول الغربية التي سمحت لمواطنيها بالقدوم.

جندي إسرائيلي يقف على الحدود السورية الفلسطينية وأمامه مرتفعات الجولان المحتل

“حروب داخل حرب”.. مسار العلاقة الإيرانية الإسرائيلية

ركز الفصل الرابع من الفيلم على العلاقة بين إيران وإسرائيل  تحت عنوان “حروب داخل حرب”، مبينا قلق إسرائيل، فهي تستطيع إيقاف صواريخ قليلة لحماس، ولكن ماذا لو وصلها 600 صاروخ من لبنان وسوريا؟

كما بين الفيلم أهمية سوريا لإيران من حيث كونها الحليف العربي الوحيد، ولذا كانت مستعدة للتضحية بالكثير من المال والرجال مقابله ومقابل قواعد عسكرية لخمسين سنة وعقود تجارية ضخمة أيضا، كما أن إيران بتدخلها أرادت أن تظهر للعالم الإسلامي رسالة رمزية أنها الوحيدة التي تهاجم إسرائيل.

وهنا يكشف الفيلم صراعا على السلطة في العائلة وتعارضا بين بشار القريب أكثر من روسيا وماهر الحليف لإيران، كما يُظهر التفاهم الروسي الإسرائيلي كي لا تتضرر روسيا من قصف إسرائيل للقواعد الإيرانية في سوريا، وهو ما لم يسبق له مثيل لأن “بوتين يدرك قوة إسرائيل العسكرية، والكرملين يتعامل مع الخصم القوي باحترام” حسب الخبير الروسي.

الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” وحلمه بخلق نظام حليف في سوريا وتقربه من الإسلاميين حسب شهادة لصحفي تركي في الفيلم

“لعبنا لعبة بشعة مع الأكراد”.. كابوس قيام الدولة الكردية

ينتقل الفيلم في فصله الخامس إلى العلاقة بين تركيا والأكراد مع شهادات لصحفي تركي عن حلم “أردوغان” بخلق نظام حليف في سوريا، وعن تقربه من الإسلاميين، ويتطرق إلى الكابوس التركي من قيام دولة كردية في الشمال السوري.

كشف السفير “فورد” في شهادته بأن الأمريكيين لم يعوا تماما أهمية العلاقة بين أكراد سوريا وأكراد تركيا، وبأن “ترامب” حين أدرك المشكلة المعقدة بين الكرد وتركيا لم يرد التدخل وسحب قواته.

ويعترف السفير قائلا: “لعبنا لعبة بشعة مع الأكراد السوريين، واستخدمناهم زمن “أوباما” لرميهم فيما بعد”. وأبرز الفيلم تناقضات الموقف الأمريكي على أرض الواقع، فهم إنما بقوا لحماية النفط الذي يبيعه الكرد لنظام الأسد تحت عيونهم.

حال الشعب السوري الذي أضحى لاجئا خارج بلاده بفعل الحرب الدائرة هناك

“أسد ضد الشعب”.. عادت حليمة إلى عادتها القديمة

جاء الفصل السادس تحت عنوان “أسد ضد الشعب”، وعاد فيه الفيلم إلى المشكلة الحقيقية التي غطى عليها كل ما سبق، وهي قمع معظم الشعب السوري من قبل أسرة وتوابعها، وهنا يُعرّف معتمدا على شهادة السفير “فورد” بالعلويين وبطبيعة الحكم السوري الذي اعتمد على استغلال الخوف لدى الأقليات.

أشار “فورد” إلى مؤسسة مستقلة جمعت براهين جرائم الحرب واستخدام الغاز السام من قبل النظام، وعلّق مختص ألماني قائلا: نعرف الكثير أكثر مما يلزم لإدانة النظام ولكن -يبتسم ويقول بعد صمت- كل هذا لا يهم الرأي العام العالمي.

لم ينس الفيلم المشكلة الإنسانية الكبرى، وهي هؤلاء السوريون الموزعون في أنحاء العالم بسبب صراع كبير لم تشهد مثله البشرية منذ عقود، حيث لا أحد يعرف العدد الحقيقي لهم، وكثيرون أملهم أوروبا التي لا تريدهم.

يستخلص الوثائقي “سوريا.. خلفيات الصراع” -بعد شرح لا يضيّع مشاهده في تفاصيله، وهو ما يجعله من أهم ما عرض عن سوريا على الأقل تاريخيا- بأنه بعد سنوات من الحرب في هذا البلد باتت أوروبا غير مبالية، وأن تخيل عودة الحياة يوما ما صعب جدا، كما أن  من غادر سوريا سيتجنب العودة، وهذا الأمل بعودتهم غير واقعي، وهو أمر على أي حال لا تريده دمشق.


إعلان